علاء الدين شهاب
نُسب إلى دانيال ديفو
رأياً مفاده أنَّ الرواية الحقّة هي التي تبرز الحقيقة إلى الوجود، "أمّا
تقديم قصة من الخيال فهذا جريمة فاضحة وهو نوع من الكذب الذي يفتح ثغرة في القلب،
تنفذ منها الأكاذيب بعد استمرائها”.. ويذكر الناقد الكبير عبد الله إبراهيم في
كتابه المهم (أعراف الكتابة السردية) إنَّ "على الرواية أن تكون مرآة للحقائق
الاجتماعية، وإلّا فستندرج في حقل الأكاذيب؛ فالوظيفة التوثيقية هي التي تخلع
عليها الشرعية المطلوبة.”
ولعل هذا بالضبط ما
سعى إليه عباد يحيى في (رام الله) بتوثيقه للمكان المتمثل بها كمدينة موغلة
بالعراقة، وللشخوص المتمثلة بعائلة بطرس النجّار وتفرعاتها، وعائلة الدكتور عماد
العايش، وما رافق تلك العائلتين من أحداث وملابسات دارتْ أغلبها حول مدار مدينة
رام الله للفترة الممتدة ما بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع الألفية الثالثة.
فرام الله عنوان واضح
صريح خلع على الرواية ثوب الحقيقة والوضوح ورسم لنا أفقاً واضح المعنى ونزع عنها
في الوقت ذاته لباس الخيال المجنح الذي أتكأ عليه كثير من كتاب السرد المحدثون،
لذا كان اختيار منصّة العنوان برأيي موفقاً جداً.
تبدأ الرواية بغيبوبة
طويلة لموسى الشلبي زوج نعمة النجّار، يعقبها موت بعد صحوة قصيرة ستقلب موازين
الأحداث، ثُمَّ يُتْم فترمّل، وأيام شداد من حزن وحداد، تعقبها ولادة ستثير جدلاً،
وفرحة يتيمة ترتجف ظلالها على جدران الحكاية.. بعد الولادة ثمّة سعادة مشوبة بقلق
وترقّب، فثراء وطموح ومجد.. ثُمّ موت آخر لريما زوجة عماد العايش، يعقبه شكّ مرير
من قبل زوجها يكاد يقارب الجنون، فجروح غائرة تستنزف الروح والنفس والدخيلة.
الأحداث متداخلة
غامضة ماتلبث أن تتكشف على عتبات البيوت واحجارها العتيقة.
للموت صور كثيرة،
وأسبابه عديدة، أمّا نتيجته فثابتة لا لبس فيها ولا مراء، ولم يزلْ الموت في كل
حكاية يجلل المكان ويغيّر مسار الأحداث، أمّا ظلاله الداكنة فقد ارتسمتْ على
الصفحات التي امتدتْ طويلاً لتدون ملحمة الموت والشك والحب والخلود..
بعد موت موسى تغزل
الأقدار لزوجته ثوباً للحياة جديد، إذ قبل موته بسويعات يزرع موسى في رحم نعمة
بذرة حبّ ما تلبث أن تنمو سريعاً، لتزهر على إثرها حياة الأرملة المعذبة. يولد
الغلام فتزهر حياة نعمة، بل حتى الرواية صارت مزهرة بعد ولادة سالم الذي ينسبونه
حذراً ومكراً لأسرة النجّار في حكاية سيكتشف القارئ تفاصيلها، وفي تمويه من الأسرة
لوأد فتنة الحمل قبل أن تلوكها الأفواه وتتقاذفها ألسنة المشككين، وما أكثرهم في
كلّ زمان ومكان، وكأنَّ الكاتب يعمد هنا إلى إسقاط ديني يستلهمه من قصة السيدة
مريم وحكاية حملها الميمون المبارك، ثُمّ المواجهة العنيفة مع المشككين بشجاعة
وحسم. هذا الإسقاط قد استلهمه الكاتب هنا بشكل معكوس، - والبون شاسع بين الحكايتين
شكلاً ومضموناً- إذ أنَّ نعمة النجّار ظلت تواري حملها الذي لاتشوبه شائبة خشية
الفضائح وأقوال المغرضين، ذلك أنّه حمل جاء من زوج عاش غيبوبة طويلة، ثُمَّ صحى
لسويعات قليلة، وبعدها غيبه الردى، لتدون الحكاية موتاً آخر يضاف إلى سلسلة
الأحزان..
إنَّ كلّ ما نحتاجه
أحياناً في المواقف الصعبة هو شجاعة المواجهة والمضي في العزيمة والرأي، وليذهب من
أراد أن يشكك إلى جحيم شكّه، ولظى ارتيابه.. تمنّت السيدة مريم الموت والنسيان
لجلالة الموقف فكتب الله لها ولوليدها الحياة المباركة والانتشار، على العكس من
ابنة النجّار التي تشبثت بالحزن والإنزواء فعوقبت بالموت والنسيان في دهاليز
الاحداث المتعاقبة. ماتت نعمة ومات سرّها معها، ابتلعته الصفحات الطويلة، والفصول
الممتدة، وكم ابتلعت رام الله من أسرار قبل الاحتلال المقيت وبعده!
تكنيك اللغة
ثُمَّ يمضي الكاتب في
تشييد البناء الحكائي واللغوي معتمداً على تقنية المزاوجة بين لغة بلاغية فصيحة
عالية تؤثث للتوثيق المعرفي للمكان والأحداث، ولغة فلسطينية عامية دارجة تؤثث للغة
الحوار بين الشخوص يكسر بها رتابة الأحداث وثقلها وينقلك من خلالها إلى زمن
الحكاية بومضة سريعة خاطفة.. يذكرني عباد بصاحب (أرض
السواد)، فقد اعتمد منيف ذات التكنيك المحبب في ثلاثيته الرائعة، إذ قد وثّق
الحوارات باللهجة العراقية الجميلة، وظلتْ على إثر ذلك التوثيق راسخة في أذهان
القرّاء، فقد استطاع أن ينقل القارئ إلى فضاء السرد من خلال تقنية الحوار الثنائي
المزدوج، حوار القارئ بلغة فصيحة عالية، وحوار الشخوص بعاميّة دارجة محببة، وهذا
ما اعتمده عباد هنا في ملحمته الرائعة.
تكنيك العتبات
ينوع عباد علينا
تقنيات السرد وعناصر التشويق فهو يجعل من العتبات السبعة لدار بطرس النجار شخوصاً
يتناوبون سرد الأحداث، فكأنَّ الكاتب يستنطق المكان والشوارع والعتبات، ويجعل
المدينة كلّها تتماهى مع الشخوص وتتلاحم مع حياتهم وذكرياتهم وحنينهم، فهو -أي
الكاتب- يستلهم استنطاق الحجر الوارد في البشارات الدينية، وصراع آخر الزمان ووقوف
الحجر مع جانب الخير المحض، فيوظفها عباد بذكاء كبير لتعزيز الحوار وتكثيف لغة
السرد. فالعتبة - وكما كتبتُ عنها يوما - هي الحيز الضيق بين عالمين رحبين، أحدهما
يفضي إلى اقتحام وولوج، وآخر يغريك بانسحاب إلى عالم ماقبل العتبة الواسع الممتد،
فهي فضاء قلق بين عالمين متناقضين، يؤثثان لخيال جامح، بين إقبال لعالم يثير مكامن
الدهشة، وآخر يتراجع إلى عالَم ما قبل ولوج الحكاية، والخوض في تشعبات الأحداث.. فالعتبة
حين تغريك بالتراجع فهي تمنحك فرصة استنشاق الفضاء الحرّ الخالي من رائحة الذاكرة
وعطن الدهاليز القديمة والممرات الضيقة، وحين تغريك بالمضي قدماً فإنّما تغريك
لأكتشاف المجهول وما غاب عن ذهنك.
فالصوت الذي ظلّ يلاحق عماد
العايش حتى كاد أن يصيبه بالجنون، إنّما هو صوت المدينة الحي، وحجرها النابض الذي
يوثق الحدث فكأنّه كاميرا خفية منصوبة في زوايا الأمكنة توثق مادار فيها من أحداث
ومشاهدات وملاحم على مَرّ تأريخها الطويل. فهي توثق الانتفاضات ضد المحتل وترصد
حركة الثوار الشجعان متمثلة بكمال وجهاد اللذينِ اتخذوا من دار بطرس النجّار
ملاذاً احتموا في ظله بعد رحيل من رحل إلى امريكا وموت من مات في هذه الدار.
سالم وماري
النساء مدن لهنّ
رائحة الحنين، وينجبن حكايات تبقى عصيّة على النسيان وهذا بالضبط مادار بين سالم
وماري.. (بدت له ماري ممكنة، ولكنّها صعبة وبعيدة. تحولت ماري إلى أفكار). ماري هي
المدينة التي ضاعت وسط هذا الضجيج، وهي حكاية عشق للمكان ظلّ يلاحقها في وطنه
ومنفاه ويبحث عنها بين الشوارع والأزقة التي اختفت معالمها كما اختفت معالم دار
بطرس خلف البنايات الشاهقة والأبراج العالية.
أما حكاية خليل
النجّار وتطلعاته العلمية والتبشيرية، وحكاية عماد العايش وزوجته ريما بملابساتها
وأسرارها الدفينة فسأتركها للقارئ يكتشفها على مهل، فالسر كما يقول عباد يحيى يُمرر
خفياً من جيل لجيل، يكبر في الدار.. في صور الألبومات القديمة، وفي الصلوات
والدعوات الكتومة. والأهم في جوف النساء..
0 تعليقات