د. وسام
الدين محمد
موعدنا هذا الأسبوع
مع كتاب لأوروبي آخر اهتد بنفسه إلى الإسلام، وهو كتاب (الطريق إلى مكة) لمؤلفه (محمد
أسد)؛ والكتاب سيرة ذاتية لمؤلفه، كتبها وقد جاوز الخمسين، وهي سيرة ذاتية غير
تقليدية إذ أن مقصود المؤلف ليس توثيق حوادث حياته بقدر ما هو توثيق تحولاته الفكرية
والروحية التي قادته للاهتداء إلى الإسلام قبل أن يكرس حياته لخدمة الإسلام
والمسلمين.
الكتاب في مقدمة
وثلاثة عشرة فصل؛ في مقدمة الكتاب، يتناول فيها (أسد) صورة الإسلام كما تشكلت في
الوعي الغربي، وكيف أن هذه الصورة تخالف حقائق التاريخ، وأنها في أساسها تعكس تعصب
الأوروبي لعنصره، وكيف أفضت به رحلاته في الشرق إلى اكتشاف الإسلام بصورة مباشرة
متحررًا من الأحكام المسبقة، فهذه المقدمة تختزلها عبارة المؤلف التي يقول فيها «حكايتي
ببساطة حكاية اكتشاف رجل أوروبي للإسلام»؛ ويبدأ الفصل الأول وعنوانه (العطش) في
سرد تفاصيل هذه الحكاية، وفي هذا الفصل وعلى خلفية زيارته إلى واحة تيماء، يتداعى
قلمه بذكريات تجواله في الجزيرة العربية، وتعرفه على الأمير فيصل – الملك فيصل
لاحقًا – والذي عرفه على والده الملك عبد العزيز، موضحًا رؤيته لحياة العربي
البدوي في بيئته، وسلوكيات هؤلاء التي تتصف بالمرؤة والكرم، هذا الكرم الذي كان
دائمًا ما يساعده في التغلب على العطش في الصحراء؛ الفصل الثاني وعنوانه (بداية
الطريق) فلا يزال المؤلف في رحلته في جزيرة العرب، ويتذكر كيف عمل بجد على دراسة
الإسلام سواء من خلال القراءة أو من خلال حوارات مع مثقفين مسلمين، ثم يعود إلى
تكوينه الفكري كأوروبي ويهودي، ملقيًا الضوء على أصوله العائلية، وتأثير عائلته
على تكوينه الثقافي في الفترة المبكرة من عمره، ثم استقلاله الفكري مع بداية فترة
النضوج، وتتناثر بين سطور هذا الفصل رؤيته الخاصة عن المجتمع الأوروبي وثقافته في
تلك الفترة المبكرة من القرن العشرين، وضياع القيم الروحية وغلبة المادية على هذا
المجتمع، والتي يرى (أسد) أنها تقف وراء انهيار هذا المجتمع الذي تمثل بوضوح في
الحرب العالمية الأولى؛ الفصل الثالث وعنوانه (رياح)، مشيرًا إلى الرياح التي
تلاعبت به في جزيرة العرب على وجه الرمز إلى تلك الرياح التي تلاعبت بفكره وهو
يبحر على غير هدى بين الفلسفات الغربية وتلك التي تنتمي للشرق الأقصى، قبل أن
تتهيئي له فرصة بالذهاب إلى فلسطين في رحلة طويلة امتدت عبر أوروبا من برلين إلى
إستانبول ثم عبر البحر المتوسط إلى الإسكندرية ثم عبر مصر إلى القدس، وفي فلسطين
لا ينسى أن يقارن بين أوضاع العرب وأوضاع اليهود هؤلاء الشرقيين منهم وهؤلاء
الصهاينة الذين هاجروا من أوروبا، ويظهر في هذا القسم اشمئزازه من الصهيونية على
وجه الخصوص، خاصة من ذلك الحوار الذي دار بينه وبين (حاييم وايزمان) الذي أصبح
فيما بعد أول رئيس لدولة الاحتلال الصهيوني، هذا الاشمئزاز الذي يعبر عنه بوضوح
عندما يتعرض لبعض حوادث الإرهاب الصهيوني في فلسطين وخارجها؛ الفصل الرابع وعنوانه
(أصوات) وهو الفصل الذي يتناول فيه فترة عمله كمراسل صحفي في بلدان عربية مختلفة،
معلقًا على الأوضاع السياسية في هذه البلدان التي كانت تشهد جهادًا مستمرًا ضد
الاحتلال الأجنبي، مبينًا كيف حاول أنصار الاستعمار من السياسيين والمثقفين
الأوروبيين خداع شعوبهم بزمهم ان هذا الجهاد سببه كراهية العرب الفطرية
للأوروبيين، متنقلًا خلال عرضه للأحداث ما بين مصر والشام وفلسطين؛ أما الفصل
الخامس وعنوانه (روح وجسد) ويروي فيه عن عودته لأوروبا، واكتشافه ذلك الفصام بين
الروح والجسد، أو بين مملكة السماء ومملكة الأرض، والذي يختصره في عبارة انجيلية
تنسب للسيد المسيح نصها «ما للرب للرب، وما لقيصر لقيصر»، ومن ثم يقارن هذا الفصام
بالنظرة المتكاملة للروح والجسد الموجودة في الإسلام، هذه النظرة المتكاملة التي
سوف تؤدي فيما بعد لاهتدائه إلى الإسلام؛ الفصل السادس وعنوانه (أحلام) ويخصصه
لعرضه لتاريخ تأسيس المملكة العربية السعودية بصورة عامة وعلاقته بالملك
عبد العزيز بصورة خاصة؛ الفصل السابع وعنوانه (في منتصف الطريق) وهو فصل يعود فيه
إلى ذكر تنقله بين القاهرة والجزيرة العربية والشام، ولكن جوهره هو علاقته بالشيخ
مصطفى المراغي، والذي كان شيخًا للأزهر وتلميذًا لمحمد عبده، ومن خلاله تعرف (محمد
أسد) على فكرة الحركة الإصلاحية الأزهرية؛ الفصل الثامن وعنوانه (جن)، وفيه يعود
إلى سرد الأحداث السياسية في المملكة العربية السعودية في ثلاثينات القرن العشرين،
ورحلاته إلى المناطق المتاخمة للعراق والكويت والشام، كما يخص الأعمال المتعلقة
بالتحديث مثل إدخال خطوط التلغراف والهاتف إلى الجزيرة العربية؛ الفصل التاسع يحمل
عنوان (رسائل فارسية)، ومن خلال مجموعة من الرسائل التي ترد المؤلف من صديق إيراني
كان قد تعرف عليه عند زيارته إلى جنوب إيران، يعرض المؤلف الظروف التاريخية في إيران
في هذه الفترة وصراع القوى الأجنبية، روسيا وبريطانيا وألمانيا، على هذا البلد،
والظروف التي أدرت إلى ارتقاء رضا بهلوي عرش إيران؛ الفصل العاشر عنوانه (دجال)،
وفي هذا الفصل يصف صورة الإسلام التي تكونت في ذهنه أثناء إقامته في المدينة
المنورة على صاحبها الصلاة والسلام، من خلال دراسته للمؤلفات الإسلامية ومن خلال
حواراته مع أحد الشيوخ، ويتوقف كثيرًا عند موضوع الدجال حيث يصرح بأن أوروبا قد
تحولت إلى عبادة الدجال منذ قرون، يعني بذلك أنها اعتنقت قيم مادية كاذبة لم تحقق
لها سوى مزيد من الضياع الروحي والفشل الاجتماعي في صورة الحروب وصعود الفاشية، ثم
ينتقل إلى ذكريات رحلته في أفغانستان ومن خلال هذه الذكريات يحمل المسلمين أنفسهم
مسئولية مشكلاتهم الحضارية والتي يعزوه إلى ابتعادهم عن صورة الإسلام النقية؛
الفصل الحادي عشر عنوانه (جهاد) وفيه يروي قصة تعرفه إلى السيد أحمد السنوسي،
راويًا سيرة هذا العالم المجاهد، وعارضًا للمشروع الإصلاحي والجهادي للسنوسية في
ليبيا، ثم ينتقل إلى استعراض صفحة من تاريخ ليبيا الحديث كان له دورًا في كتابتها،
وهو تاريخ الجهاد ضد الاستعمار الإيطالي، ذلك الجهاد الذي قاده البطل الشهيد عمر
المختار؛ وأخيرًا يأتي الفصل الثاني عشر وعنوانه (نهاية الطريق)، والذي جعله الفصل
الختامي حيث يخصصه لرحلته للحج، والتي اعتبرها نهاية طريقه إلى مكة، والتي يعثر
فيها على أصل الإيمان، رابطًا بين الإسلام رسالة الرسول (محمد) صلى الله عليه
وسلم، والتي تمثل الصورة النهائية والكاملة من تلك الرسالة التي حملها نبي الله (إبراهيم)
جد النبي، صلاة الله وسلامه عليهما، ولا يفوت (أسد) في نهاية كتابه في هذا الفصل
على التأكيد على فكرته من أن الإسلام دين يجمع بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة
من خلال استعراض تاريخي مصغر لدور المسلمين في الحضارة، مؤكدًا من جديد أن مسئولية
الانحطاط الحضاري للمسلمين تقع على عاتقهم بسبب ابتعادهم عن الإسلام الأصيل.
الكتاب متاح في عدد من
الطبعات، منها طبعة (مكتبة الملك عبد العزيز العامة) بالرياض، وطبعة ثانية (المشروع
القومي للترجمة) عن (المجلس الأعلى للثقافة) في مصر، وطبعة (منشورات الجمل) وهي
الطبعة التي بين يدي والتي اعتمدت عليها في هذه المراجعة، وهي أيضًا الطبعة
الموجودة في الرابط.
ولد (محمد أسد) باسم (ليوبولد
فايس) في العام 1900 فيما كان يعرف آنذاك باسم (الإمبراطورية النمساوية المجرية)،
لأبوين يهوديين، ودرس الفلسفة في جامعة فيينا، ثم عمل مراسلًا صحفيًا في مصر
وفلسطين والعراق، حيث اطلع على الإسلام عن قرب، واهتدى إلى الإسلام في العام 1926،
ومن ثم ذهب للحج في العام التالي وبقي في الجزيرة العربية لفترة، قبل أن يغادرها
الهند، ليساهم في إنشاء دولة باكستان، والتي منحته عقب الاستقلال الجنسية
الباكستانية تقديرًا لجهوده التي بذلها من أجل إنشاء باكستان، وأصبح فيما بعد
مندوب باكستان في الأمم المتحدة، وفي السنوات الأخيرة من حياته أختار الإقامة في
اسبانيا والتفرغ للبحث والكتابة إلى أن وافته المنية عام 1992 في مدينة غرناطة.
وقد
تأثر (محمد أسد) في فكره بالمدرسة الإصلاحية الأزهرية المحافظة ممثلة في الشيخ
محمد عبده والشيخ المراغي، وترجمت بعض من كتبه إلى العربية منها هذا الكتاب الذي
نعرضه اليوم، وكتاب (الإسلام على مفترق الطرق)، ولم يترجم أهمها مثل ..
(رسالة القرآن The message of the Quarn) و (صحيح البخاري والأيام الأولى للإسلام Sahih Al Bukhari The Early Years Of Islam).
0 تعليقات