نصر القفاص
وقعت على رأس "أنور
السادات" ثلاث مفاجآت مذهلة.. غاب "عبد الناصر" فى لحظة مأساوية.. أصبح
رئيسا فى لحظة درامية غير متوقعة.. ثم كان تخلصه من أقوى رجال الحكم حوله, بضربة
كانت – ومازالت – مريبة.. غامضة.. لكنها حدثت!!
كانت "المملكة
العربية السعودية" هى الأكثر دعما له – إقليميا – عبر "كمال أدهم" رجل
مخابراتها البارز, وبدعم من الأمير "سلطان بن عبد العزيز" الأقرب
للمطابخ الأمريكية فى كل العالم العربى.. هنا يجب أن نفتح قوسا يشير إلى "بندر
بن سلطان" ابنه وزوج ابنة الملك "فيصل" ثم نغلق القوس.. ولكل من
يريد الغوص فى هذه "المحمية السرية" أن يذهب إلى مقاعد الدراسة!!
التاريخ ليس ألغازا..
والسياسة يمكن أن تكون "لعبة بهلوانات" تقتل صاحبها.. ويبقى الاقتصاد
علم يرفض القسمة على اثنين.. إذا قرأ الحاكم التاريخ لا يمكن أن يكرره.. ولو مارس
السياسة على أنها دفة سفينة تحمل شعبه, سيكون حذرا ومبدعا.. ويترتب على ذلك أن
تكون له رؤية فى اختيار طريقه الاقتصادي.. سيختار المنهج الذى ينحاز إليه, ويفرض
على من يريد التعاون معه قواعد اللعبة!!
اختار "السادات"
الطريق العكسي لمنهج "ثورة 23 يوليو".. لإيمانه بأنه يملك قدرات غير
عادية.. ولأنه اعتقد أن "عبد الناصر" أفرط فى القراءة مختارا الطريق
الصعب فاحترق كالشمعة.. سلم نفسه – أو تسلمه – رجل السعودية القوى "كمال أدهم"
بعد شهر واحد من توليه المسئولية.. استطاع أن يقاوم مناخ مصر العاصف.. راهن على
معادلة حكم جديدة تعتمد على طرفين.. أحدهما اقتصادي "الفساد", والثاني سياسي
"جماعة الإخوان".. واعتمد لغة خطاب تقوم على أن يقول ما لا يفعل!! خدع "الاتحاد
السوفيتي" بمعاهدة صداقة, أملا فى لفت أنظار "الولايات المتحدة
الأمريكية" حتى خاض حربا لا مفر منها.. كانت "حرب أكتوبر 73" إرادة
شعب وقرار القوات المسلحة.. فاز فى النهاية برضا الشعب ونفذ قرار الجيش.. انتصرت
مصر ورفعت الرأس.. انكسرت "إسرائيل" وأخذ الذهول "الأمريكان" ليتداركوا
الأمر بسرعة.. ظهر "كيسنجر" الذى أصبح "صديقى" ومهد الطريق
للذى جعله "صديقى بيجن" فى طريق السياسة!!
الأهم هو طريق الاقتصاد..
تولت أمره "السعودية" ومعها دول الخليج, التى أرخت له حبل الهبات
والمعونات والقروض.. ضاعفوا ما اعتمدوه لدعم مصر بعد هزيمة يونيو.. أعطوه 731
مليون دولار عام 1973.. زادوا عليه عام 1974 ليصبح مليار و300 مليون دولار, فوقع
اتفاقيات فض الاشتباك مع إسرائيل.. ذهب إلى "انفتاح السداح مداح" وأعلن
استبداله "العزة والكرامة" بأوهام "الرخاء والرفاهية" ليصطدم
بتخفيض الدعم النفطى إلى مليار ومائة مليون دولار.. كان قد فتح باب الاستيراد
وتجاهل معادلات وهموم التصدير.. أهمل الصناعة والزراعة.. بل اعتمد سياسات اقتصادية
تمكنه من قطع الصلة مع "القطاع العام" الذى اعتبره من عناوين ماض يجب أن
ينتهى بسرعة.. اتجه إلى اقتصاد الخدمات.. لم يكترث لتدهور زراعة القطن.. أهتم
باستيراد القمح.. أهمل صناعة الحديد والصلب والنسيج والمراجل والبلاستيك والسكر
والورق والأتوبيسات.. أتجه إلى "مصيدة الديون" لكى يتفاخر بمعدل نمو
وهمى, ليأخذ طريق التضحية بالتنمية من أجل خدمة الديون!!
مطلع عام 1975, فوجئ "أنور
السادات" وسط أفراحه بأن وزير المالية – أحمد أبو إسماعيل – يعلن تحت قبة
البرلمان أن هذا العام هو الأسوأ اقتصاديا.. أكد ذلك "إبراهيم حلمي عبد
الرحمن" وزير التخطيط الذى قال أن حالة الاقتصاد المصرى انتكست لأسوأ مما
كانت عليه فى منتصف الخمسينات!! أخذه الغضب فتخلص من الوزيرين, ومضى فى طريق "الديون"
وطلب " الهبات" من دول الخليج.. صدموه حين اعتذروا عن مسايرته بعد أن
تأكدوا أنه وصل إلى مرحلة "الإدمان" ليضطر "السادات" إلى قول:
"اقتصادنا بلغ درجة الصفر" وهو كلام سمعناه مرة أخرى قبل شهور!! وراح
يبرر ذلك بأن "عبد الناصر" خلف له "تركة ثقيلة".. هنا فتحت له
مصارف أوروبا وأمريكا خزائنها.. وقع قروضا قصيرة الأجل وصلت إلى مليار ومائة
وثمانية وستين مليون دولار.. كانت 148 مليون دولار فقط عام 1970, أى أنها تضاعفت
ثمان مرات!!
كان مطلوبا أن تذهب
مصر إلى اتفاقية سلام مع إسرائيل!!
السبيل الوحيد لأن
تفعل هو أن تعيش أزمة خانقة.. الأزمة تسمح باستثمار فائض ثروة لدى الخليج, بدلا من
تقديمه هبات ومنح.. تولت "واشنطن" ضبط البوصلة, لتقفز ديون مصر من 1,7
مليار دولار لحظة غياب "عبد الناصر" إلى 14, 30 مليار دولار عندما رحل "السادات"
وهنا نتحدث عن الديون المدنية.. أما الديون العسكرية فقد قفزت من مليار دولار إلى 30
دولار لأن الإنفاق العسكري تضاعف بعد توقيع اتفاقية السلام!!
إكتشفت مصر حجم أوهام
"الرخاء والرفاهية" فانفجرت فى 18 و19 يناير 1977!!
فوجئ "أنور
السادات" بأن أحلامه انقلبت إلى "كابوس" فقد تخلت عنه السعودية
ودول الخليج.. ذهب إلى "واشنطن" ليأخذه "كارتر" إلى لحظة صفاء
صارحه فيها بأن السلام مع إسرائيل هو طوق نجاته.. التفاصيل تحملها مذكرات الرئيس الأمريكي..
عاد "السادات" لكى يعلن "مبادرة السلام" ويقرر السفر إلى "إسرائيل"
ثم مضى فى طريق "كامب ديفيد" لتأخذه "عوامات" ما أطلقوا عليه "هيئة الخليج لتنمية مصر"
التى ضخت مليارى دولار – اثنين مليار – فى شرايين الاقتصاد المصرى, بعد إشارة من "صندوق
النقد" الذى أعلن أنه سيتولى ترشيد السياسة الاقتصادية!!
كل ما أكتبه حقائق
ووقائع قد تدفعك للذهول.. وهذا ما حدث!!
فى هذا الوقت كان "غلمان
الأمير" الذين تجرأوا مؤخرا على وصف "جيش مصر" بأنه "العسكر",
يتم تأهيلهم فى عدة ولايات أمريكية.. لم يكن صاحب "دبلوماسية الساطور والمنشار"
قد أبصر نور الحياة!!
رفض "أنور
السادات" الالتفات إلى لحظة ذهبية!!
إنتعش الاقتصاد
المصرى قليلا.. ارتفعت الصادرات نتيجة إصلاح وتطوير القطاع العام.. لكنه ضاعف
الواردات من مليار وثمانمائة مليون دولا, إلى ستة مليارات ومائة مليون دولار.. قرر
أن يأخذ طريق "الديون" بأقصى سرعة.. أغدقت عليه دول الخليج التى كانت
تتولى رعايته وتربية "جماعة الإخوان".. باعتبارهم "خدم" فى
مشروعهم برعاية أمريكية – بريطانية.. طالبوه أن يفسح لهم الطريق أكثر.. أخرجهم من
الغرف المظلمة حيث اختبأوا تحت عنوان "الجماعة الإسلامية" التى زعموا
أنها تمثل التطرف.. أما "الإخوان" فهم "الحمائم" وأهم عناوين
الاعتدال.. ابتلع "طعم جديد" يسهل اصطياد البلاد عن طريقه.. أدرك "بطل
الحرب والسلام" أنه خسر الشعب, مقابل "مجد زائف" استفاد منه "الذين
هبروا" بينما انزوى "الذين عبروا".. لصالح "إسرائيل" التى
حصلت على "بوليصة تأمينها" فى المنطقة.. كسبت السعودية ودول الخليج
الثروة, وتطلعوا لقيادة العالم العربى.. صدمهم وجود "العراق" و"سوريا"
و"الجزائر" كأرقام صعبة.. انضموا إلى آلاعيب تحطيم هذه القوى.. حدث ذلك
بأساليب مختلفة ومتنوعة.. خاصة وأن اغتيال "تجربة القذافى" تحقق
بالإعلام.. وبقيت المقاومة الفلسطينية التى تم تقسيمها, وتفريق شملها.. تمزقت
الخريطة العربية.. تبعثرت الشعوب.. دارت عجلة تشويه وتزوير التاريخ.. ويذكر تقرير
لصندوق النقد الدولى, أن الإنفاق العسكرى فى مصر زاد بنسبة 20% سنويا بعد توقيع
اتفاقية السلام.. استمرت الزيادة حتى بلغت 32% عشية اغتيال "السادات" وذهبت
دول الخليج وباقى الدول العربية إلى سباق تسليح, يستنزف الثروات العربية لتأمين
استقرار الذين لا يهمهم غير السلطة.. كان هذا يعنى قمع الشعوب العربية.. تطور إلى
تسطيح وعيها ودفعها إلى الغرق فى الغرائز, وخلال لحظات الإفاقة تأخذها موجات
التناحر فيما بينها.. وفى الوقت نفسه كان حجم "خدم الملكية والاستعمار" ينمو
وعددهم يتكاثر.. تم استنزاف الذين أدركوا نهاية الطريق, ودارت عملية التخلص منهم
بطرق جهنمية!!
رفع "البترو
دولار" راياته على أرض مصر!!
تمكن "التطرف"
من جسد المجتمع.. تم استخدامه فى معركة "واشنطن" والغرب ضد "الاتحاد
السوفيتى" على أرض "أفغانستان" وتولى إشعال هذه النيران كل من "مصر
السادات" و"السعودية" رغم اختلافهما ظاهريا, بسبب "السلام
المسموم" لتندلع حرب بين "العراق" وإيران" كان هدفها التخلص
من قوى إقليمية تزعج "إسرائيل" كقاعدة متقدمة لكل من "واشنطن"
والغرب.. لعبت "جماعة الإخوان" دورا مهما فى إنهاك "سوريا" وتسللت
إلى "الجزائر" وبقيت كامنة فى دول عربية أخرى!!
أخرج "السادات"
مصر من معادلة "الأمن القومى العربى" وتركها تنازع بجوار جثته لحظة
اغتياله.. بدأت صفحة جديدة من كتاب "تدمير العالم العربى" شارك فى
صياغتها نموذج جديد من الذين حكموا خلال ما تبقى من سنوات القرن العشرين.. وكان
ضروريا أن تبقى مصر "مدمنة قروض وهبات" بجرعات تحفظ غيابها عن الوعى.. من
هنا كان دور "حسنى مبارك" و"على عبد الله صالح" و"زين
العابدين بن على" و"عمر البشير".. وكلهم تولت رعايتهم "السعودية"
باعتبارها مركز دائرة الخليج قبل أن يصبح عدة دوائر مقسوم لها أن تتصارع!!
مات "أنور
السادات" وعاش نظام الحكم الذى أرسى قواعده!!
كيف يفكر الرئيس؟ جمال عبد الناصر ! "6"
0 تعليقات