آخر الأخبار

وعاد إليكم "دليسبس"!!

 






نصر القفاص

 

 

هناك فرق بين كلام يخاطب العقل.. وكلام يحاول أن يلعب بالعقل!!

 

أتذكر عنوانا لأحد فصول كتاب "ملفات السويس" صاغه "محمد حسنين هيكل" فى كلمات قليلة, لكنها ذات دلالة ومعان عميقة.. يقول: "الأمة تصنع البطل.. لكن البطل لا يصنع أمة".. العنوان نفسه أخذني إلى كتاب "وعليكم السلام" الذي تركه لنا "محمود عوض" ويحمل دروسا.. يتضمن الكتاب تفاصيل اختراق "هتلر" للمجتمع الفرنسى, وشرائه ذمم وضمائر النخبة والحكام قبل أن يتجرأ على اجتياح فرنسا واحتلالها خلال الحرب العالمية الثانية.. كان صادما للفرنسيين أن "الجنرال بيتان" أحد أهم أبطال الحرب العالمية الأولى, هو الذى وافق على ترأس"حكومة فيتشى العميلة" كما أطلقوا عليها.. لحظتها أعلن "شارل ديجول" رفضه واختار المقاومة دفاعا عن فرنسا لتحريرها.. حقق "ديجول" لبلاده الاستقلال, وذهب "بيتان" إلى مزبلة التاريخ.. والمفارقة أن كليهما كان من الذين تربوا فى مدرسة العسكرية الفرنسية.. بطل الحرب العالمية الأولى – بيتان – إعتقد أن بطولته صنعت أمة.. والثانى – ديجول – راهن على الأمة التى صنعت بطولته!!

 

قلبت صفحات كتاب "مافيا الأموال المنهوبة".. وتوقفت أمام بضع سطور يقول فيها "نيكولاس شاكسون" مؤلف الكتاب أن: "الاستعمار القديم لن يغفر للرئيس جمال عبد الناصر أنه قصم ظهره عام 1956 وما بعدها كانت سنوات كئيبة على المستعمرين"!! ربما لأنه كان يؤمن بما كان يقوله "محمود فوزى" وزير خارجية "زمن يوليو" دائما: "هات القوة وتفاوض" وهى قاعدة ذهبية يؤمن بها المقاتل الحقيقى والدبلوماسى الجاد!!

 

كنت أحاول الهرب من الكتابة إلى القراءة.. ظنى أن تلك واحدة من أمراضي الإنسانية.. محاولتى تجنب الكتابة كان سببها بيان "حنفى الجبالى" رئيس مجلس النواب, الذى حاول به احتواء عاصفة الغضب تجاه مشروع قانون "صندوق سيادى خاص بقناة السويس" لأن صياغة البيان الذى تمت إذاعته صوتا وصورة.. كما تم نشره مكتوبا على نطاق واسع.. كانت صياغته جيدة شكلا.. لكنها من حيث المضمون حملت تناقضا صارخا.. مثيرا.. مريبا.. فهو فى بداية البيان يقول نصا: "تابعت عن كثب الأخبار المتداولة.. سواء بالوسائط الإعلامية المختلفة أو على مواقع التواصل الاجتماعى بشأن مناقشة قانون مقدم من الحكومة, بتعديل بعض أحكام القانون, رقم 30 لسنة 1975, بنظام هيئة قناة السويس.. والذى ينضوى على إنشاء صندوق تابع لهيئة قناة السويس"!

 

لفت نظري "قزم الإعلام" الفخور بجهله والذى يعتز بموهبته فى الغباء, إلى نص ما ذكره الرئيس خلال المؤتمر الاقتصادي.. فقد تحدث الرئيس عن صندوق تم إنشاؤه, من داخل هيئة قناة السويس عام 2020.. شرح فكرته.. وذكر أنه أصبح به 80 مليار جنيه!!

 

الصندوق إذن تم تأسيسه.. أصبح يملك مليارات, قبل أن تتقدم الحكومة بتفاصيل مشروعه!

 

أعود إلى بيان رئيس مجلس النواب الذى شدد على ذكر المادة 43 من الدستور التى تلزم الدولة بحماية قناة السويس وتنميتها والحفاظ عليها بصفتها ممرا مائيا مملوك للدولة.. كما تلتزم بتنمية قطاع القناة باعتباره مركزا اقتصاديا متميزا.

 

الدستور يتحدث عن إلزام الدولة.. بحماية القناة.. تنميتها.. الحفاظ عليها.. تنمية قطاع القناة باعتباره مركزا اقتصاديا متميزا.. أى أن الدستور تحدث عن الدولة ويمثلها الرئيس والحكومة والبرلمان والقضاء.. والشعب الذى هو مصدر كل هذه السلطات.. أى أن الدستور كان واضحا بما لا يحتمل لبس أو سؤ فهم.. لم يشر إلى "صندوق سيادى" ولا غيره.. ولأنني لست من فقهاء الدستور ولا أساتذته, أتناول فهمى لدستور يمثلنى كمواطن.. يجوز لى أن أختلف مع رئيس المحكمة الدستورية السابق الذى يجلس على مقعد رئاسة البرلمان – مجلس النواب – وقد يكون فهمى للدستور – كمواطن – سياسيا ووطنيا فقط.. وللأجلاء من أساتذة القانون الدستورى أن يرشدونى إلى معان غامضة أو خافية عنى!

 

يقول رئيس مجلس النواب فى بيانه: "ما تضمنه مشروع القانون من حق الصندوق.. المزمع إنشاؤه.. فى بيع أو شراء أو استئجار أو استغلال أصوله الثابتة أو المنقولة.. فهو أمر طبيعى يتفق مع طبيعة الصناديق كوسيلة من وسائل التمويل والاستثمار ولا يمس بشكل مباشر أو غير مباشر قناة السويس.. لأن لفظ الأصول لا يمكن أن ينصرف بأى حال من الأحوال إلى القناة نفسها.. فهى كما سلف أن ذكرنا مال عام لا يمكن التفريط فيه"!!

 

أتوقف هنا أمام لفظ "الأصول" لأنه يفتح باب المناقشة – لن أقول باب الشيطان – فحسب فهمى أن "الأصول" هى ما تملكه هيئة قناة السويس.. وهى ليست شركة كما أراد لها "المشرع" منذ تأميمها.. تفاديا لاسم الشركة التى اغتصبت هذه القناة منذ حفرها, وحتى إعلان قرار تأميمها يوم 26 يوليو 1956.. وظنى أن رئيس مجلس النواب يعلم أن الشركة المغتصبة كان اسمها "الشركة العالمية لقناة السويس".. وهى مازالت قائمة ومقرها "باريس" وتمارس أنشطة اقتصادية فى مجال الأسهم والسندات والأوراق المالية.. أخشى بتلك الإشارة أن أسمح للشيطان أن يطرق أبوابنا.. وأترك لمستشار الهيئة – خالد أبو بكر – وهو كما يقول عن نفسه "محام دولى".. هبط علينا من "باريس"!!.. وسخر من رئيس الدولة, الذى عبر عن غضبه.. ثم سامحه بما هو معروف عنه من سعة صدر وقبول الاعتذار!!

 

إعتقادى أن "حنفى الجبالى" لم يقرأ نص خطاب تأميم "قناة السويس".. وأقطع بذلك لأن الزعيم "جمال عبد الناصر" فى هذا الخطاب شرح حكاية قناة السويس.. دون أن يتناولها كمجرد ممر مائى دولى.. وقبل أن أتوقف أمام محطات فى الخطاب.. أذكر أنه قال قبل إعلان التأميم بيومين فقط:

 

"لن نمكن الدولار من بلادنا.. هاقول لكم ازاى تكون مشروعات مصر كلها عزة وكرامة.. لا مشروعات ذل واستعباد وتحكم وسيطرة.. مشروعات تبنى اقتصادنا الوطنى.. تبنى عزتنا وكرامتنا واستقلالنا"..

 

وكان يتحدث فى هذا اليوم – 24 يوليو 1956 – خلال افتتاح خط أنابيب "السويس – مسطرد" وبعد خطابه كان تكليفه للمهندس "محمود يونس" بأن يتولى تنفيذ قرار تأميم القناة!!

 


إذا كان "حنفى الجبالى" يرى "قناة السويس" مجرد ممر مائى.. فهذا شأنه!.. وإذا كان شعبنا يراها قضية استقلال وطنى.. عزة وكرامة.. فهذا حقنا.. وواجبنا.. لأنه لو سلمت برؤية "رئيس مجلس النواب" سأسلم بوصف البعض لها "مجرد ترعة" وهذا يثير غضبنا وذهابنا إلى تخوين أولئك الذين لا يكفون عن وصفها بأنها "ترعة" وهم "أهل الشر" كما يشار إليهم دائما.. فهذه القناة – هيئة قناة السويس – تجرى فيها مياه ودماء.. رمز استعباد وامتلاك إرادة واستقلال.. هى حد فاصل بين تاريخ استعمارى, وزمن انتزعنا فيه عزتنا وكرامتنا.. هى تاريخ عمره مئات السنين على امتداد عصور مختلفة!

 

يوم إعلان تأميم "قناة السويس" أعلن صاحب القرار على الدنيا:

 

"مبادئ مصر ضد ثلاث.. المستغلين والمستعمرين وأعوان المستعمرين.. وثلاثتهم لم يتغيروا.. فقط حاولوا أن يتجملوا.. إرتدوا عشرات الأقنعة.. إبتكروا شعارات براقة لخداع الشعب.. همهم هو تمكين المستغلين ورجال المال, بإعادة إنتاج سياسات تركيع الشعوب.. دعموا كل من يساعدهم على تنفيذ إرادتهم, وهم أعوان الاستعمار.. فكان الحديث عن الديمقراطية مع غض البصر عن أنظمة تمارس أبشع ألوان الدكتاتورية, لمجرد أنها تحقق مصالحهم وتحمى عمليات نهب ثروات يتحكمون فيها"!

 

هكذا تحدث "عبد الناصر" قبل إعلان قراره, لتأمين "الأمن المائى" للبلاد وبناء "السد العالى".. وخلال خطابه تحدث عن الشهداء الذين دفعوا حياتهم ثمنا لحفر القناة وتحريرها.. ذكر منهم الشهيدين "صلاح مصطفى" و"مصطفى حافظ" وتحدث عنهما طويلا.. وأضاف:

 

"مصر منذ أن قامت الثورة, كانت تجاهد لتنقل قضاياها وقضايا العروبة.. إلى طريق آخر غير الاستجداء.. إذا حققنا استقلالنا السياسى.. إذا حققنا الاستقلال الاقتصادي.. وهذا لا يتحقق دون اقتصاد سليم يستطيع أن يقف ضد مؤامرات المستعمرين.. ضد مؤامرات المستغلين والطامعين"!

 

فى خطاب تأميم "قناة السويس" شرح "عبد الناصر" مؤامرة خنق مصر بإقامة سدود على منابع النيل.. تحدث عن رؤية بريطانية بإقامة سد عند أوغندا, ورؤية أمريكية بإقامة سد عند "الحبشة" كما كانت تسمى "إثيوبيا".. وأوضح لماذا أطلق صيحته "نسالم من يسالمنا.. ونعادى من يعادينا", وكان قد قالها يوم 19 يونيو عام 1956.. كان قد قال نصا: "سياستنا مستقلة.. تنبع من مصر.. لا من لندن.. ولا واشنطن.. ولا موسكو.. ولا أى دولة فى العالم"!

 

رئيس مجلس النواب يحاول أن يقنعنا بأن القناة.. مجرد ممر مائى!

 

عبد الناصر" تحدث عنها يوم تأميمها على أنها قضية وطن واستقلال!

 

مستشار هيئة "قناة السويس" يعتبرها "صفقة" على نهج "دليسبس"!
رئيس هيئة "قناة السويس" يتحدث كثيرا, دون أن يقول شيئا!

 

رئيس الوزراء قدم مشروع "الصندوق" متنازلا عن جزء من مصادر ميزانية حكومته!

 

أغلب النواب صفقوا وأعلنوا الموافقة كما عهدناهم يمارسون "تصفيق لا إرادى"!

 

أقلية من النواب عارضوا وتحدثوا بضمير وطنى نحسبه لهم, وهو واجبهم!

 

يأخذنا "عبد الناصر" يوم إعلان قرار التأميم بما قاله: "السياسة الأمريكية تجيد التعامل مع حكام معزولين عن شعوبهم.. الساسة الأمريكان يوزعون الأدوار.. فإذا كان وزير الخارجية شديد اللهجة ستجد المخابرات والبنتاجون يتحدثون بلطف.. وإذا هدد الرئيس الأمريكى, يخرج وزير خارجيته ليزعم أن كلامه قد فهم خطأ.. هم يعتبرون ذلك سياسة.. ويرحبون بمن يخضع لقواعد اللعبة على الطريقة الأمريكية.. ليه باتكلم هذا الكلام.. لأننى أشعر بالقوة.. قوة هذا الشعب.. العملية مش شجاعة عبد الناصر أو قوة عبد الناصر.. هى قوة شعب عرف طعم الحرية والعزة والكرامة"!!

 

قلت – معتقدا – أن رئيس مجلس النواب لم يقرأ خطاب تأميم قناة السويس.. لأن "عبد الناصر" فى هذا الخطاب تناول "صندوق النقد" و"البنك الدولى" بما يليق بهما, وقال: "مطلوب منى أتفق معهم على ضبط مصروفات الدولة.. يعنى سيطرة على استقلالنا الاقتصادى.. واحنا النهاردة ما بنكررش اللى فات.. إحنا النهاردة بنقضى على اللى فات.. لأن آثار الماضى البغيض حصلت غصبا عنا.. والنهاردة بنتكلم عن قناة السويس اللى مات فى حفرها 120 ألف مصرى.. حفروها بالسخرة.. دفعنا فى تأسيسها 8 مليون جنيه.. قناة السويس اللى جعلوها دولة داخل الدولة.. دخل قناة السويس سنة 1955 كان 35 مليون جنيه, يعنى 100 مليون دولار.. بناخد منها مليون جنيه, يعنى 3 مليون دولار".. وقبل أن يعلن قراره قال: "شركة قنال السويس اللى قاعدة فى باريس.. شركة مغتصبة"!

 

ساذج من يعتقد أن الخلاف على ألفاظ أو قوانين!!

 

الحقيقة أنه خلاف على سيادة وطن.. خلاف على فهم تاريخ.. خلاف على مفهوم احترام الشعب.. لأن المسألة تتجاوز بكثير رؤية "الكلاب المسعورة" والفقراء فى عقولهم بعد أن انهزمت ضمائرهم.. ويبقى أن أدعوكم لضحك كالبكاء.. فقد كان يحكم "الولايات المتحدة الأمريكية" الرئيس "ويليام ماكينلى" وكان معروفا عنه كراهيته للقراءة والمعرفة.. فوجئ به العالم يعلن الحرب على "الفلبين" عام 1898, وأعلن أنه ينفذ طلب المسيح الذى زاره فى المنام وطلب منه الذهاب إلى هناك لكى يجعل شعب الفلبين ينعم بالحضارة.. واستمر فى احتلالها 48 عاما وتركها حطاما حتى اليوم.. حدث هذا فى أفغانستان والعراق وقبلهما فيتنام.. لكننا فى "زمن صندوق النقد" سننعم بالحضارة عبر "الصندوق".. لكن مفتاحه معاهم!!

 

إرسال تعليق

0 تعليقات