آخر الأخبار

هكذا تكلم الخوارزمي ... أبو الرياضيات الحديثة

 



 

اكتشف الإنسان الرياضيات من فجر التاريخ، وطورت الحضارات المختلفة أنظمتها الخاصة للرياضيات حسب حاجاتها، فترى الرياضيات الإيرانية الغالب عليها الحساب لحاجة موظفي الدولة إلى حساب الضرائب والرسوم، بينما ترى الرياضيات اليونانية قد عرفت الحساب، فقد كان كثير من اليونانيين تجارًا والتاجر لا يستغني عن الحساب، ولكن الغالب على الرياضيات اليونانية كان مباحث الهندسة وحساب المثلثات اللازمة للفلك والملاحة حيث كان اليونان يعتمدون في تجارتهم وحربهم على السفن والملاحة.

 

قبل ظهور الإسلام، كانت الرياضيات، انتكستا مثل غيرها من العلوم، فمن ناحية عجز الحضارات القديمة عن تطوير أنظمتها الرياضية، فكان أرقى نظامين رياضيين قبل الإسلام هو النظام الهندي والنظام اليوناني/الروماني، أما الأول فكان لا يحتوي على الصفر وهو ما أعجزه عن تطوير عملية الضرب والقسمة للأعداد الكبيرة، وأما الثاني فقد عجز عن استخدام التعبير العددي القائمة على أساس وحدة تبين الآحاد وأخرى تبين العشرات وهكذا، واستخدم قائمة طويلة من الرموز التي تبين الحروف (وهي المعروفة اليوم بالأرقام الرومانية)، وما كانت الرياضيات لتطور باستخدام هذا النظام العددي العقيم؛ ومن ناحية أخرى غلبت على المدارس الفلسفية في العالم آنذاك الأفلاطونية المحدثة ولفيثاغورث المحدثة، وكلتا المدرستين غرقتا في السحر والتنجيم، فتحولت الرياضيات في هذه المدارس إلى أدوات للممارسة هذه الخزعبلات، والتي بقيت لليوم فيما يسمى حساب الحروف الموجود في ممارسات القابالا اليهودية، وقد أزعج هذا الارتباط بين السحر والتنجيم والعلوم أباء الكنيسة الأوائل، فربطوا بين العلم والوثنية، وشنوا حملة شعواء على العلوم جميعًا.

 

وكأي حضارة في سياق الحضارات البشرية، استعارت الحضارة الإسلامية الوليدة مما سبقها من الحضارات، وأضافت إليها ما تحتاج إليه، وسرى الأمر على الرياضيات كما سرى على سائر العلوم والمعارف القديمة التي انتقلت للمسلمين، ولكن يجب أن ندرك أن المسلمين قد عرفوا الرياضيات بناء على حاجاتهم قبل أن يتعرفوا عليها من الحضارات السابقة، فحساب الزكاة والصدقات والفرائض والمواريث استلزمت أن يعرف المسلمين أصول الحساب، وقد دفعتهم حاجاتهم المعقدة إلى تطوير نظام الرياضيات العربي – كما يسميه مؤرخ العلوم اليوم – وهو النظام الذي كان سلفًا مباشرًا ووحيدًا لنظام الرياضيات الذي نعرفه اليوم، وقد نشأ هذا النظام وتطور في بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، وخلال العصر الذهبي للإسلام، ففيها وضع هارون الرشيد لبنة خزانة الحكمة، كمكتبة ومؤسسة بحثية ترعاها الدولة، وإلي خزانة الحكمة جلبت الكتب من أركان الدنيا، ووظف المترجمين ليعملوا في ترجمة هذه الكتب من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية، وفي العام 210 هـ استدعى الخليفة المأمون رجل من خوارزم اشتهر بالبراعة في الرياضيات لينضم لعلماء خزانة الحكمة، وكان هذا العالم يدعى محمد بن موسى الخوارزمي.

 

القادم من خوارزم

 

يقع إقليم خوارزم اليوم جنوب بحر أرال ما بين أوزبكستان وتركمانستان، وقد ولد بطل قصتنا محمد بن موسى الخوارزمي في بلدة صغيرة في هذا الإقليم تسمى خوايا، وعلى الرغم أنه قد قدر لشهرته أن تطبق الآفاق، إلا أننا لا نعرف الكثير عن أصله ونشأته، فهو غالبًا من أصول إيرانية أو تركية، وغالبًا ما كانت عائلته تعتنق الزرادشتية ثم اهتدت للإسلام، ولكنه بحكم اسمه فمن المؤكد أنه قد ولد مسلمًا، وربما يكون مسلمًا من الجيل الثاني أو الثالث، وتاريخ مولده غير معروف يقينًا، إلا أنه الأغلب أنه قد ولد نحو عام 170هـ.

 

لم يذكر من أرخ للخوارزمي كيف تلقى تعليمه ولا عمن تلقى العلم، ولكننا نعرف أنه كان قد اشتهر في بلده بالبراعة في علم الرياضيات، كما كان عالمًا بالفلك والجغرافيا وهي علوم ارتبطت بالرياضيات في هذا الزمان، ولكنه كان أيضًا مؤرخًا وعنه نقل مؤرخ الإسلام الأكبر محمد بن جرير الطبري الكثير من الروايات، ومما ينسب إليه من كتب ترجمها، نعرف أنه قد كان ملم باللغة السنسكريتيه التي كانت تكتب بها المؤلفات الهندية، وكذلك باللغة اليونانية، ومن المؤكد أيضًا أنه قد عرف الفارسية التي كانت شائعة في الإقليم الذي نشأ وعاش فيه حتى وقف على أعتاب الكهولة، كما أنه يعرف العربية التي كتب بها مؤلفاته وترجم إليها.

 

في العام 210هـ، كان المأمون قد استقر على دست الخلافة بعد سلسلة طويلة من الصراعات، وكان المأمون محبًا للمعرفة فبسط رعايته على خزانة الحكمة التي أسسها والده الرشيد، واستدعى لها أشهر علماء زمانه، فكان من أولهم محمد بن موسى الخوارزمي الذي وصل بغداد نحو عام 213هـ.

 

في خزانة الحكمة

 

ما أن وصل الخوارزمي إلى بغداد، حتى كلفه المأمون بمراجعة ترجمة كتاب السندهند، وهو المرجع الأساسي للرياضيات الهندية في هذا الوقت، وكان قد ترجم في عهد المنصور جد المأمون، ترجمه له عالم الرياضيات إبراهيم الفزاري عن اللغة السنسكريتيه، فراجع الخوارزمي الترجمة وصححها، ثم وضع مختصرًا لها عرف باسم كتاب السندهند الصغير، وإلى جانب هذا العمل، كلفه المأمون بمشروع كبير لوضع خريطة كاملة للأرض، وقد عاون نحو سبعين عالمًا الخوارزمي على إتمام هذا المشروع، وراجع الخوارزمي كتب الجغرافيا القديمة واستعان بشهادات العديد من الرحالة والبحارة والجنود على نقد هذه الكتب، ومن ثم وضع كتابه المسمى صورة الأرض وهو عبارة عن ثبت بالأعلام الجغرافية ومواقعها على دوائر العرض وخطوط الطول، وقد استخدم هذا الكتاب كأساس لرسم أطلس من الخرائط كان أهمها الخريطة التي سميت بالمأمونية تيمنًا بالخليفة راعي المشروع، وهي خريطة للعالم المعروف وقتها، وقد فقدت أكثر هذه الخرائط ولم يبق إلا أربعة خرائط، منها خريطة لوادي النيل تظهر منابعه في إثيوبيا.

 

أبو الرياضيات

 

خلال عمله على هذه المشروعات، أدرك الخوارزمي نواحي القصور في أنظمة الرياضيات الهندية واليونانية والفارسية التي كان يستخدمها، ومن ثم عمل على تطوير نظامه الرياضي الخاص، فأقتبس الرموز الأساسية للأعداد الهندية التسعة الأوائل، ثم ابتكر الصفر وأضافه إلى مجموعة الرموز العددية، وهو ما سمح له بتمثيل الأعداد أيًا كان حجمها، حيث يصبح الرمز الأول من جهة اليمين، يمثل الآحاد، ثم يليه العشرات، والمئات وهكذا، كما استعمل طريقة معقدة لتمثيل الكسور العشرية لأول مرة في التاريخ، وهي نفسها الطريقة التي سوف يبسطها العالم الدمشقي أبو الحسن الأقليديسي باستخدام الفاصلة العشرية لأول مرة في التاريخ وذلك بعد نحو ثلاثة قرون من وفاة الخوارزمي.

 

وقد أهمت الخوارزمي مسائل قسمة المواريث أو ما يعرف باسم الفرائض، وقد أدى به هذا إلى التوسع في دراسة المعادلات الرياضية، وكانت المعادلة في مجهول واحد من الدرجة الأولى معروفة منذ زمان المصريين القدامى، وعرف اليونان والهنود معادلات الدرجة الثانية في مجهول واحد، وكانت طريقة حل المعادلات تعتمد على تجريب القيمة واحد فإذا تحققت المعادلة أعتبر الواحد حلها، فإذا لم يتحقق جربوا الرقم اثنين، ثم الرقم ثلاثة إلى أن تتحقق المعادلة، كانت هذا الطريقة تستنفذ الوقت، وقد لا تنتهي بحل المعادلة إذا كانت قيمة المجهول الحقيقية كبيرة، كما أن في معادلات الدرجة الثانية كانت تجد حل واحد من حلين، وعمل الخوارزمي على تطوير طريقة لحل المعادلات وهي الطريقة التي أسماها بالجبر والمقابلة، ووصفها في كتاب حمل اسم طريقته هذه، وهي طريقة عامة لحل المعادلة حيث يعني بالجبر ترحيل الأرقام السالبة إلى الناحية الأخرى من المعادلة، بينما يعني بالمقابلة خصم الكميات المتناظر على جانبي المعادلة، وقد ابتكر طريقة لحساب الجذر التربيعي ليتمكن من حل معادلات الدرجة الثانية.

 

لم يكن ما قدمه الخوارزمي في كتابه الجبر والمقابلة مجرد طريقة حل، ولكن منهج رياضي متكامل سوف يمثل فيما بعد مع الهندسة أحد جناحي الرياضيات الأساسية، وهو العلم الذي سوف يعرف فيما بعد باسم علم الجبر. ويصف مؤرخ العلوم كارل بنيامين بوير في كتابه تاريخ الرياضيات الصادر عام 1968 ما قام به الخوارزمي بأنه قدم أول نظام لحل مجموعة معادلات الفرادى ومجموعات المعادلات المتزامنة – أكثر من معادلة في نفس المجهولات. وكان الخوارزمي يتعمد أن يلحق معادلاته بوصف لخطوات الحل، وهي الطريقة التي تستخدم لليوم في البرمجة، والتي يعرفها كل مشتغل بالبرمجة باسم لغة الخوارزمي Algorithmic language، كم يشار إلى وصف حل مشكلة على هذا النحو باسم الخوارزمية Algorithm. الخوارزمي في أوروبا

 

في القرن الثاني عشر الميلادي، نزعت أوروبا إلى ترجمة علوم العرب، وكان من أوائل ما ترجم كتب الخوارزمي، والتي ترجمت عدة مرات، فترجم الراهب الاسباني جيرارد القرموني Gerard of Cremona الذي كان يخدم بلاط قشتالة كتاب الجبر والمقابلة إلى من العربية إلى اللاتينية وكان قد حصل على الكتاب من أحد مكتبات طليطلة الأندلسية، وترجمه أيضًا راهب إنجليزي اسمه روبرت الشستري كان يعيش في اسبانيا في بلاط ملوك نافارا، نقل الكتاب من العربية إلى اللاتينية، أما الترجمات الأهم فكانت تلك التي قام بها الفيلسوف الإنجليزي أدلارد الباثي والذي حصل على كتب الخوارزمي من صقلية أو أنطاكيا، ومن ثم عكف على ترجمتها إلى اللاتينية، ويحسب له أنه لم يحاول إخفاء شخصية المؤلف إذا نسب الكتب لصاحبها، وإن حرف الاسم في اللاتينية ليصبح الجورازمي، واليوم توجد أربعة نسخة من أدلارد للجبر والمقابلة إلى اللاتينية محفوظة في المكتبة العامة بشارتور، ومكتبة مازاران في باريس، والمكتبة الوطنية في اسبانيا، ومكتبة جامعة اوكسفورد.

 

وقد ظلت ترجمات أدلارد الباثي للجبر والمقابلة تدرس في جامعات أوروبا، حتى منتصف القرن التاسع عشر، حيث كان يعرف الكتاب بعنوانه ديكيست ألجورازمي أو هكذا تكلم الخوارزمي وهي العبارة التي بدأ بها أدلارد ترجمته، وكانت آخر طبعات الكتاب في أوربا تلك التي صدرت عام 1857 في باريس بعنوان Algoritimi de Numero Indorum أو نظام الخوارزمي للأعداد الهندية.

 

الإرث الخوارزمي

 

ضاعت معظم كتب الخوارزمي، وكان مما ضاع كتب مهمة في الفلك، كما أن كتابه مصور الأرض، لا توجد منه إلا نسختين واحدة ناقصة محفوظة في المكتبة الوطنية في مدريد، والأخرى كاملة في مكتبة جامعة ستراسبورج، ولا توجد نسخة واحدة في العالم العربي. وفي العالم العربي، نشر الدكتور مصطفى مشرفة بمعاونة الدكتور محمد مرسي أحمد، كتاب الجبر والمقابلة لأول مرة، وقدم الكتاب وعلق على محتوياته، وأصدره في القاهرة عام 1937.

 

ظل الخوارزمي يعمل في البحث والتأليف في خزانة الحكمة، وربما أضلع ببعض الوظائف الرسمية من آن إلى آخر، حيث يذكر أن الخليفة الواثق أرسله سفيرًا على رأس وفد لمفاوضة ملك الخزر، وتوفى في بغداد نحو عام 232ه، واليوم يعتبره كثير من علماء الرياضيات ومؤرخي العلم أبو الرياضيات الحديثة.


د. وسام الدين محمد


26
جمادى الآخر 1444


19
يناير 2023

إرسال تعليق

0 تعليقات