نصر القفاص
حلف "أنور
السادات" اليمين الدستوري كرئيس للجمهورية, وذهب لينحنى أمام تمثال "عبد
الناصر" داخل "مجلس الأمة".. فى مشهد يصعب شطبه من ذاكرة التاريخ..
سجلت اللحظة كاميرات التليفزيون والصحف ووكالات الأنباء.. ثم انطلق ليطبق منهج
"الخداع الاستراتيجي" للشعب, وأخذ به كل من حكموا بعده فى عباءة
"الجمهورية الثانية".. وكانت الرصاصة الأولى التى أطلقها فى صدر
"الجمهورية الأولى", تم توجيهها ضد "الثقافة" مع سبق الإصرار
والترصد.. فقد قرر إلغاء "قصر الفنون" الذى كان تحت الإنشاء, وطلب إخلاء
متحف "محمود خليل" لتحويله إلى "جراج" ومقر إداري لسكرتارية
الرئاسة!!
نقل "محمد
أحمد" سكرتير الرئيس تلك الرغبة إلى "ثروت عكاشة" الذى أجاب بصعوبة
ذلك, وشرح الأسباب وأبدى استعداده لتوضيح الصورة له.. رفض "أنور
السادات" أن يسمع شيئا.. قرر إبعاد نائب رئيس الوزراء ووزير الثقافة عن
منصبه, وأعلن تعيينه مساعدا للرئيس للشئون الثقافية!! ونفذ ما أراد بعد ذلك, ثم
قرر أن يدفع "عكاشة" ثمن اعتراضه على رغبته التى أصبحت رئاسية.. أعلن
حربا عليه عبر أجهزته, لتحاصره فيما اختاره لنفسه بالتفرغ لإنجاز موسوعته وكتبه..
تم إيقاف النشر عبر "دار المعارف" قبل فصلها عن "الأهرام"..
وراح يحذر دور النشر فى "بيروت" إذا أقدمت على ذلك!!
يروى "ثروت
عكاشة" أن "حسين الشافعي" وكان نائبا للرئيس, أبلغه بأن الرئيس
"أنور السادات" قرر إبعاده عن أول تشكيل وزاري فى عهده برئاسة
"محمود فوزى" بحجة أن "عظمك ناشف على رئيس الوزراء
القادم"!!.. يقول: "أبديت قبولى – بل رغبتى – فى ذلك.. طلبتنى سكرتارية
الرئيس للقائه مساء اليوم نفسه.. أبلغنى أنه سيقوم بتعيينى سفيرا فى باريس وتعيين
كمال الدين رفعت سفيرا فى لندن.. ولما اعتذرت, وجدته متمسكا بضرورة وجودى بجانبه,
فاقترحت العمل كمساعد للرئيس للشئون الثقافية.. وافق وأصدر القرار.. ولم أمارس
عملا بعدها"!!
فوجئ مساعد رئيس
الجمهورية – ثروت عكاشة – فى أول يونيو 1972, وكان يستعد لركوب الطائرة مع زوجته
لحضور افتتاح "معرض توت عنخ آمون" فى "لندن" بدعوة من الحكومة
البريطانية.. بأن أحد ضباط الشرطة يطلب منه الذهاب إلى استراحة المطار.. يقول: "هناك
أبلغونى بأن أحمد إسماعيل رئيس جهاز المخابرات العامة يطلب الذهاب إليه فى أمر
عاجل ومهم.. وجدت أننى مطلوب للإدلاء بشهادة أمام النائب العام فى تحقيق خطير..
عرفت أنه بشأن السفير محب عبد الغفار الذى تم تحويل قضيته من محكمة مدنية إلى أخرى
عسكرية.. وبعد جلسة واحدة صدر ضده حكم بالسجن عشر سنوات.. كانت التهمة التخابر مع دبلوماسي
أمريكي يشغل منصب القائم بأعمال السفارة فى القاهرة.. المثير أن الدبلوماسي الأمريكي
استمر فى عمله لأكثر من عامين, والمتهم بالتخابر معه دخل السجن!!.. ولأننى دافعت
عن السفير المتهم بما أعرفه عنه, فقد صدر بعدها بأيام قرار إعفائى من منصبى كمساعد
للرئيس.. ثم أبلغنى أحمد إسماعيل بضرورة سحب جواز السفر الدبلوماسي.. وأوضحت أن
هذا لا يجوز لأنه حق وفق القانون.. إقتنع بكلامى وتوجهت للمطار, لأجد قرار بمنعى
من السفر.. عاودت الاتصال برئيس جهاز المخابرات, فطلب دقائق يتصل بى بعدها.. ثم
أبلغنى أن الداخلية لم تكن قد أبلغت المطار بقرار إلغاء المنع.. وسافرت مع زوجتى,
لألقى استقبالا غير عاديا من الحكومة البريطانية, وقيادات اليونسكو وكذلك من
الصديق كمال الدين رفعت سفير مصر فى لندن.. التى عدت منها لألتقى مع محمد حسنين هيكل
بمكتبه بالأهرام بناء على طلبه.. أبلغنى بحرجه لصدور تعليمات بالتوقف عن نشر
موسوعة تاريخ الفن – العين تسمع والأذن ترى – وكان قد صدر منها جزآن.. المدهش أن
صاحب التعليمات لاحقنى بتحذير دار النشر التى قررت طباعة باقى أجزاء الموسوعة.. ثم
فوجئت بدخول الأزهر على الخط محتجا على بعض ما حملته من صور تضمها الموسوعة"!!
الحرب على "ثروت
عكاشة" لم تكن صدفة.. ليست لاختلاف رأى بين الرئيس الوزير.. كما أنها لا
علاقة لها بأن كليهما كان أحد الضباط الأحرار الذين شاركوا فى "ثورة 23
يوليو".. لأن كل منهما كان له طريق مختلف عن الآخر طوال السنوات التى جمعتهما
خلالها عباءة "الجمهورية الأولى" حتى رحل قائدها وزعيمها.. لكنها كانت
حربا على الثقافة.. فالرئيس المؤسس "للجمهورية الثانية" له رؤية مختلفة
تجاه الثقافة والمثقفين.. فهو يراهم مجرد "أفنديات" يعرقلون طريقه..
يزعجونه.. يتدخلون فيما لا يعنيهم حول شئون الوطن والمجتمع!!
كانت الثقافة بالنسبة
له لا تتجاوز حدود الحفلات والاحتفالات.. لا يجب أن تقدم أكثر من
"الترفيه" للناس.. لذلك تفجرت أزمات متعاقبة بين "الرئيس
المؤسس" للجمهورية الثانية والمثقفين.. وصلت فى مراحل إلى حد الصراع, وعلى
نهجه سار الذين حكموا بعده.. بل وصل الأمر إلى حد احتقار الثقافة والمثقفين,
وتحويل قصور الثقافة إلى "قاعات أفراح" يجب أن تدر ربحا.. وأصبح
"المثقف" هو من يقبل أن يؤدى وظيفة "أراجوز تنوير" بمقابل!!
يكشف "ثروت
عكاشة" أن رئيس مجلس إدارة إحدى المؤسسات الصحفية ذهب إليه, وطلب منه أن يكتب
ما شاء ضد النظام السابق – الجمهورية الأولى – خاصة حول هزيمة يونيو 1967.. وقال
له بوضوح أن المقابل سيكون مغريا, لأن المرصود لذلك أموالا كثيرة.. يقول:
"إعتذرت بأننى قد نذرت نفسي للكتابة والترجمة والمشاركة فى أعمال اليونسكو
لأننى كنت أدرك أن الحملات قد اشتعلت ضد زمن عبد الناصر بعد حرب أكتوبر.. مقابل
ذلك كان رفض ترشيحى لجائزة الدولة التقديرية مرة.. وحجبها مرة ثانية.. حتى أننى
اعتذرت عنها عندما سمعت بترشيحى لها من جديد.. فوجئت بأن الأستاذ إحسان عبد القدوس
يكتب فى جريدة الشرق الأوسط ليقول: عجيب.. أمر توزيع الجوائز الفنية والأدبية..
فكل جائزة بدأ توزيعها على مستحقيها, وهى محترمة يحيطها جو من المهابة والنزاهة..
لكن لا يكاد الأمر يمر عليه سنوات, حتى تفقد احترامها.. وعندما بدأ توزيع جوائز
الدولة التقديرية, كانت أكبر وسام فى الدولة يمكن أن يصل إليه أديب أو فنان.. لكن
هذه القيمة بدأت تهبط حتى أصبحت تقدر بأنها بقشيش يمنح لجرسونات الدولة!!.. وأصبح
الأدباء الذين يحترمون أنفسهم يعتذرون عن قبولها.. أى يرفضون أن تمنح لهم.. حتى أن
الدكتور ثروت عكاشة الذى كان وزيرا للثقافة, وكان يشرف على توزيع هذه الجائزة إعتذر
عن قبولها لنفسه, بعد أن ترك الوزارة وأصبح أديبا متفرغا.. ربما لأنه أحس أن كل
كاتب محترم, لم يعد يرضى بأن يوضع فى مستوى من يمنحون هذه الجائزة"!!
أطلق "إحسان عبد
القدوس" النار على الذين يغتالون الثقافة!!
يجب أن نضع خطوطا تحت
اسم "الشرق الأوسط" كجريدة كتب على صفحاتها "إحسان عبد
القدوس", وربما حدث ذلك لأن "الديمقراطية" فى "زمن الجمهورية
الثانية" لا تسمح بهذا القدر من الصراحة والمواجهة مع الذات.. كما يجب أن
نتوقف أمام توصيفه "جرسونات الدولة" الذى أطلقه على الذين يتم ترشيحهم
للجائزة ومنحهم إياها على أنها "بقشيش" بما يجعل "الأدباء الذين
يحترمون أنفسهم يعتذرون عن قبولها"!!.. وتمضى السنوات لنرى أنه يتم منح
الجائزة لأهل السلطة والنفوذ وقت جلوسهم على مقاعدهم.. فقد اختلف الأمر جذريا عما
كان يحدث فى "زمن الجمهورية الأولى" التى منحت الدكتور "عبد الرزاق
السنهورى" جائزة الدولة التقديرية قبل رحيل "عبد الناصر" كما حصل
عليها فى زمنه: عباس العقاد", و"طه حسين", و"توفيق
الحكيم", و"يحيى حقى", و"حسين فوزى".. وكل الذين
يستطيعون أن يطاولوا هذه القامات الرفيعة.. فقد كان فى هذا الزمان "عيد
العلم" هو أهم أعياد الدولة.. كما كان "عيد المعلم" يوما من أيام
الوطن!!.. وكتب "أحمد بهاء الدين" يوم 8 يونيو عام 1986, مقالا جاء فيه:
"هل صحيح ما سمعناه عن عدم ترشيح الدكتور ثروت عكاشة لجائزة الدولة
التقديرية؟!.. فهو يستحق الجائزة منذ سنوات.. إن لم يكن لأنه صاحب الفضل فى إنشاء
معظم المؤسسات الثقافية والفنية الحالية.. فهو مؤلف موسوعة لا نظير لها فى اللغة
العربية – العين تسمع والأذن ترى – لأن المجلس الأعلى للثقافة يبدى اهتماما بأصحاب
الوظائف"!!.. ثم يكتب الأستاذ "راجى عنايت" يوم 11 يوليو عام 1986
على صفحات مجلة "المصور" مقالا جاء فيه: "المجلس الأعلى الذى يرفض
منح ثروت عكاشة جائزة الدولة التقديرية.. ثم يحجبها.. لا يمكن أن يكون مجلسا
عادلا.. أو مجلسا قادرا على الحكم فى مثل هذه الأمور"!!
بعد هذه المواجهات..
حصل "ثروت عكاشة" على جائزة الدولة التقديرية فى يونيو عام 1988!!
إهانة
"الثقافة" فى "زمن الجمهورية الثانية" لا تنفصل عن إهانة
"الإعلام" الذى يديره ويتولى أمره حاملى "شهادات محو الأمية"
بعد انتشالهم من ممارسة "جمع أعقاب السجائر" ليصبحوا نجوما.. ويتم إطلاق
وصف "مفكر" على كل من يفتقد الأدب واللياقة منهم.. فما حدث مع الزراعة
والصناعة والصحة والتعليم.. حدث مع "الثقافة" و"الإعلام" لأنه
منهج متكامل إنتهى إلى أنك تسير فى الشوارع فتشعر أنك فى عاصمة أوروبية.. أسماء
المحلات مكتوبة باللغة الإنجليزية.. بعضها باللغة الفرنسية.. الذين يخاطبون الأمة
تعوزهم اللغة العربية, فلا يخجلون من التحدث بالانجليزية.. يعتبرون
"عورتهم" مدعاة للفخر!!
خلال واحدة من جلسات
مجلس الوزراء.. وكان يرأسه "جمال عبد الناصر".. دارت مناقشة بينه وبين
الدكتور "محمد النبوى المهندس" الذى تولى وزارة الصحة.. قال الرئيس:
"يجب أن نتثقف من الشعب.. إذا كنا نعتقد أننا فقط المثقفون.. فالثقافة أوسع
بكثير من الشهادات.. يوجد شخص غير متعلم, لكنه مثقف.. العيب الأساسى فى نظامنا
أننا نتصور أن الشعب فى حاجة إلى وصاية وتقويم"!!.. وهذا كلام تم طمسه رغم
أنه كان منهج حكم.. وستجد كل الذين تم حشو رؤوسهم بفتنة "العسكرى
والمدنى" عبر ثقافة وإعلام "زمن الجمهورية الثانية" لا يصدقون
الحقيقة.. لأنهم تعودوا على سماع وترديد الأكاذيب!!
الأكاذيب التى يتم
حرقها كالبخور.. بدأت مبكرا!!
قبل نهاية عام 1953,
شعر "عبد الناصر" بآلام الزائدة الدودية.. تم استدعاء الدكتور
"مظهر عاشور" كبير الجراحين بالمستشفى العسكرى فى كوبرى القبة للكشف
عليه بمنزله فى منشية البكرى.. إنتهى الدكتور من الكشف وهو يردد: "لا حول ولا
قوة إلا بالله" فسأله "عبد الناصر": "فيه إيه.. هى الحالة
خطيرة للدرجة دى؟!".. فأجاب الطبيب: "إطلاقا.. الأمر بسيط وتحتاج جراحة
بسيطة.. لكننى أستغفر الله مما سمعت.. فقد كنت قبل أيام بين أصدقاء.. أحدهم قال
أنه زار بيتك وشافه مفروش من قصر الملك فى عابدين.. وأنا داخل لك النهاردة.. شفت
البيت لحد حجرة النوم اللى احنا فيها.. لم أجد شىء من الذى يفترون به
عليك"!!.. فقال "عبد الناصر" للدكتور: "دة متوقع يا دكتور..
الدنيا هتعرف كل حاجة بعد ما اسبب الدنيا"!!.. وتم نقله للمستشفى وإجراء
الجراحة, كما كان يحدث مع كل مواطن.. وصورة هذا المشهد حفظتها الكاميرا, رغم
محاولات إخفائها وطمسها!!
الثقافة ليست شهادة
ولا استعراض للتميز على الناس!!
الثقافة سلوك راق
وفكر صادق مع موقف حقيقى!!
الكذاب لا يمكن أن
يكون مثقفا.. الذى يتربح من علمه – حسب الطلب – مستحيل أن يكون مثقفا.. من يتنكر
لمجتمعه وقضايا وطنه لا يجوز أن نطلق عليه مثقفا.. فقد كان "طه حسين"
و"العقاد" وصولا إلى "صلاح جاهين" و"أحمد بهاء
الدين" مثقفين لأنهم كانوا أبناء بيئتهم وعبروا عنها بما اعتقدوا.. وكانت
"أم كلثوم" مع "عبد الحليم" وباقى حبات اللؤلؤ من الفنانين
يتمتعون بثقافة رفيعة, لأنهم عبروا عن أمتهم.. كما كان "طلعت حرب" مثقفا
بما تركه لوطنه من عطاء.. وعلى نهج هؤلاء ومعهم أقام "ثروت عكاشة" صروحا
ثقافية تتحدث عنه وعن زمن عاشه.. لذلك بقى اسمه مقترنا بالجمهورية الأولى التى
تقاوم لأكثر من نصف قرن أطنان من الأكاذيب, وآلاف من السفهاء الذين جعلوا من
أنفسهم "ببغاوات" يرددون ما سمعوا.. لاعتقادهم أن القراءة لا تختلف عن
حيوان أليف يتم تربيته أو العطف عليه.. وهم لا يعلمون أن القراءة أول فعل أمر فى
الدين الإسلامى!!..
الجمهورية الثالثة !! مايسترو الثقافة !! (32)
يتبع
0 تعليقات