نصر القفاص
أعيش على ضفاف نهر
تاريخ مصر، منذ خمس سنوات.. أتقلب بين الفخر والألم.. أطير مزهوا وأحيانا أسقط
حزينا.. يرافقنى خلال فترات انقطاعى للقراءة كثيرا, والكتابة أحيانا صوت "أم
كلثوم".. وتعودت منى صديقتى – زوجتى – إيمان، أن أستأذنها
لأقضى وقتا مع "الست".. لترد مبتسمة "بالتوفيق والسعادة"!!
كنت أقلب فى صفحات
طالبى الصداقة.. ولفت نظرى سيدة فاضلة.. كانت فى رحلة إلى سريلانكا.. كتبت على
صفحتها أنها تشرفت بزيارة المنزل الذى عاش فيه الزعيم الوطنى "أحمد عرابى"،
باعتباره من معالم هذا البلد الصديق بكل معنى الكلمة.. أرفقت "البوست" ببعض
الصور الملتقطة لها داخل منزل الزعيم.. فى الوقت نفسه كنت مذهولا لقراءة خبر عن
هدم منزل "عباس محمود العقاد" فى "أسوان"، المشغولة بفوز
فريقها على "الزمالك" فى إحدى مباريات دورى كرة القدم!!
لا يهم أن "السد
العالى" فى "أسوان" يبكى مستقبله بعد أن تجرأ عليه ما يسمى "سد
النهضة".. رغم أنه مازال يسترنا فى لحظة غيبوبة يصعب وصفها أو تفسيرها!! أخذتنى
الأخبار الصاعقة حول ضجة انتهت حين فكر معدومى الضمير الوطنى فى إزالة مقبرة "طه
حسين" الذى انتصرت له "فرنسا" وفرضت التراجع على العابثين.. لكن "يحيى
حقى" لم ينج من العبث, وتم الإعلان عن نقل مقبرته.. إضافة إلى آخرين من
منارات الفكر والثقافة والسياسة, من الذين نعرف أنهم كانوا مشاعل تنوير لوطننا
والعالم!!
أرفض العيش باكيا على
ما كان – والبكاء سلوك إنساني – لذلك أبحث عن صفحات فى التاريخ تمدنى بالأمل أن
هذه "الغمة" ستزول طال الزمن أو قصر.. ذهبت إلى "زمن أحمد عرابى"
لأقرأ عن "عبد الله النديم" الذى قال عنه "محمود عوض" بأنه "قلم
أصبح لسان" ليقول كل شئ فى جملة واحدة.. توقفت فى سيرته عند فترة قضاها فى
بيت "الشيخ محمد الهمشرى" حتى وافته المنية.. مات الهمشرى.. لتجمع زوجته
أولادها.. قالت لأكبرهم: "ضيفنا هو عبد الله النديم الذى جعلت الحكومة ألف
جنيه لمن يسلمها إياه.. هل تأويه كما فعل أبوك.. أم تسلمه وتقبل الألف جنيه؟!.. أجاب
الفتى: أحافظ عليه وأحميه كما أحافظ على عرضى وشرفى"!
شاب يرفض ألف جنيه.. تساوى
عشرات الملايين حاليا تقريبا!!
اختفى "عبد الله
النديم" عن عيون "الخديوى الخائن توفيق" ورجاله.. وعن عيون سلطة
الاحتلال الانجليزي أكثر من تسع سنوات بسبعة عشر يوما.. خلال هذه الفترة صادفه فى
إحدى تحركاته مأمور أحد أقسام الشرطة, وكان بين عدد من الجنود.. أمرهم أن يسبقوه..
وجه كلامه إلى "عبد الله النديم" وقال: "لقد عرفتك".. أعترف
النديم.. أجابه المأمور: "أذهب فى حفظ الله.. لا تخف.. لقد تنازلنا عن الألف
جنيه الذى جعلته الحكومة للقبض عليك، رغم احتياجى الشديد للمال..
تنازلت عن الترقية
لأننى أحترمك" ثم أخرج ثلاثة جنيهات كانت كل ما يملكه, وأعطاها له, ونصحه
بتجنب طريق فى نهايته رجال شرطة آخرين!!
ضابط شرطة يضحى
بالمال والترقية.. تقديرا لوطنى واحتراما لوطن!!
تم القبض على "عبد
الله النديم" فيما بعد.. ووقف أمام وكيل النيابة "قاسم أمين" الذى
نظر إليه بكل تقدير, وقبل أن يستجوبه قال له: "أنت حر فى كلامك.. قل ما شئت..
وظيفتى أن أحمى رأيك لأنك من نبلاء هذه الأمة".. ثم أمر له بكوب من الشاى, وحدثه
عما يعرفه عنه ودوره مع "عرابى" والذين رفضوا الاستسلام!! وحدثه عن دور "على
خنفس" الذى مارس فعل الخيانة، ودور "محمد باشا سلطان" الذى انحاز
للخديوى وسلطة الخديوى، رغم أنه كان يرأس مجلس النواب – وقتها – وهنا تلزم الإشارة
إلى أن "محمد سلطان" هو والد الوطنية الرائعة "هدى شعراوى" واسمها
منسوب إلى زوجها "على شعراوى".. أحد ثلاثة ذهبوا للمطالبة باستقلال مصر
لتندلع "ثورة 1919".. ويصبح أهم رجال "الوفد".. ثم رفض انفراد
"سعد زغلول" بالرأي والقرار فأعلن ذلك وانفصل عنه!!
سيدة مصرية تحافظ على
أمانة زوجها ممثلة فى "عبد الله النديم" ضد الاحتلال والخونة.. وسيدة
مصرية أخرى تواطأ أبوها مع الانجليز،
لكنها زوجة أحد زعماء مصر.. وهى
أصبحت واحدة من أهم عناوين نضال المرأة المصرية.. كانت تملك القدرة على أن تختلف
مع "سعد زغلول" وترفع صوتها بالحق ضده فى بيته, وتلقى ترحيبا من "صفية
زغلول" صديقتها وزوجة "سعد باشا".. وهى بنت "مصطفى فهمى باشا"
رجل "الخديوى إسماعيل".. ثم رجل ابنه "توفيق" وبعدها رجل "عباس
الثانى", فضلا عن أنه كان رجل "كرومر" المفضل!!
إنها مصر وتاريخها
الذى هجرناه.. زيفناه.. قبض كثيرون ثمن تزويره.. وقبض آخرون ثمنا للصمت على هذه
الجرائم.. لكن التاريخ هو الضمير الذى لا يموت!!
سيدة مصرية أتشرف
بقبول طلب صداقتها, هزت وجدانى بما كتبته عن احترام "سريلانكا" لبيت عاش
فيه "أحمد عرابى".. وهى من معدن حرم "الشيخ الهمشرى" و"هدى
شعراوى" و"صفية زغلول" وقائمة طويلة من نساء تنحنى لهم مصر تقديرا
واحتراما بقدر احترامى وحبى الشديد للست – أم كلثوم – وكل "ست" تستحق, وبينهن
"الست تحية" زوجة القائد والزعيم "جمال عبد الناصر" الذى أبشركم
بأنه راجع.. راجع!
هدم بيت "عباس
محمود العقاد" لا يختلف عن هدم كوبرى فى "مدينة نصر" بعد إنشائه
ببضع شهور.. فقد نسى الذين أقاموه, أنهم أنفقوا ملايين من لحم ودم هذا الشعب
ليبنوه فوق بركان من الغاز, دون التفات لهذا الخطأ البسيط من وجهة نظرهم.. وهو خطأ
ببساطة إنفاق المليارات على "مدينة الأثاث" بدمياط.. لتظل خاوية على
عروشها "لأن هناك عنصر فقد أثناء التنفيذ".. وهو البشر.. إضافة إلى
مشروعات أخرى "نحلت وبرنا" بتعبير الرئيس نفسه مخاطبا وزير النقل
والمواصلات!!
تتشابه الصناديق
وتصبح كلها واحد.. لا يختلف "صندوق الأسرة" عن "صندوق قناة السويس"
بعد أن أصبح "صندوق تحيا مصر" قرين "صندوق السيادة".. ولا يهم
إذا قال الفريق "مهاب مميش" كلمته لنعبرها ببساطة عبور هدم بيت "عباس
محمود العقاد" أو "كوبرى مدينة نصر" الذى دخل النار فى طفولته!!
فقد غابت الثقافة
والمثقفين, وحضر "شوال الرز" ليفرض كلمته على أمة كانت تهز كيان "إمبراطورية
لا تغيب عنها الشمس" بكلمة ولحن للشيخ "سيد درويش" القائل: "مصر
يا أم العجايب.. شعبك أصيل والخصم عايب.. خللى بالك من الحبايب.. دول أنصار القضية"!!
عشت لأعرف أن "سريلانكا"
تحتفى ببيت "أحمد عرابى" عنوان الجيش المصرى.. وأرى عبث بمقابر رموز
الإبداع والثقافة فى مصر.. بينما "شوال الرز" يمارس الفخر بتقديم ما
يقال عنه فنا سافرا, بعد أن دفعونا إلى بئر فقر الفكر.. فقد انتصر فكر الفقر!!
0 تعليقات