د. وسام الدين محمد عبده
هل تذكرون تلك النكتة
عن التلميذ الخائب الذي راح (يغش) من زميله، حتى غش اسم زميله وكتبه على ورقة
الإجابة.
قد تكون هذه القصة،
غير حقيقية، وقد يكون فيها بعض أو كثير من المبالغة؛ لكن نظرة عامة على الإنتاج
الفكري العربي منذ أول القرن العشرين، تبين لنا كيف أن كثير ممن يتم الترويج لهم
كمثقفين لا يزيدون عن تلميذ خائب يغش من تلميذ شاطر، ولكنه يملك من الوقاحة أن يضع
اسمه على عمل الآخر؛ وأنا هنا لا أتحدث عن الاقتباس، ولكن أتحدث عن السرقة الفكرية،
والنقل بطريقة انسخ والصق، وقد استغل أرزقية الثقافة جهل معظم الجمهور العربي
باللغات الأجنبية، خصوصًا لغات مثل الألمانية والبولندية، فاستحلوا ترجمة أعمال
أجنبية و(لطع) اسمه عليها كمؤلفين.
عندك مثلًا أحدهم،
وكان شاعرًا وأديب (على قد حاله)، وخريج السوربون، ولكنه كان سياسيًا محترفًا من
أتباع محمد محمود باشا، أحد أسوء الطغاة الذين حكموا مصر في النصف الأول من القرن
العشرين، وقد عينه هذا وزيرًا؛ كان قد شهد نجاح كتاب ألفه أحد تلامذة السيد رشيد
رضا حول سيرة النبي بطريقة معاصرة، فأراد محاكاة هذا النجاح فنقل كتابي منتجمري
واط (محمد في مكة) و(محمد في المدينة) وقدمها في كتاب عن حياة محمد، صلى الله عليه
وسلم، وأردف الكتاب بقائمة من المصادر العربية التي زعم أنها وقف عليها، بينما لم
يستطع أن يتبين أن حاكم اليمن الفارسي في عصر الرسول كان اسمه باذان، فأثبته في
كتاب (بادهان)، لأن الإنجليز يضعون حرفا (DH) مقابل حرف
(ذ) العربي ... لا يمكن أن ترتكب جريمة دون أن تترك أثرًا. كان الكتاب محشو
بالأخطاء التاريخية والتي نقلها صاحبنا عن المستشرق، وزاد عليها أخطاء سوء فهمه
للنص المسروق، وكان واضح لمن قرأ كتب منتجمري واط أن صاحبنا (حرامي)، ولذلك أُتهم
صاحبنا من الكثير من مثقفي زمانه بالسرقة الأدبية، ولكن الرجل سوف يصبح فيما بعد
وزيرًا للمعارف ووزيرًا للشئون الاجتماعية ورئيسًا لمجلس الشيوخ و ... و ... و ...
وكما قال قائل (الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا والبلد بلدنا) ... فيما بعد، وعندما
أطلقت ماما سوزان برنامجها القراءة الجميع، اختير كتابه من أوائل الكتب التي طبعت
في الموسم الأول للبرنامج باعتباره كتاب كتبه أحد التنويريين يهدف إلى محاربة
الفكر المتطرف.
إليك مثلًا آخر، بطله
هذه المرة تميز منذ بدايته بالذكاء الخارق وأسلوب مميز في الكتابة وبراح في ذمته
أكبر من براح هضبة الأهرام، بدأ حياته صحفيًا وكان من أواخر من لحق بصالون العقاد،
ولكنه قدم نفسه للجمهور بمجرد وفاة العقاد قائمًا على تراث الرجل وخليفته وعرف
بكتابه عن أيامه في صالون العقاد؛ لكن شهرته الحقيقية كانت عندما أقدم على سرقة
أعمال إريك فون دانكين، الكاتب السويسري الذي يكتب بالألمانية المولع بالربط بين
الحضارات القديمة وحضارات ذكية تعيش على كواكب أخرى، فنقل نقلًا حرفيًا كتاب فون
دانكين المسمى عربات الآلهة
Chariots of Gods،
حتى نقل النكات التي كان يرصع بها دانكين نصه، ونقل الصور التي صورها دانكين بنفسه
في الهند وبيرو، وقدم الكتاب للقراء بأنه أول كتاب في اللغة العربية يتناول هؤلاء
الذين هبطوا من الفضاء، واضعًا اسمه على الكتاب مؤلفًا، وفيما بعد سوف (تحلو على
لسانه) السرقات الأدبية، فيسرق كتب أخرى من فون دانكين ومن كولن ويلسون، ولأن
الرجل وجد طريقه دائمًا للنظام، سواء بالزواج من بنت لأحد الضباط الأحرار في عصر
عبد الناصر، أو مستشارًا صحفيًا للسادات خاصة أثناء زيارته للقدس، فلا احد استطاع
في المؤسسة الثقافية الرسمية أن (يشرشح) الأرزقي.
دائمًا كان الأرزقية
من هذا الطراز تجد زبونها من ضمن المراهقين المتعطش للأفكار الغير تقليدية،
ودائمًا كانت هناك مشكلتين، المشكلة الأخلاقية الأولى بأن المراهق سوف يتخذ نصابًا
مثلًا أعلى له، والثانية بأن النصاب غالبًا ما ينقل المادة الفكرية التي يسرقها
بسطحية وبدون فهم لمغزى ما ينقله ومكان هذا المنقول في البيئة الثقافية التي نشأ
فيها، فيحصل المراهق على صورة فكرية مشوهة غالبًا ما تفسد عليه حسه السليم بالحق
والخير والجمال.
هذه الأيام مثلًا،
وفي فوضى الدراسات الدينية، يبرز اثنين من الأرزقية المعاصرين، أحدهما حصل على
الدكتوراه من جامعة حزبية ثم درس فيها؛ ولمن لا يعرف ما معنى جامعة حزبية هي مؤسسة
تابعة لحزب سياسي تقوم بتقديم التثقيف السياسي لكوادر الحزب وكان من تقاليد
الأحزاب الشيوعية أن تمنح مثل هذه المؤسسات الحزبية درجات علمية مثل الدكتوراه
للكوادر المميزين، حتى لو كان هذا الكادر لم ينل الابتدائية؛ أم الثاني فمحسوب على
حزب قومجي كان السبب في دمار دولتين عربيتين وذبح شعبيهما من اجل بعث القومية
العربية؛ المشكلة إن الإثنين تقريبًا عمدا إلى أعمال جوزيف كامبل، مؤلف كتاب البطل
بألف وجه، لينهبها كيفما شاءا، ونزعا أوصال موسوعاته وقدما فصولها كتب مستقلة،
وتنافسا في نهب الرجل واقتسام فكره، قم تقديمه للمراهقين كعصارة فكر الرجلين؛
وكعادة الأرزقية الذين يحترفون السرقة الأدبية، فإن ما يسرقوه لا يقدموه في إطار
مشروعه الفكري الأصلي، ويحاولوا عادة ضرب عصفورين بحجر واحد، فيضيفوا لما سرقوا من
(هبدات) أفكارهم ما يرضي طموحاتهم ورعاتهم الحزبيين أو من في مقامهم، فتكون
النتيجة أن يحصل المراهق على وجبة من القصص المسلية التي نظمت لتنافس ألف ليلة
وليلة في الإثارة، بعد تجريدها من كل ما يثقل على العقل من أنثروبولوجي أو علم
اجتماع أو نظريات فلسفية، فيخرج القارئ المراهق فكريًا سعيدًا بأنه قرأ هذه
الأعمال الفكرية العميقة، وبعد قليل سوف يتحفنا بهبداته الفكرية، فمن نشأ على
الهبد لابد أن يهبد.
واسعد الله أوقاتكم.
0 تعليقات