دار حوار جانبي
وافتراضي، على مدار اليوم، مع أخ حبيب، حول واقع ما يسمى بالدراما التاريخية،
وخاصة ذلك المسلسل الذي يتناول حياة الشافعي. ولما تأملت حواري معه، تيقنت من
أمرين، الأول هو ما اعتقده من أن التأريخ للفكر أصعب من التأريخ للمفكر، والثاني
أن هناك حالة من العطش بين الشباب لمعرفة تاريخهم عامة، وتاريخهم الفكري والحضاري
خاصة، وهذا العطش يجعلهم كلما تراءى لهم في الأفق منظر ماء، يندفعون نحوه، فإن
أدركوه ربما حصلوه سرابًا خادعًا، أو ربما ماء آسنًا لا يشرب، وإن شربه المضطر
أسقمه، ويدرك سعيد الحظ الماء العذب الزلال البارد فيرتوي، وكم من بائس قتلته
صحراءنا الثقافية عطشًا، وقليل هم سعداء الحظ.
إن التاريخ السياسي
والحربي قد طغى على تاريخنا الثقافي والفكري، وإنك لتجد رفوف المكتبة التاريخية
ألف كتاب عن الدولة الأموية وألف أخرى عن الدولة العباسية، ثم لا تجد بضعة كتب عن
مفكر أو مدرسة فكرية من هذا العصر، وقد فتح هذا الأمر الباب لكل طاعن، وجاء خلفه
مائة ناعق، حتى ظن السفيه أن حضارة أربعة عشر قرنًا خالية من الفكر والثقافة، وليت
شعري كم ضلل هذا التسطيح الناس؟
والحق أقول، أن تاريخنا الفكري والثقافي وعته
كتب التراجم والرجال والطبقات، ولكن البحث في التاريخ السياسي والحربي أوفر لوفرة
مصادره ووضوحها، بينما يستلزم البحث في التاريخ الفكري الغوص في مصادر تاريخية
وأدبية ودينية، واستخراج أسرارها، ثم وضعها على طاولة التشريح، لبناء صورة التاريخ
الفكري، وهو لعمر الله أمر مجهد، ربما استنفذ عمر وطاقة وموارد الباحث قبل أن يصل
إلى شيء في بحثه.
ومع هذا، فإن هناك
مراجع علمية عديدة أفردها أصحابها تتناول التاريخ الفكري للمسلمين، منها ما أشتهر
مثل أعمال أحمد أمين – فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام ويوم الإسلام – ومنها
ما لم يشتهر، ومنها ما كان عامًا في تناولها، مثل أعمال أمين المذكورة، ومنها ما
خص ناحية واحدة من نواحي الفكر، ومن بين جميع نواحي الفكر الإسلامي، كان تاريخ
الفكر الفقهي الإسلامي الأوفر حظًا، بدارسات تناولت تاريخه وأعلامه ومدارسه، وقد
أردت أن أرسم هنا خريطة لأهم مراجع هذا التاريخ، لعل يروى العطشى إلى هذا النوع من
التاريخ، ويصرفهم عن السراب، ويصدهم عن الآسن من الماء.
أفضل ما كتب في تتبع تاريخ
الفقه الإسلامي في العصر الحديث، ما الفه الشيخ محمد بك الخضري، بعنوان (تاريخ
التشريع الإسلامي) وهو كتاب جامع لتاريخ الفقه الإسلامي في مراحله المختلفة، يرسم
ملامح تياراته ويتتبع تطورها، وهو يعتبر بمثابة خارطة طريق لمن يرغب في الوقوف على
تطور التفكير الفقهي الإسلامي منذ نزول الوحي وحتى العصر الحديث.
الكتب التي تناولت
سير أئمة المذاهب كثيرة، منها ما غرضه الثقافة العامة، مثل كتابي عبد الرحمن
الشرقاوي (أئمة الفقه التسعة) و(ابن تيمية الفقيه المعذب)، وعبد الرحمن الشرقاوي
شاعر وأديب ومسرحي، اشتهر بروايته الأرض التي تحولت إلى عمل سينمائي، ولذلك غلبت
على كتابيه النزعة الأدبية.
أما تلك التي تناول
سير أئمة المذاهب باعتبارها سير فكرية، فمنها من غاص وتعمق في الفكر حتى أصبح أقرب
إلى دراسة الفقه المقارن منه إلى التاريخ الفكري، ومنها من اكتفى بالتتبع الزمني
لحياة الشخصية التي يؤرخ لها فكان تناوله لفكرها تناولًا سطحيًا، ومنها ما التمس طريقًا
وسطًا، يوازن فيه بين الإنسان وفكره، ومن أبدع ما كتب بهذه الطريقة، ما كتبه
المستشار عبد الحليم
الجندي من سير للأئمة، (الإمام
جعفر الصادق) و(أبو حنيفة، بطل الحرية والتسامح في الإسلام) و(الإمام مالك بن أنس،
إمام دار الهجرة) و(الإمام الشافعي، ناصر السنة وواضع الأصول) و(أحمد بن حنبل،
إمام أهل السنة).
أما ذروة سنام في هذا
الأمر، هو ما كتبه العالم الجليل الشيخ محمد أبي زهرة، (الإمام الصادق، حياته
وعصره، آراؤه وفقهه) و(الإمام زيد، حياته وعصره، آراؤه وفقهه) و(أبو حنيفة، حياته
وعصره، آراؤه وفقهه) و(مالك، حياته وعصره، آراؤه وفقهه) و(الشافعي، حياته وعصره،
آراؤه وفقهه) و (ابن حنبل، حياته وعصره، آراؤه وفقهه) و(ابن حزم، حياته وعصره،
آراؤه وفقهه) و(ابن تيمية، حياته وعصره، آراؤه وفقهه)، وهي مؤلفات جامعة للسير
والأفكار، يبدأ المؤلف من الشخصية، ثم ينتقل إلى تشكل فكرها، ثم تشكل المدرسة التي
تبنت هذا الفكر.
وأحسب أن في هذه
الكتب ما يغني عن دراما العبث التاريخي، وتروي المتعطش للمعرفة الحقة، أما الكسول
والخامل فحسبه أن يجلس كبلاص خالي أمام الشاشات يملئها كل من هب ودب بما أراد.
والله من وراء القصد
د. وسام الدين
محمد
الرابع من رمضان 1440
هـ
السادس والعشرين من
مارس 2023م
0 تعليقات