حمدى عبد العزيز
بالمصادفة شاهدت
الفيلم الفرنسي المؤثر جداً (ڤينوس السوداء) وهو من إخراج الفرنسي من أصل تونسي (عبد
اللطيف كشيش) ، وبعيداً عن التقييم
الفني للفيلم وهو فيلم رائع بالمناسبة لكن ربما يتسع الوقت لاحقاً
للحديث عنه ..
ولكن الملفت في
الموضوع أن الفيلم قد حرك داخلي واجب البحث في واحدة من أفظع مآسي التاريخ
الاستعماري لأوربا وهي ظاهرة حدائق الحيوان البشرية التي تصاعد انتشارها في مدن
وساحات أوربا وأمريكا منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتي منتصف القرن العشرين ، حيث
كان يتم جلب أبناء الأفارقة الزنوج والهنود الحمر من الفلبين وأمريكا اللاتينية
ويتم عرضهم على مسارح العرض أو في الساحات كعروض استعراضية ضمن عجائب المعروضات من
الحيوانات المستجلبة من غابات أفريقيا يقبل عليها الناس من كل أنحاء مدن أوربا
وأمريكا ، وكانت هذه العروض تقدم الإنسان الأفريقي على أنه حيوان آدمي متوحش تم
إحضاره وترويضه بواسطة الرجل الأبيض الأوربي ليشاهد المتفرجون من رواد هذه العروض
كيف يتحرك وكيف يعيش وكيف يصرخ فيسخرون من أناته وأوجاعه ويتسلون بمداعبة أجزاء
حساسة في جسده كجزء من العرض العام الذي كان يجلب لأصحابها من تجار البشر
الأوربيين أرباحاً بملايين الجنيهات الإسترلينية أو الدولارات الأمريكية أو
الفرنكات الفرنسية أو غيرها من عملات ..
وكانت بعض معاهد
التاريخ الطبيعي والأنثربولوجيا في أوربا لاتختلف كثيراً عن حدائق الحيوانات
البشرية ودور العرض والسيرك في تداول البشر الأفارقة وبقايا سلالات الهنود الحمر
الناجين من الإبادة في الأمريكتين كمادة للشرح واثبات بعض النظريات العنصرية التي
تقول بكون الرجل الأبيض الأوربي قد جاء من سياق تطور بشري مختلف عن السياق المتخلف
الذي جاء عليه الأفارقة والهنود الحمر كسلالات أقرب إلي القردة منهم إلى الإنسان ولعل ابلغ الأمثلة على ذلك هو أن الملك ليوبولد الثاني ملك بلجيكا قد أمر
في عام 1897 بإنشاء حديقة حيوان بشرية في شرق العاصمة البلجيكية بروكسيل كان يتم
فيها عرض 260 أفريقي تم جلبهم من الكونغو ليقدموا كمادة يتندر بها المتفرجون .
كذلك فبعد انتهاء
الحرب الأسبانية الأمريكية التي انتهت بهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على
الفلبين في عام 1898 نقل الأمريكيون أعداد من الفلبينية لعرضهم في ساحات المدن
الأمريكية الكبرى وتم تقديمهم كفقرات مثيرة للشغف وجالبة للمشاهدين في مسارح هذه
المدن.
بل أنه في عام 1914
كان هناك في عاصمة النرويج أسلو حديقة حيوان بشرية تستحوذ على 80 رجل أفريقي جئ
بهم من السنغال ..
وفي فرنسا بلد الثورة
الفرنسية التي رفعت شعارات الحرية والمساواة والإخاء - فوفقاً لموضوع أفردت له
جريدة الليموند الفرنسية مساحة كبيرة من صفحاتها - أقيم في باريس معرض دولي في عام
1889 تم فيه عرض 400 إنسان إفريقي تم جلبهم من الجابون والسنغال والكونغو بالإضافة
لعدد آخر من الفيتناميين من سكان جبال (أناميتي)
واستمر هذا المعرض
الدولي الضخم الذي أقيم تحت برج إيڤل ستة أشهر حضره ملايين البشر من كافة أرجاء
أوربا وأمريكا
وظلت تلك الظواهر
التي ظلت موجودة مجالاً للعروض والاستعراضات في لندن وباريس وبروكسيل وأسلو وغيرها
من المدن الأوربية وبعض مدن ولايات الولايات المتحدة الأمريكية تمثل أبشع صور الاستعلاء
العنصري وإذلال البشر الذين لأذنب لهم سوى أن لون بشرتهم وبنيتهم الجسمانية مختلفة
عن لون الرجل الأوربي الأبيض حتي ماقبل الحرب العالمية الثانية .
ودائماً ماكنت اعتقد
أن الفاشية والنازية لم تنشأ في فراغ بل كانت جزءاً من ظاهرة أوربية عامة وجزءاً
من سياق احتدام مستوى التنافس الاستعماري بين دول أوربا ، وأن اشتداد قبضة
الرأسمالية على المجتمعات الأوربية ذاتها قد أدت إلى نمو ظواهر الفاشية والنازية
داخل أحشاء المجتمع الأوربي ، فكان طبيعياً أن تفرز هأمثال هتلر وموسيليني لكنهما
لم يكونا وحدهما اللذان يمتلكان مثل هذه الأفكار ، بالعكس فأفكار هتلر العنصرية
كمثال لم تكن أفكار هتلر وحده ولم تكن ألمانيا النازية وحدها مجتمع هذه الأفكار،
فمجتمعات العالم الحر لم تكن منزهة عن تلك الظواهر ومن يشاهد فيلم مايكل هانيكي
المخرج النمساوي الفرنسي الشهير (الشريط الأبيض) سيرى كيف قدم هانيكي تفسيراً
اجتماعياً لمقدمات صعود النازية والفاشية في أوربا وكيف صور أجنتها التي تنمو في
أحشاء المجتمع عبر عرضه لقرية نمساوية صغيرة تدور فيها أحداث اجتماعية دامية
ومفزعة تدلل على أن صعود النازية لم يكن إلا سياقاً أوربياً طبيعياً ، ولولا أن
التاريخ يكتبه المنتصرون لما رأينا اللعنات من نصيب هتلر وموسليني وحدهما ولما
كانا هما فقط اللذان نادا بالأفكار العنصرية ..
ولعل ابلغ دليل على
ذلك ماوجد بخط يد تشرشل نفسه عندما كان وزيراً للداخلية والمستعمرات ضمن ماتركه في
مفكرته التالي :
.. إن النمو الشاذ المتزايد لطبقات ضعاف العقول يشكل خطراً
قومياً وعرقياً على أوربا ، ويجب وقف هذا الرافد الذي يغذي نهر الجنون..]
انتهت كلمات تشرشل
التي لاتختلف في جوهرها كثيراً عن جوهر الأفكار النازية ، ولكن بقيت الأسئلة حول
حقيقة مدى إيمان النخب الاجتماعية والسياسية الأوربية (الحقيقي) بأفكار الإخاء
والمساواة والحرية ، وأن نظريات الاستعلاء العرقي قد انتهت إلى الأبد من عالمنا
وأن افكار الرجل الأبيض أصل الحضارة ومنشئها وضامنها ومالكها الحصري مجرد نظريات
يمينية شعبوية لاينبغي أن ننظر لها كظاهرة لها وجودها المتأصل داخل ادمغة الطبقات
الاجتماعية العليا المهيمنة على المجتمع الأوربي؟
هكذا عرفت شيئاً عن
تشوهات الضمير الأوربي ومغزي المواقف الأوربية المتناقضة تجاه قضايا الشعوب
المستعمرة سابقاً والفقيرة حالياً ..
وعرفت لماذا لاتعترف
غالبية الدول الأوربية بماضيها الاستعماري البشع في إفريقيا وآسيا وأمريكا
اللاتينية؟
وإن اعترفت كنوع من
التطهر الظاهري فهي لاتريد تقديم الاعتذار حتي لاتكون ملزمة بدفع كلفة مايمكن أن
يترتب على هذا الاعتذار الرسمي من تعويضات ..
ولعل المراوغات
الفرنسية تجاه تحمل تبعات الماضي الاستعماري المؤلم والبغيض وتعقد ماسمي بمسألة (الذاكرة
الجزائرية) وكذلك المراوغة البلجيكية تجاه الشعب الكنغولي بإبداء الاعتراف بهذا
الماضي البشع ولكن بلاتبعات على الدولة البلجيكية كمثالان يعدان وغيرها من أمثلة
متعددة ومتنوعة دليلاً دامغاً على ذلك ..
____________
11 اكتوبر 2022
0 تعليقات