نصر القفاص
سؤال مهم وصعب رغم
بساطته.. هل يمكن أن يخدع حاكم ساذج مثقفي الأمة؟!
الإجابة من أقصر
الطرق.. هى نعم.. فعلها "جورباتشوف" ومن بعده "يلتسن", وهما
نموذج من بعيد.. فكان تفكيك "الاتحاد السوفيتي"..
وعندنا.. يمكن القول
بأن "أنور السادات" تجاوز ذلك حين جعل "الخداع الاستراتيجي"
للشعب والنخبة منهجا عاش بعد رحيله!! ولعلنا نعلم أنه منذ أن جلس على كرسى الحكم..
لم يتوقف عن التأكيد على ضرورة إزالة آثار العدوان.. ثم اكتشفنا أنه أرسل للأمم
المتحدة فى يوم 4 فبراير عام 1971, عارضا قبوله بالسلام مع إسرائيل, واستعداده
لإعادة فتح "قناة السويس" فى إطار خطة طرحها.. علق عليها "إسحق
رابين" وكان مندوب دولة الاحتلال فى "الأمم المتحدة" بقوله:
"أخذنى الذهول حين طالعت نصها"!! وتناولها "كيسنجر" فى
مذكراته, فقال عنه: "هذا رجل عبيط وبهلول".. ثم اكتشف بعد أن أصبح
"صديقى كيسنجر" أنه قائد فذ وزعيم عظيم!! وهكذا هى "الولايات
المتحدة الأمريكية" وكل الذين يحكمونها.. فهى تجعل الحاكم الذى يمشى فى
ركابها أسطورة.. وتطلق ماكيناتها ضد أى وكل حاكم يحرص على مصالح بلاده بعيدا عن
وصايتها!
هنا يمكننى أن أضيف
مزيد من التوضيح.. فقد استخدمت الماكينة الإعلامية الأمريكية
"جورباتشوف" فى مادة إعلانية عن "البيتزا" من خلال إعلان يشهد
خلافا بين زبائن محل حول صواب وخطأ سياسات "جورباتشوف".. فترد سيدة:
"يكفى أنه جعلنا نأكل بيتزا هات" ثم يفاجىء الزبائن بوجوده بينهم فى
المحل.. يهلل الجميع بالهتاف للرائع "جورباتشوف".. وعندما حكم
"يلتسين" بعده.. سمع "كلينتون" أنه أخذته نوبة سكر خلال
زيارته إلى "واشنطن" فمشى فى الشارع دون حذاء.. راح فى نوبة ضحك..
وفوجىء به خلال مؤتمر صحفى يميل عليه, ويحدثه فى أذنه هامسا.. أنفجر من الضحك حتى
دمعت عيناه.. وكشف السر بعد ذلك, فقال أن "يلتسين" فاجأه بكلام مذهل..
لأنه سأله عن "مونيكا" وكيف كانت علاقته بها!!
قبل ما تم وصفه بأنه
"ثورة كوبرى 15 مايو".. كان أبرز من ساندوا "السادات" هم:
"محمد حسنين هيكل" واللواء "الليثى ناصف" واللواء "محمد
صادق" واللواء "ممدوح سالم".. وكلهم تخلص منهم بأساليب مختلفة
ودرامية.. واعتمد فى بداية حكمه على "محمود فوزى" و"عزيز
صدقى" و"عبد العزيز حجازى" و"فؤاد مرسى" و"إسماعيل
صبرى عبد الله" و"محمد عبد السلام الزيات" و"مراد غالب"
ورجال آخرين كلهم من أصحاب المكانة والقدرات السياسية.. إضافة إلى تميزهم علميا
وفكريا.. حتى تخلص منهم واحدا بعد الآخر.. واكتشفوا جميعا أنه استخدمهم لخداع
وإرباك الشعب والمجتمع الدولى.. بل أنه بعد تخلصه من شركائه فى المسئولية ويتقدمهم
"على صبرى".. ذهب إلى توقيع معاهدة صداقة مع "الاتحاد السوفيتي"
خلال زيارة "بودجورنى" للقاهرة يوم 27 مايو 1971, كبرهان على أن ما فعله
لا علاقة له بإيمانه العميق بالخط السياسي الذى رسمه "عبد الناصر"..
وقدم يوم 23 يوليو
1971 فى ذكرى الاحتفال بعيد الثورة, ما أسماه "برنامج العمل الوطنى"
وتحدث عنه فى خطابه للشعب ليقول: "منذ تسعة عشر عاما خرج زعيمنا ورفاقه
معتمدين على الله والشعب" وأضاف فى الخطاب ذاته قائلا: "إن جماهير الشعب
هى التى حمت الثورة, فى مواجهة تحالف العملاء والإقطاع والرجعية وتسلط رأس
المال".. ثم قال: "بعد عشر سنوات على إعلان قوانين يوليو الاشتراكية,
يجب التأكيد على أنه كان اختيارنا الواعى الحر لطريق التنمية الاشتراكية.. كطريق
حتمى للقضاء على التخلف الاقتصادى والاجتماعى".. وأكد المعنى بقوله:
"ثورة التحرر الوطنى لا يمكن أن تحقق هدفها الأصيل فى تحرير الشعب, إلا إذا
اختارت الاشتراكية"!!
دافع عن "أنور
السادات" كما شئت.. لكنك لا تستطيع إنكار هذه الحقائق!!
هاجم "عبد
الناصر" والعن زمنه.. لكنك لا يمكن أن تنكر أنه فعل ما كان يقوله!!
حاكم "الجمهورية
الأولى" كان يخدم شعب ووطن.. أما حكام "الجمهورية الثانية" فقد
استخدموا الوطن وخدعوا الشعب.. وهى المسافة نفسها بين الحقيقة والسراب.. الدليل
على ذلك أن مصر التى اعتمدت على قدراتها الزراعية والصناعية, خلال الخمسينات
والستينات.. خرج عليها وزير مالية عام 2022, ليقول للشعب: "لقد اكتشفنا ضرورة
الاهتمام بالزراعة والصناعة"!!.. بينما زميله فى الوزارة نفسها يواصل بيع
المصانع, وجروء على القول أمام "مجلس النواب" أن "مصانع الحديد
والصلب لا تساوى عشرة قروش"!! ويحدث ذلك عندما وقف "الجنيه" عاريا
أمام "الدولار" الذى يشترى عشرون جنيها – وقت كتابة هذه السطور – وقد
كان الجنيه يشترى ثلاثة دولارات لحظة رحيل "عبد الناصر" وما بعدها بثلاث
سنوات.. وهذا وحده يكفى لكى ترضى "واشنطن" وكل من يسكن "البيت
الأبيض" الذى أصبحت زيارته دليل قوة الحاكم.. وعنوانا للرخاء والرفاهية
اللذان جعلتهما "الجمهورية الثانية" هدفا لأكثر من نصف قرن!!
قل ما شئت فى
"ثورة 23 يوليو" التى انتهت برحيل قائدها وزعيمها.. وقد كان ضابطا!!
دافع بما شئت عن
"ثورة كوبرى 15 مايو" التى استمر منهجها.. وحكمها ضباط أيضا!!
تمكنت
"الجمهورية الثانية" من الاستمرار بمنهج "الخداع الاستراتيجى"
للشعب.. وكل من حكموها كانوا ضباط.. مع استثناء فترة انتقالية لأقل من ثلاث سنوات,
كانت "جملة اعتراضية" فقط.. لنجد أنفسنا أمام حقيقة تؤكد أن "الخداع
الاستراتيجى" إنطلى على الشعب والنخبة!!
يجب أن نعترف بسقوط
عدد لا يستهان به من المثقفين فى "المصيدة" التى يحاول أعداء هذا الوطن
اصطيادنا بها عبر دفعنا إلى تصديق كذبة أطلقوها حول أن "المدنى
والعسكرى" هى سبب الأزمة.. التجربة تؤكد انتصار "تحالف العملاء والإقطاع
والرجعية وتسلط رأس المال" كما قال "أنور السادات" يوم 23 يوليو
1971.. دون أن ننكر انضمام "قوافل الانتهازية" لهؤلاء, فجعلوا عمر
"الجمهورية الثانية" طويلا.. أغلبية الانتهازيين إن لم يكن كلهم كانوا
مدنيين!! بينما دفع العسكريون ثمن هزيمة يونيو 67, كما دفعوا ثمن انتصار اكتوبر
1973 دما.. فى النهابة إنتصر "الذين هبروا على الذين عبروا" كما قال
المبدع "جلال عامر".. وكان مقاتلا – عسكرى – مات بين صفوف المدنيين
رافضا أن يراهم يقتتلون لحظة ارتباك "ثورة 25 يناير"!!
يوم أن أعلن "أنور
السادات" ما أسماه "برنامج العمل الوطنى" قرر العودة إلى
"جمهورية مصر العربية" وإنهاء "الجمهورية العربية المتحدة"
التى عاشت حتى بعدانفصال سوريا عن مصر.. ثم أعلن مؤكدا: "القطاع العام هو
قلعة التنمية الاشتراكية فى بلادنا.. لأنه القطاع القائد"!!
إعتبارا من يوم 23
يوليو 1971.. أصبح الكذب على الشعب منهج حكم!!
بعد هذا التاريخ أصبح
"محمد عبد السلام الزيات" أمينا للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى.. ثم
نائبا لرئيس الوزراء ووزير للخارجية.. ورحل "السادات" ليتركه فى السجن
متهما بالتخابر مع "بلغاريا" فيما أطلقوا عليه "قضية التفاحة",
التى أعلنت ضمن أحداث سبتمبر 1981.. وضمن طرائف هذه الأيام أن جريدة
"الجمهورية" صدرت بعنوان رئيسى – مانشيت – عنوانه "ثورة 5
سبتمبر" وهى معلومة لا تحتمل تكذيبا!!
إمتلك عدد من الذين
خدعهم منهج "الجمهورية الثانية" شجاعة إعلان الرفض.. قرروا المواجهة مع
رئيسها المؤسس.. كما فعل "إسماعيل صبرى عبد الله" و"فؤاد
مرسى" و"لطفى الخولى" و"ابو سيف يوسف" و"محمد حسنين
هيكل" و"خالد محيى الدين" مع "فؤاد سراج الدين"
و"عبد العظيم أبو العطا" وعشرات من المثقفين الذين ظلوا يؤمنون بأن
"المثقف" هو ضمير الأمة.. قبل أن نصل إلى زمن أصبح فيه بيع الضمائر مهنة,
يحترفها أولئك الذين أراهم "أراجوزات التنوير" مع الذين حق فيهم وصف
الدكتور "عبد القادر القط" البديع – جامعى أعقاب السجائر – لنجدهم
يتمتعون بنعيم "التبوء اللا إرادى" لحظة أن راحت "الجمهورية
الثانية" تلفظ أنفاسها الأخيرة!! لأن هؤلاء تم تصنيعهم فى "معامل بير
السياسة" ليصبح لهم حزبا يطلق عليه الصديق "ناجى عباس" وصف
"حزب الممبار" باعتبار أن أعضاءه خلفاء "رشاد عثمان" الذى سلم
راية الفساد عالية خفاقة, لكى يرفعها بعده "الثرثار باشا"
و"الدكتور سيراميك" مع "حرامى الآثار" و"هاتك أعراض
القاصرات" إلى آخر القائمة التى لا تخلو من "نجوم الحديد"!!
وقت أن سقط عدد من
المثقفين فى شراك "الخداع الاستراتيجى" كان العمال والطلاب يقاومون..
واكتفى الفلاحون بما قالوه فى جنازة "عبد الناصر" يوم توديعه: "يا
جمال يا عود الفل.. من بعدك هنشوف الذل"!!.. إنفجر عمال شركة "الحديد
والصلب" فى أغسطس عام 1971.. قرروا تنظيم إضراب شارك فيه 30 ألف عامل,
وأعلنوا أنهم سيحافظون على استمرار الإنتاج.. شكلوا لجان إدارة ذاتية للمصنع..
رفضوا الحوار مع "صلاح غريب" رئيس اتحاد العمال – أصبح وزيرا فيما بعد –
واحتجزوه لمدة 24 ساعة بعد أن صرخوا فى وجهه "إنت بتاع السلطة" لرفضهم
تدخل الأجهزة الأمنية بفرض قيادات غريبة على إدارة المصنع!!
كان جديدا وقتها
إطلاق تهمة "إنت بتاع السلطة" على مسئول!
ترتب على الإضراب..
إستجابة واضحة لمطالب العمال.. تقرر إحالة رئيس مجلس إدارة مؤسسة الصناعات
المعدنية للتقاعد.. إحالة رئيس مجلس إدارة الشركة مع عدد من القيادات إلى
التقاعد.. نقل نائب رئيس مجلس الإدارة ومدير الإنتاج ومدير العلاقات الصناعية إلى
شركات أخرى.. فصل وإحالة عدد من المشاركين فى الإضراب إلى التقاعد.. نقل عدد من
العمال إلى شركات أخرى.. حل اللجنة النقابية فى شركة الحديد والصلب.. ثم خرج
"أنور السادات" ليلقى خطابا تحدث خلاله إلى الشعب, فقال: "لا أنكر
وجود التناقضات داخل تحالف الشعب العامل.. كان اتفاقنا أن نحاول حل هذه التناقضات
بالطريق السلمى والديمقراطى, وألا نترك لقوة من قوى التحالف أن تفرض رأيها
وإرادتها" ثم أضاف قائلا: "أصارحكم القول أننى لو علمت بما وقع.. وكيف
عومل رئيس اتحاد العمال الذى انتخبه العمال أنفسهم.. لكان لى تصرف آخر وإجراءات
أخرى"!! ثم قال: "أسلوب الإضراب والاعتصام ليس أسلوبا ديمقراطيا, ولا
يمكن أن يكون مقبول من التنظيم السياسى ولا سلطة الدولة"!!
أصبح الإضراب جريمة..
التظاهر يقتل الديمقراطية.. الاعتصام خيانة!!
تكرر الأمر بعدها رغم
التهديد والوعيد.. شهد شهر نوفمبر إضراب سائقى التاكسى.. تم اعتقال مائة سائق.. ثم
تظاهر عمال القطاع الخاص فى مصانع النسيج بشبرا الخيمة يوم 30 مارس 1972.. مظاهرات
طلاب الجامعة لا تهدأ.. طلاب معهد التعاون الزراعى أحرقوا سيارة عميد
"المعهد" وتم الإعلان عن اعتقال أربعة طلاب, والتحقيق مع أربعة معيدين..
ثم أعلن "السادات" الإفراج عن كل من سبق اعتقالهم فى ذكرى "ثورة
كوبرى 15 مايو" مع تجاهل ظاهرة الحرائق التى انتشرت, وكان بينها حريق
"دار الأوبرا" التى تحول مكانها إلى "جراج سيارات" فى
العتبة!! لتظهر "النكتة" كسلاح يقاتل به المصريون عندما تصبح الأمور
غامضة.. وحين يكون الغضب تائها!!
ثم كان ظهور
"الفتنة الطائفية" وتشكيل لجنة تقصى حقائق برلمانية برئاسة "جمال
العطيفى" وكيل مجلس الشعب لدراسة أسبابها.. تم نشر تقريرها فى الصحف, وكان
حافلا بمعلومات وحقائق لا تحتمل سكوتا عليها.. لكن "السادات" تجاهل
توصياتها وذهب إلى حل ابتكره, بأن يلتقى شيخ الأزهر.. ثم يستقبل البابا وأعضاء
المجمع المقدس, وتنشر الصحف صور اللقاءات مع تصريحات تتضمن التأكيد على أهمية
"الوحدة الوطنية".. أصبح تصدر علماء الأزهر والبابا مقدمة الصفوف خلال
خطابات الرئيس, مظهرا من مظاهر رفض "الفتنة الطائفية"
يجوز القول أن الحالة كانت لا
تحتمل غير تضميد الجراح.. فالبلاد كانت فى حالة حرب!
حاربت مصر وانتصرت فى
اكتوبر 1973.. إستمر أسلوب معالجة الأزمات بالطريقة نفسها!!
كان مثيرا أن تشهد
مصر كارثة بعد شهور من الانتصار.. قرر الذين تحالف معهم "السادات"
لمواجهة الشيوعيين والناصريين – الإخوان والجماعات المفقوسة عنها – الانقلاب
السريع ضده!!..
الجمهورية الثالثة!! جرسونات الدولة (33)
يتبع
0 تعليقات