آخر الأخبار

"حدوتة الصناديق الخاصة"!!

 




نصر القفاص

 

نقول دائما أن "التاريخ يكرر نفسه" مع الذين لا يقرأون.. لكنه "يجدد نفسه" عند الذين يستوعبونه بعد قراءة واعية!

 

توقفت أمام "سياسة الصناديق" كمنهج اقتصادى نتفرد به عن سائر الأمم, وهذا ليس جديدا علينا.. لأننا تفردنا بما يسمى "المنابر" عند الانتقال من الحزب الواحد – الاتحاد الاشتراكى – إلى تعددية حزبية

 

نحرص على رعايتها, شفقة بها لولادتها بعاهة مستديمة!!
اجتهدت بحثا عن أصل هذه السياسة وفصلها.. اكتشفت أن فكرتها ترجع لنحو نصف قرن تقريبا.. وصاحب الفكرة تمت محاكمته على إنتاجها.. القصة ليست مكتوبة.. قد تكون أوراقها مبعثرة فى ملفات وأرشيف محافظة كفر الشيخ.. إذا كان هناك أرشيف.. وقد تكون محفوظة فى ذاكرة وزارة التنمية المحلية, لو كانت تملك ذاكرة وأعنى بذلك "أرشيف" وأشك فى ذلك.. هذا دفعنى إلى العودة لقصاصات أملكها لإنعاش ذاكرتى.. وظنى أن الزميلين "محمد هجرس" و"حمدى حمادة", وكليهما صحفى حقيقى مرموق, يمكن أن يضيفا لما أذكر ويستطيعها تصويب معلوماتى!!

 

كنت طالبا بالمرحلة الثانوية مطلع السبعينات.. مدرستى الثانوية كان اسمها "جمال عبد الناصر" وموقعها على الطريق الرابط بين مدينة "دسوق" ومدينة "فوه" فى محافظة "كفر الشيخ".. ذات يوم فوجئنا بقوات الأمن تقطع هذا الطريق.. كانت "فوه ومطوبس" مركزا واحدا, ثم انفصلا فيما بعد ليصبحا مركزين.. وكان "عبد العال دخيل" يرأس المدينة – المدينتين – ومضى على شغله منصبه عامين تقريبا.. تمتع الرجل بتقدير غير عادى, وشعبيته غير مسبوقة لأنه قفز بالمدينة خطوات مذهلة.. فوجئ مواطنى "فوه ومطوبس" بقرار يقضى بنقله إلى وحدة محلية أخرى.. تفجر غضبهم إلى تمرد.. حاصروا الرجل فى مكتبه وأقسموا على عدم السماح له بتنفيذ القرار والرحيل.. أشعلوا إطارات السيارات.. قطعوا الطريق على المواصلات بما فيها القطار.. منعوا رجال الشرطة من مغادرة الأقسام.. إحتجزوا القضاة ووكلاء النيابة.. تحول الأمر إلى أزمة سياسية كبيرة, طلب الرئيس – أنور السادات – تقريرا حول ما يحدث وأسبابه.. ذهب إليه "ممدوح سالم" بالتفاصيل.. فوجئ بأن التمرد سببه رفض قرار نقل "عبد العال دخيل" فتنفس الصعداء كما نقول.. إختار الحل على طريقته.. أصدر قرارا جمهوريا بتثبيت الرجل – عبد العال دخيل – فى موقعه, ليصبح رئيس المدينة الأول والأخير الذى يتولى هذا المنصب بقرار جمهورى!
أكتب القصة من "الألف" لأصحاب العقول, وأعلم أن "الكلاب المسعورة" تنتظر "الياء" لتنطلق كى تعقرنى بأمر من الذين يتولون رعايتهم!!

 

فرض "الهامش" نفسه.. أعود إلى "أصل حكاية الصناديق" التى جاءت من "فوه ومطوبس".. وكانت اجتهادا من مسئول مخلص, يملك قدرات إدارية خاصة مع شجاعة فى اتخاذ القرار والتنفيذ.. كان الرجل شابا وقتها.. فوجئ بأن "الروتين" يقيده, ويفرض عليه طريقا واحدا للعمل.. إبتكر هو طريقا ثانيا.. قرر توجيه ميزانية "الرصف" إلى تأسيس وحدة لرصف الطرق.. قرر توجيه ميزانية بناء شقق للمواطنين, إلى شركة تتولى استثمار الميزانية.. وهكذا وجه كل ميزانية إلى تأسيس وحدة أو شركة لاستثمار الأموال فى مجالها.. حتى أنه ذهب إلى تأسيس شركة تستصلح أراضى, وتقوم ببيعها كشكل من أشكال ما يسمونه "استثمارا" وقت أن كان طفلا يحبو.. ولما كانت "طريقة عبد العال دخيل" ليست سياسة, ولا سند لها من القانون رغم نبل المقصد.. وكانت مصر قد أخذت طريق "السداح مداح".. وأغلبية المسئولين والنواب لا يشغلهم غير حفلات "الطبل والزمر" للرئيس!!.. فقد انطلق قطار اجتهاد شاب راهن على قدراته.. قطع مسافات.. حقق نجاحا غير مسبوق.. إلتف حوله الناس.. قام بتوظيف المئات وتشغيل آلاف العمال.. لم يفطن أحد إلى ما يفعله رئيس المدينة الذى أشهد له بأنه كان من أفاضل الناس اجتماعيا وإداريا, لأننى عرفته فيما بعد.. سيرته يتحاكى بها الرأى العام.. مشروعاته تكبر وتتوسع.. إنجازاته تتزايد.. لا يقدر أحد أن يسأله أو يحاسبه.. فهذا رئيس مدينة بقرار جمهورى!! تسابق وزراء ومحافظين ومرموقين فى أجهزة سيادية على نيل بركاته.. حاول أن يتقى شرهم.. فتح باب تملك أراضى استصلحها لهم.. حصل كثيرون على عشرات الأفدنة – بل المئات – من أجود الأراضى الزراعية بأبخس الأسعار.. أسماؤهم معروفة وأراضيهم قائمة.. يعلمها القاصى والدانى فى "فوه ومطوبس" ونفر من كبار القوم!!

 

ضاق "عبد العال دخيل" بضغوط الكبار عليه.. وجد نفسه رهين موقع بقرار جمهورى, لا يراجعه مجلس وزراء ولا برلمان.. سعى إلى التخلص من هذا الصداع, فأوعز للذين "هبروا" بأهمية فصل "فوه" عن "مطوبس" ليصبحا مركزين.. كانت الأراضى المطلوبة – المنهوبة – داخل حدود "مطوبس" حول "قناطر أدفينا" فتحركوا بهمة, وصدر قانون صدق عليه رئيس الجمهورية.. تم تعيين مهندس "حمدى حجازى" رئيسا للمدينة الجديدة بمباركة من "عبد العال دخيل" ليتحول رئيس مدينة "مطوبس" إلى الرجل المهم.. حدث ما حدث لتنتبه القيادة السياسية – وكان حسنى مبارك قد أصبح رئيسا – إلى ما قالوا عنه خروجا عن القوانين.. هذا فى حد ذاته يصبح فسادا بالضرورة.. صدر قرار جمهورى يقضى بإلغاء قرار سابق تم تعيين "عبد العال دخيل" بموجبه.. بعدها بشهور تم نقل الرجل إلى ديوان عام المحافظة, وتعيين رئيس مدينة مكانه.. شهور قليلة بعدها, وتم إعلان القبض على رئيس المدينة الذى ابتكر بحسن نية "سياسة الصناديق" وتم اقتياده للسجن!

 

عرفت الرجل وقت أن كنت صحفيا فى بداية مشوارى.. سمعت منه الكثير عن الفساد ورموزه.. وكنت وقتها لا أملك قدرة على نشر ما أعرف.. وبقى فى ذاكرتى بعض من تفاصيل حكايته, حتى سمعت – وبعض ما نسمع قد يكون غير صحيح – أن "حسنى مبارك" طلب تقريرا عن "قضية عبد العال دخيل" ليضعوا أمامه التفاصيل.. أعجبته فكرة "الصناديق" فوجه بالأخذ بها على نطاق ضيق.. حدده فى وزارات وهيئات بعينها.. تكاثرت "الصناديق" حتى أصبحت عشرات الآلاف.. سمعنا عنها الكثير بعد "ثورة 25 يناير" كما يسميها الدستور.. قيل أن هناك اتجاها لإلغائها, لأنها تحولت إلى "سرطان" يأكل عظام المجتمع والدولة.. لكن ما بعد "ثورة 30 يونيو" كما يسميها الدستور.. كان هناك اتجاه عكسى.. فقد تم الإعلان عن ولادة "صندوق تحيا مصر" ثم كان "الصندوق السيادى" غير عشرات الصناديق الجديدة التى لا نعلمها.. لكن الله يعلمها!! ووصلنا إلى ما قيل أنه "صندوق قناة السويس" ليتفجر الغضب والخوف بحجم غير متوقع.. قل أنه أذهل الذين يعتقدون أن "سياسة الصناديق" أصبحت أمرا واقعا.. فقد أصبحت فى مصر "موازنة عامة" تديرها الحكومة عبر وزير المالية, و"موازنات" تحبو كل منها يحمل اسم "صندوق".. أصبح "تحيا مصر" هو أشهرهم و"الصندوق السيادى" أكبرهم.. وجاء "صندوق قناة السويس" ليصبح أخطرهم!!

 

حدثنا الرئيس قبل أيام عن "صندوق لوزارة الصحة" سأل عنه الوزير, الذى قال أنه يملك 70 مليار جنيه.. هنا يصرخ "يوسف وهبى" فى قبره قائلا: "ياللهول"!! فإذا كانت وزارة الصحة تملك هذه المليارات.. لماذا نعيش أزمات فرار الأطباء للخارج؟! لماذا قال الرئيس "مش عارف أعالج".. وقال أمام أجانب فى "باريس" عن الصحة "ماعنديش" إلى آخر ما كاد يصيب الناس بالجنون كلما كشفت الصدف والأحداث عن مثل هذه المعلومات!!

 

هنا يحين وقت "الكلاب المسعورة" لتنطلق وتمارس وظيفتها!!

 

ولتفسير الأمر.. قبل نحو مائة عام.. كان "إسماعيل صدقى" الذى مزق الدستور – دستور 1923 – وابتكر دستورا على مقاس الملك "فؤاد" – دستور 1930 – ليحكم بموجبه وقت رئاسته للوزراء.. وأسس "حزب الشعب" الذى اعترف فيما بعد بأنه ضم "رعاع" عندما باعوه لحظة نهايته!! وأصدر صحفا ومجلات تنبح ضد خصومه.. كان بينها مجلة اسمها "الكشكول" يمارس على صفحاتها الذين يمارسون "العادة الوطنية" هواية "عقر" كل من يقترب من الملك ورئيس الوزراء.. وكان أستاذنا "محمد التابعى" يكتب ضد السفارة البريطانية والملك ورئيس الوزراء, دفاعا عن "الوفد" فناله ما ناله من نهش "الكلاب المسعورة" وهى فصيلة لا تندثر!! قرر أن يكتب لرئيس الوزرء – إسماعيل صدقى – رسالة مفتوحة, جاء فيها: "لم يعد خافيا عنا ولا على الناس.. أن الكشكول تنطق باسم معاليك.. تشتم باسم معاليك.. تجر معاليك إلى الحضيض.. هاجم الوفد إن شئت ودس له فى الظلام, واختلق عنه الأكاذيب فهذا حقك.. وللناس أن تسميك خصما شريفا.. أو غير شريف.. لكن اتخذ لك مطية أصيلة.. لا دابة من ذوات القرون.. إضرب بسلاح نظيف"!!

 

لا يمهنى "السذج والبلهاء" بقدر ما يهمنى الوطن!!

 

تخيفنى – بل تزعجنى – سياسة الصناديق, خاصة أخطرها وأكثرها شؤما – صندوق قناة السويس – ويكفينى أن قائد البحرية الأسبق, ورئيس هيئة قناة السويس السابق, الذى يشغل موقع مستشار رئيس الجمهورية وصفه بأنه "سرطان" ليصبح حجة وبرهانا لأمثالى.. وحتى دون كلامه.. التاريخ يؤكد أن هذه "كارثة" تتضاءل أمامها كوارث كثيرة!!

 

دفع "عبد العال دخيل" ثمن فكرته.. إستثمر "حمدى حجازى" الفكرة وتكاثرت.. توسع فيها "حسنى مبارك" حتى أصبحت سلاحا سريا ينتصر للذين يسبحون فى بحر الفساد.. وكادت أن تصبح "ديناصور" لا يقدر عليه أحد.. أقتدى بأمير الصحافة – محمد التابعى – وأسمح لنفسى بأن أدعو الذين يرفضون خوفنا على الوطن أن يكونوا خصوما شرفاء.. ناقشونا أمام الرأى العام, فى حوار مجتمعى حقيقى.. وليس على طريقة "أسامة ربيع" الذى يرى أن مؤتمره الصحفى حوار مجتمعى.. ولا على طريقة "دليسبس الجديد" الذى يبدع فى الغرف المغلقة مقابل ملايين!!

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات