نصر القفاص
أختلف "ثروت
عكاشة" عن أقرانه من "رجال يوليو" فى الكثير من الصفات.. كان
مستقلا فى رأيه, ويبنى مواقفه على تفكير هادىء.. كان عنيدا يرفض فرض الرأى عليه,
بقدر انضباطه عسكريا والتزامه بتنفيذ الأوامر!! تمكن من أن يفصل بين مواقفه
الشخصية, وغيرها من المواقف الوطنية فى كل المواقع التى شغلها.. البرهان الناصع
على ذلك أن شقيقته كانت زوجة "محمود أبو الفتح" الذى حارب "عبد
الناصر" بضراوة وناصب "ثورة يوليو" العداء بسبب مصالحه الشخصية..
لم يؤثر ذلك على علاقته بالثورة وإيمانه بها, ولا على علاقته مع "عبد
الناصر" الذى كان يحب التفكير معه بصوت عال.. ويقبل اختلافه الصارم, دون أن
يتحول الأمر إلى أزمة أو صدام.. وقد حملت "مذكراتى" وهى عنوان مذكراته
الكثير من الوقائع والتفاصيل التى تؤكد ذلك.
يستحق "ثروت
عكاشة" أن نتوقف أمام اسمه وفعله طويلا.. فقد درس الصحافة مبكرا – قبل الثورة
– وفهم قواعد ممارسة المهنة, لذلك حقق نجاحا كبيرا عندما تولى رئاسة التحرير –
مجلة التحرير – رغم أن عمر تجربته كان شهورا قليلة.. سافر إلى "باريس"
ليعمل ملحقا عسكريا قبل نهاية عام 1953 بأيام.. ذاب هناك بين جنون الفكر, وملائكة
الثقافة لينال درجة الدكتوراه من "جامعة السوربون" وقت أن كان وزيرا فى
تجربته الأولى.. ثم أصبح أحد أعمدة "اليونسكو" فيما بعد.. كل ذلك –
وغيره – يكشف إبداع صاحب القرار حين اختاره وزيرا للثقافة.. كما كان صاحب القرار
صائبا حين أصر على أن يتولى رئاسة مجلس إدارة "البنك الأهلي المصري"
ليحقق نجاحا يتجاوز إمكانيات وقدرات "الصيارفة"!! ويكفى أن نذكر أن فكرة
شهادات الاستثمار تقترن باسمه.. وسيبقى له أنه ربط البنك بالثقافة, فجعل للمال
وظيفة اجتماعية ودور إنساني.. وحين عاد نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للثقافة عام
1966, أستكمل بناء ما بدأه – إلا قليلا – وغادر دون أن يكتمل.. ربما لأن إبعاده
حدث بتعسف وشكل قسرى, حين تم دفعه لتقديم استقالته.. ويشير ذلك إلى أن ضرب الثقافة
خلال سنوات "الجمهورية الثانية" لم يحدث صدفة, وقد كشفت السنوات الطويلة
ذلك بوضوح.. ويتأكد الأمر حين نتابع التعتيم الذى تعرض له اسمه وإنجازاته, مع دفن
مذكراته أملا فى أن يغيب عن الذاكرة الوطنية!!
لا يقل دور
"ثروت عكاشة" عن أدوار الذين أسسوا لنهضة صناعية وزراعية وإعلامية..
إضافة إلى التعليم والصحة والتخطيط والدبلوماسية, خلال سنوات "الجمهورية
الأولى" التى أثمرت عن كم هائل من رجال الدولة حسب ما قال الرئيس الأمريكى –
كيندى – حتى أن الصف الثالث والرابع منهم, حين اختاروا الطريق العكسى فى "زمن
الجمهورية الثانية" كانوا سببا فى طول عمرها!!
صعب أن أختصر سيرة
ومسيرة "ثروت عكاشة" لكننى سأحاول فى حدود ما يسهم بشرح رؤيتى التى
اعتقد فى ضوئها أن "الجمهورية الثالثة" آتية لا ريب فيها!!.. ولنا أن
نعرف عن "ثروت عكاشة" أن بيته كان آخر مكان تجمع فيه قادة "ثورة 23
يوليو" قبل تحركهم بساعات.. وأنه كتب خطة التحرك بيده فى ضوء ما رسمه
"جمال عبد الناصر" كما ذكر بنفسه فى "مذكراتى" التى يصعب تخيل
أن مثقفا لم يقرأها!! وفيها يروى أن قيادة الثورة رأت فى شهر سبتمبر عام 1952 أن
تصدر صحيفة تعبر عنها.. فكانت "التحرير" التى صدرت نصف شهرية لتحمل
رؤيتها ومواقفها وتشرح قراراتها, خاصة وأن الصحف كانت مملوكة لأصحابها.. استمرت
كذلك لتسع سنوات, حتى صدرت قوانين تنظيم الصحافة فى الستينات.. هنا تجب الإشارة
إلى أن "ثورة يوليو" تعاملت مع صحف تعبر عن أصحابها والعاملين فيها طوال
هذه الفترة.. صدرت "التحرير" بمسئولية "يوسف صديق" – رئيس
مجلس الإدارة – وتولى رئاسة التحرير "أحمد حمروش" لثلاثة أعداد.. لكن
"عبد الناصر" رأى أنها أخذت لونا شيوعيا.. أستدعى "ثروت
عكاشة" فى حضور "خالد محيى الدين" وشرح له ذلك, مع تكليف بأن يتولى
رئاسة تحريرها.. وأكد ذلك "خالد محيى الدين".. وكانت تضم ضمن محرريها
شبابا بينهم: "عبد المنعم الصاوى" و"عبد الرحمن الشرقاوى"
و"مصطفى بهجت بدوى" و"سعد التائه" و"صلاح حافظ"
و"حسن فؤاد".. الذين اجتمع بهم رئيس التحرير الجديد, وأوضح لهم أن نهج
المجلة مصرى وطنى دون انحياز ليمين أو يسار.. وأنها ملتزمة بالحقيقة والصدق مع
القارىء.. أنطلق العمل لينضم كتاب آخرون إلى أسرة تحريرها, كان بينهم "عبد
الرحمن عزام" و"طه حسين" و"يوسف السباعى" و"راشد
البراوى" و"أحمد حسين" و"فكرى أباظة".. وكتب على صفحاتها
كل من "جمال عبد الناصر" وخالد محيى الدين" ومصطفى محمود"
و"صلاح سالم" و"أحمد كامل مرسى"!
كل هذه الأسماء
وأصحاب القامات.. كانوا يكتبون فى جريدة – مجلة – واحدة!
تصدر الجريدة –
المجلة – الأربعاء الثانى والرابع من الشهر.. فى اليوم نفسه كانت تصدر مجلة
"آخر ساعة" التى أسسها "محمد التابعى" واشتراها "على
ومصطفى أمين" وتولى رئاسة تحريرها "محمد حسنين هيكل" وهو تنويه مهم
لمن لا يعلمون!! وحدث أن حققت "التحرير" قفزات مذهلة فى التوزيع, جعلت
أصحاب "آخر ساعة" يحاربونها بالشائعات.. قالوا أنها مجلة شيوعية.. لمجرد
أن توزيعها تجاوز مائة وخمسون ألف نسخة, وانخفض توزيع "آخر ساعة" إلى
أربعة عشر ألف نسخة.. ويروى "ثروت عكاشة" أن "جمال عبد
الناصر" طلب منه تغيير موعد صدورها, حتى يهدأ الذين نافسهم.. فيقول رفضت ذلك,
فسمعنى وصمت دون أن يكرر الطلب.. وكانت أول أزمة صادفت رئيس التحرير حين كتب
"عبد الرحمن الشرقاوى" قصة تم نشرها بعنوان "الشاويش عبد
الله".. ليصدر "محمد نجيب" قرارا باعتقاله لأنه يرى أن القصة فيها
مساس بالأخوة فى السودان!! ويضيف أنه ذهب إلى "محمد نجيب" وناقشه فى
قراره, وأوضح له أن هذا إبداع يحمل فكر صاحبه.. وبعد جلسة مطولة إقتنع, فقرر إلغاء
قراره!!
حملت صفحات
"التحرير" المقال الذى كتبه "طه حسين" مستنكرا ورافضا إطلاق
وصف "الحركة المباركة" على ما حدث فى 23 يوليو 1952.. وقدم شرحا لمعنى
كلمة "ثورة" مؤكدا أنها كذلك بالمفهوم العلمى.. وكانت
"التحرير" هى التى طالبت بإلغاء الملكية, عبر مقال كتبة "ثروت
عكاشة" عنوانه "أعلنوها جمهورية فورا".. وهو المقال الذى أغضب
"محمد نجيب", كما يحكى كاتب "مذكراتى" ليقول بعد ذلك أن الذى
غضب, أصبح أول رئيس للجمهورية بعد إلغاء الملكية!!.. وعلى صفحات
"التحرير" طالب الدكتور "راشد البراوى" كأستاذ اقتصاد بضرورة
الذهاب بسرعة إلى التصنيع فى مقال عنوانه "نحو سياسة صناعية رشيدة"!! ثم
كان المقال الذى أنهى رئاسة تحرير "ثروت عكاشة" وكتبه بقلمه, وكان عنوانه
"هكذا قمنا بالثورة"!.. ليصدر قرار "صلاح سالم" كوزير للإرشاد
بعدم الطبع.. وبعد تدخل "زكريا محيى الدين" تم طبع المجلة.. وتقرر أن
يسافر "ثروت عكاشة" إلى "باريس" ليعمل ملحقا عسكريا لتجاوز
الأزمة!
تجنب "ثروت
عكاشة" تناول تلك السنوات التى عاشها خارج مصر بالتعليق!
المهم أن الوقائع
تؤكد الحقيقة.. كانت "الثورة" سفينة فى عرض البحر!!
نحن بصدد حاكم عسكرى
– محمد نجيب – يصدر قرار اعتقال لكاتب – عبد الرحمن الشرقاوى – ثم يلغيه بعد عرض
الموضوع عليه.. والحاكم العسكرى نفسه يغضب عند المطالبة بإعلان الجمهورية, ثم يصبح
هو نفسه الرئيس!! ووزير للإرشاد يتخذ قرار بعدم طبع المجلة.. يتراجع عنه.. يتم
إبعاد رئيس تحرير – عسكرى – كان يقود قبيلة من كبار الصحفيين والكتاب الذين لا
نحتاج إلى شرح أو توضيح لقيمة كل منهم.. مجلة يتولاها كبار فى الصحافة – آخر ساعة
– تترنح أمام مطبوعة جديدة, أخذت الأمور بجدية وكان لها منهج وتطرح أفكارا جديدة
مع خطورتها تتضح أهميتها!
تمضى السنوات.. يكتب
"مصطفى بهجت بدوى" مقالا فى "الأهرام" بعد ربع قرن – 1977 –
باكيا على حال الصحافة, باستعادة ذكرياته مع مجلة "التحرير" ليذكر اسم
"ثروت عكاشة" بالتقدير والاحترام!!
ولعل شبابا أو أجيالا
جديدة لا يعرفون عن "مصطفى بهجت بدوى" أنه تولى رئاسة تحرير جريدة
"الجمهورية" لفترة طويلة.. وكان صحفيا كبيرا وكاتبا مرموقا, وعاش ليعبر
بالتفاف عن أحزانه من تدهور أحوال المهنة عام 1977, بتذكر تجربة مجلة
"التحرير".. فى العام نفسه كان يرأس تحرير "الأهرام" الروائى
المبدع "يوسف السباعى" بأصوله العسكرية.. وكان يتولى رئاسة تحرير
"الأخبار" أربعة رؤساء تحرير هم: "محمد زكى عبد القادر"
و"أحمد الصاوى محمد" و"جلال الدين الحمامصى" و"موسى صبرى"!!
أعود إلى
"مذكراتى" التى تركها لنا "ثروت عكاشة" كشهادة ترقى إلى وصفها
بالوثيقة, لصرامته والتزامه الأمانة والدقة.. وفيها يتوقف عند "توفيق
الحكيم" الذى كتب "عودة الروح" وبشر فيه باحتياج مصر إلى المستبد
العادل.. ثم كتب بعدها بسنوات "عودة الوعى" ليلعن "زمن عبد
الناصر" ويبشر بما تذهب إليه "الجمهورية الثانية" وهو الكتاب الذى
رد عليه بكتاب "محمد عودة".. وقد أحدث ضجة شديدة, وكان عنوانه
"الوعى المفقود" خلال سنوات الصراع بين المؤمنين بنهج "الجمهورية
الأولى" والذين اختاروا ركوب السفينة الجديدة – الجمهورية الثانية – لقناعة
أو لخطأ فى التقدير والحساب!!
يأخذنا "ثروت
عكاشة" فى مذكراته إلى حياته خارج مصر.. يقدم تجربة دبلوماسى تستحق أن
يستوعبها كل من اختار هذا الطريق فى مستقبله.. أحداث ساخنة.. عمل غارق فى الإخلاص
مع الوطن.. إضافة إلى الاستمتاع بالذهاب فى رحلة إلى زمن يجب أن نفهمه, إن شئنا
معرفة لماذا وصلنا لتلك الحافة!! خاصة وأن المثقف رفيع المستوى – ثروت عكاشة –
يأخذ القارىء ليلحق به فى سماء المعرفة والإبداع والفن.. موسيقى وأوبرا ومسرح
ورواية, خلال سنوات تغريبة تكشف سر بقائه حيا فى الذاكرة الوطنية بما فعله وقدمه
للثقافة فى مصر.. للثقافة العربية.. ثم للثقافة العالمية عبر اليونسكو!!
يصل المؤلف إلى يوم 8
أكتوبر 1958 فى دار الأوبرا بإيطاليا!!
كان "ثروت
عكاشة" قد أصبح سفيرا فى "روما" قبلها.. ينهى سهرته ويعود باحثا عن
أخبار الوطن عبر الإذاعة.. تأخذه المفاجأة.. حكومة جديدة تشكلت وهو وزيرا للثقافة
والإرشاد القومى – الإعلام – وفى شرحه لتفاصيل هذه اللحظة, سيأخذك تقرأ لاهثا حتى
يقول أنه وصل إلى القاهرة بعد أقل من 24 ساعة من سماعه الخبر.. يحكى بعدها لقاءه
مع "عبد الناصر" أملا فى أن يقبل اعتذاره عن قبول هذه المهمة وهذا
الشرف.. وقد كتب بعد رحيل "عبد الناصر" متحررا من شبهة حرج أو خوف..
ستجد أن الذى يحاربونه ميتا بأقصى ما حاربوه حيا, يجادله ويناقشه أملا فى إقناعه
بأن يقبل الوزارة!! لدرجة أنه قال له: "تعتذر عن منصب يقف على الباب عشرون
ينتظرونه".. ليرد عليه: "أعطه لأحدهم".. فإذا به يقول: "إن
صياغة الوجدان المصرى أشق المهام وأصعبها.. بناء آلاف المصانع أمر يهون أمام بناء
الإنسان.. ولو أن سفيرا قدم ثلاثين بالمائة مما قدمت, فهذا يكفى منه.. ورغم ذلك
مهمتك القادمة أصعب لأننى أريد أن تصل الثقافة الراقية للمواطن فى القرية والنجع..
هذا طموح تأجل كثيرا, وقد تركتك لسنوات فى عواصم الثقافة لأجل هذه اللحظة"!!
يقول: "ورغم الساعات الطويلة التى جادلته فيها.. إستأذنته معاندا أن أفكر..
فقال لى مبتسما: خد وقتك وافتكر إن قرار رئيس الجمهورية يصعب تغييره!!.. واتصل بى
بعدها بيومين ليسألنى عما هدانى إليه تفكيرى.. قلت له: "لم أشعر بالراحة تجاه
القبول.. فأجابنى وهو يضحك.. طمنتنى.. أصبحت جاهزا للمهمة.. أذهب إلى مكتبك فورا –
كان مقر وزارة الثقافة فى قصر عابدين – لأن الراحة عند الصعايدة يا ثروت لها معنى
واحد.. هى الراحة الأبدية"!! وكان ابن "بنى مر" يعرف كيف يخاطب ابن
"البدرشين"!!
الديكتاتور "عبد
الناصر" الذى يكذبون عليه.. يناقش.. يقبل الرفض أو الاعتذار عن قبول قراره.. يحاول إقناع من يرفض.. يقدم
حجج ذات مغزى ومعنى.. ستجد ذلك يتكرر فى مذكرات أغلبية من عملوا معه, أو اقتربوا
بحكم مواقع المسئولية.. كتبها "مراد غالب" و"أمين هويدى"
و"سامى شرف" و"سيد مرعى" و"عصام حسونة" كما كتبها
"أنور السادات" نفسه الذى ادعى أنه كان يختلف معه!!
يقول "ثروت
عكاشة" أن "يوسف السباعى" أصطحبه بسيارته إلى مقر الوزارة, ليبدأ
مهمة العمل من أجل بناء الإنسان لمستقبل كله تحديات.. أحتاج إلى شهرين كما طلب من
الرئيس لكى يرسم معالم خطة.. أجابه.. هذه هى البداية السليمة.. التخطيط الصحيح
يؤدى إلى نتائج عظيمة!! ليبدأ مشوار طويل إنتهى إلى "القوة الناعمة"
التى يتحدثون عنها الآن كما لو كانت منتجا أو بضاعة يجب تغليفها وترويجها قبل أن
تفسد أو تنتهى مدة صلاحيتها!!..
الجمهورية الثالثة!! طربوش ديمقراطى (29)
يتبع
0 تعليقات