نصر القفاص
لكل "ثورة"
أعداء.. ينكرونها.. يرشقونها فى مناطق ضعفها.. يحاولون نسفها.. شطبها من ذاكرة
الأمة, بكل ما يستطيعون ويملكون!!
خصوصية مصر أن كل
ثوراتها مطعون فيها, وذلك ميراث تركه لنا وفينا.. الاستعمار "العثمانى" ثم
الاستعمار "البريطانى".. وحمل الراية بعدهما "أحفاد الاستعمار"
وأسميهم "خدم الملكية والاستعمار" واستمروا فى إنتاج جهلهم النشيط حتى
يومنا هذا.. وقد يستمرون حتى تستعيد الأمة هدوئها واستقرارها بإعادة الاعتبار
للعلم والثقافة لفترة زمنية معقولة!!
حدث تنصيب "محمد
على" حاكما لمصر, بثورة ضد الاستعمار "العثمانى" انتهت إلى خلع "خورشيد
باشا" وترحيله إلى "الآستانة" مشيعا باللعنات.. أنكرت "دولة
الخلافة" الحدث – الفعل – ووصفت الذين قاموا به بأنهم "رعاع" وحاولت
تكفيرهم.. ثم كانت "الثورة العرابية" التى طالبت بالدستور ونظام برلمانى..
تدخل الاستعمار الانجليزى لقتلها فى المهد, وتركوا "الخديوى توفيق" لكى
يتولى تشويهها, وأطلقوا على "الثوار" وصف "العصاة" وأطلقوا
كلمة "العسكر" لزرع بذرة "المدنى والعسكرى" بعد حل الجيش
المصرى.. وهى الكارثة التى وجدوا ضالتهم فيها, كفكرة شيطانية!!
حاول أن تمد الخط على
استقامته.. ستجد أن "ثورة 1919" وقد اندلعت بقيادة مدنية, واجهها
الاستعمار بأن أطلق على زعيمها – سعد زغلول – ومن معه وصف "المخربين" مع
تنويعات على هذا اللحن الردئ.. ولما قامت "ثورة 23 يوليو" أطلق عليها
عملاءهم, لكى يرشقوها بأنها "انقلاب" رغم أن "طه حسين" هو
الذى رفض وصفها بأنها "حركة مباركة" وأكد أنها "ثورة" مكتملة
الأركان, وبكل ما تحمله الكلمة من معنى بكافة لغات الدنيا.. حتى كانت "انتفاضة
يناير 1977" التى أطلق عليها "أنور السادات" وقتها "إنتفاضة
حرامية" وأنكر أسبابها رغم أنه انحنى أمام عاصفتها!!
لعلى قدمت بسرعة هذه
اللمحة, حتى يتضح أمامنا سر إنكار وتشويه "ثورة 25 يناير" بجعلها مرادف
للخراب والعمالة من جانب خصومها.. ثم كان إنكار وتشويه "ثورة 30 يونيو" وجعلها
"انقلاب" على إرادة الأمة.. وكم هو مدهش أن الثورتين, يمثلان وجهين
لثورة واحد ضد الفساد والفاشية الدينية.. لذلك يكون مقبولا أن يلتف "حزب
الفساد" ضد "25 يناير 2011" وبالتالى نقبل تبنى "جماعة
الإخوان" لكل أعداء "30 يونيو 2013" ليستمر القصف, والقصف المضاد
بين الطرفين.. لكن الغريب والمثير أن قطاعات عريضة من الشعب, تفرقت بين هؤلاء
وأولئك!!
إعتقادى أن التاريخ
سيتوقف طويلا أمام هذه الحالة.. ربما لأن الذى تولى المسئولية, بعد الثورتين راح
ينكرهما ويجعلهما سبب أزمات البلاد وتدهور أحوالها.. تلك مفارقة مذهلة وغير مسبوقة..
تحمل تفسيرا بأن "الجمهورية الثانية" تقاوم من أجل البقاء وخشية "روح
الجمهورية الأولى" التى لم تغادر جسد وعقل المجتمع المصرى!!
يحمل كتاب "مصر
إلى أين"؟! فهما واضحا وعميقا للحالة.. وطرحا تم التعتيم عليه, لأنه رسم
ملامح الطريق إلى "الجمهورية الثالثة" بتفاصيل تستحق أن نتوقف عندها.. لأن
الكتاب هو حاصل جمع سلسلة من الحوارات والمقالات واللقاءات التليفزيونية للمؤلف "محمد
حسنين هيكل" الذى كان مراقبا متفردا للأحداث.. تسلح بأنه كان واحد من شهود
العصر, ومشاركا فاعلا خلال "زمن الجمهورية الأولى", فضلا عن دوره عند
لحظة ولادة وتأسيس "الجمهورية الثانية".. فوصل إلى قناعات بضرورة قيام "الجمهورية
الثالثة" وقال كلمته وسط حالة صراع دامية بين المتقاتلين دفاعا عن الفساد من
جانب.. وعن "جماعة الإخوان" ومعها "جماعات مفقوسة عنها" من
جانب آخر.. إضافة إلى مجموعات متفرقة من السذج تاريخيا وسياسيا!!
الواضح أن ثورة الشعب
التى نصبت "محمد على" حاكما قاومت محاولات إجهاضها, وانتصرت لتعيش مصر
تذكر مالها.. وتعرض النظام الذى أرسى قواعده المؤسس – محمد على – إلى تخريب من
داخله.. هنا تبرز "مفارقة" أخرى, وهى أن الذين خربوا هذا النظام هم
أبناء وأحفاد "محمد على" نفسه بسبب صراعهم على السلطة والثروة.. أما "ثورة
23 يوليو" التى قاومت بضراوة وحققت انتصارات مذهلة.. تعرضت لانكسارات كما حدث
فى "زمن محمد على" وهذا طبيعى.. ولم تسقط "ثورة 23 يوليو" برحيل
قائدها وزعيمها فقط.. لكن إجهاضها تم على يد أحد رجالها, بقدرته على الصمت والتخفى
حتى أصبح رئيسا.. يكشف ذلك أن "أنور السادات" تعجل فى تأسيس "الجمهورية
الثانية" وأعلن "ثورة كوبرى 15 مايو" مؤكدا: "إنتهت الشرعية
الثورية وبدأت الشرعية الدستورية" القائمة على "ديمقراطية لها أنياب"
مازالت تنهش كل من يحاول الخروج عليها!!
وسط غبار ما حدث فى "25
يناير 2011" ضاع صوت العقول!!
يقول "محمد
حسنين هيكل" عبر صفحات جريدة "الشروق" موضحا سبب ما كان يحدث:
"مع عجز النظام القائم على السلطة.. عجزا كاملا عن الفهم والاستجابة, واستقوائه
بغرور سلطة مطلقة فى يده.. وقصور فكر راح يرتب لتأييدها بالتوريث الفعلى.. ساعده
شيوخ من بقايا كل العصور, إلى جانب عناصر مستجدة.. تصورت إمكان اللعب فى فراغ تسبب
فيه, قهر استولى على كل وسائل التعبير والتنوير.. ترك هامشا مرئيا ومسموعا ومقروءا
لمجرد التنفيس عن البخار.. حتى لا يحدث انفجار.. مع تعامل بوليسى.. كل هذا لم يجعل
الحكم بوليسيا فقط.. لكنه جعل البوليس هو الحكم"!!
هكذا تحدث "محمد
حسنين هيكل" قبل "خلع مبارك" بأيام!!
تعليقى الوحيد.. ماذا
اختلف بعد أكثر من عشر سنوات؟!
الإجابة متروكة
لأصحاب الرغبات و"العناصر المستجدة" ولا عزاء للشيوخ "من بقايا كل
العصور" لأنهم خاصموا العقل والعلم.. إختاروا الانتصار لحساباتهم فى البنوك, والتمتع
بوجاهة زائفة.. مهينة!!
شرح "محمد حسنين
هيكل" فى أول فبراير 2011, تصوره لأسباب ما كان يحدث فقال: "صوت النقاش
جرى كتمه بدعاوى كثيرة.. منها هذه الخرافة التى أسموها الاستقرار.. فى حين أن
الاستقرار معناه الحقيقى هو الاتساق مع بمادئ الحرية والعدل وكرامة الإنسان" ثم
أضاف سر مظاهرات 28 يناير قائلا: "ترنحت رئاسة النظام.. بدت مغيبة.. غير
قادرة على قرار ولا كلمة" لأنها فقدت بقايا الشرعية.. وهنا يوضح "هيكل"
علامات الشرعية, ليقول: "رضا وقبول طوعى من الناس.. وذلك ضاع.. مكانة وهيبة..
وهذه تداعت أمام جماهير الداخل والمنطقة.. وأمام العالم.. لم يعد فى مقدور أحد أن
يقدم نفسه للناس ممثلا لمصر ورمزا لها.. لم يعد فى مقدور أحد على قمة, أن يوجه
الشعب المصرى فيطيع.. لم يعد فى مقدور أحد أن يخاطب العالم العربى فيسمع.. لم يعد
فى مقدور أحد أن يواجه العالم الخارجى.. فيأخذ بجدية ما يقول"!!
لا أملك غير أسئلة.. ماذا
اختلف بعد أكثر من عشر سنوات؟!
لكننى أتوقف أمام ما
ذكره "هيكل" فى المقال نفسه: "ببساطة.. الوطن أكبر من أن يتحول إلى
ملكية أحد.. الشعب أكبر من أن يتحول إلى موظفين وعمال لديه.. هناك شعب ورجال وشباب..
هناك جيش.. هو نفسه جيش الشعب ورجاله.. لم يكن الجيش يوما آداة لضرب الشعب.. فهو
مؤسسة من صنع هذا البلد وتاريخه.. فالقوات المسلحة هى صانع نظام ولم تصنعها النظم..
من عهد مينا والقوات المسلحة تلعب دورا فى تاريخ البلد.. لن يستطيع أحد أن
يستخدمها فى غير صالح البلد.. الجيش جزء من الدولة وليس النظام.. لابد أن نفرق بين
الجيش والنظام.. وعندما تلجأ سلطة الحكم إلى طلب الجيش, فهذا معناه أنها فى أزمة..
وإذا أمرت سلطة الحكم الجيش بضرب الشعب.. فهذا انتحار"!!
قال "هيكل"
كلامه هذا وقت جلوس "مبارك" على كرسى الحكم!!
ما حدث بعد ذلك أن
القوات المسلحة إنحازت للشعب, فاضطر الحاكم إلى إعلان ما أسماه "التخلى عن
منصب رئيس الجمهورية" وترك الكارثة للجيش.. أجرت القوات المسلحة استفتاء
وأكثر من انتخابات شهد بنزاهتها أعدى أعدائها.. سلمت السلطة للرئيس الذى انتخبه
الشعب – محمد مرسى – لتعيث جماعته – الإخوان – فسادا فى الأرض.. تحرك الشعب من
جديد.. وقع ما حدث فى "30 يونيو 2013" ويسميه الدستور "ثورة" فجددت
القوات المسلحة عهدها, بالانحياز للشعب ليحكم مرحليا رئيس المحكمة الدستورية – عدلى
منصور – لمدة عام.. إندفع الشعب فى آخر انتخابات نزيهة خلال هذه الفترة, لكى ينتخب
"عبد الفتاح السيسى" رئيسا بأغلبية واضحة.. ساحقة.. وسط حالة أمل سبق أن
شهدتها مصر يوم "تنصيب محمد على" ولحظة إعلان البيان الأول لـ"ثورة
23 يوليو 1952" .. ولكن!!
رحل "هيكل"
وترك كلامه يتردد صداه هذه الأيام!!
هو يقول: "ليس
معقولا أن يشن النظام على شعبه حربا إلكترونية.. واستغرب من الحدث عند انتهاء عهد
الوصاية.. أنت تعتمد على المعونة الأمريكية.. والمثل يقول: الذى يحدد النغمة, هو
من يدفع أجر الزمار!! الشعب يستطيع أن يغير الحاكم.. لكن الحاكم لا يستطيع أن يغير
الشعب.. كنت أتمنى ألا يعاند الحاكم, لأن عناده مع التاريخ, وليس مع حزب أو طائفة..
بإمكانك أن تعاند أشخاصا, ولا يمكن أن تعاند التاريخ وتواجهه.. بل يجب عليك أن
تجيب على أسئلة التاريخ.. نظام الحكم بالطريقة الحالية, ليس مؤهلا للحكم على
المستقبل.. الوزارة التى اختارها أضعف من أن تواجه اللحظة الحالية"!!
أؤكد أن.. الكلام
قاله "هيكل" قبل أكثر من عشر سنوات!!
أعلم أن كل من "على
رأسه بطحة" سيضع يده عليها.. المهم أن يحاول معرفة وفهم أسباب "البطحة"
وإذا كان ذكيا يذهب إلى علاجها إن كان قادرا!!
ضاع على مصر نحو نصف
قرن فى مناورات وحروب "الجمهورية الثانية" الداخلية.. بدأت بصياغة منهج
حكم يقوم على طرفين متصارعين هما الفساد والإخوان.. شهد هذا الزمن جولات من حروب
باردة ومواجهات دامية.. كانت لها أكثر من ذروة.. أولها يوم اغتيال
الرئيس – المؤسس – وأخطرها عندما انقض "الإخوان" على "مبارك" بركوب
سفينة الشعب.. وأبشعها عندما تخفى "الفساد" لكى يمسك دفة السفينة بعد
إسقاط "الإخوان" واستثمروا كل الثغرات المتاحة.. إستنزف الطرفين بعضهما,
ودفع الشعب والوطن ثمنا فادحا.. زمنا طويلا.. خسرت مصر الكثير من رصيدها.. لكنها
مصر التى تملك تاريخا وقدرات متجددة.. لذلك أصبح فرض "الجمهورية الثالثة"
حتميا!!..
الجمهورية الثالثة!! بين مبارك وإسماعيل (55)
يتبع
0 تعليقات