آخر الأخبار

( الجزء الثانى ) من القبلة إلى القبيلة






( الجزء الثانى )
من القبلة إلى القبيلة







محمود جابر

قبل البدء :
من الجدير أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يطبق نموذج الحكم فى المدينة كنموذج تنزلي مطلق، أو نموذجا موحى بشكل كامل، ولم يكن النبي - منفذا للأمر - الإلهي ولكن الإبداع النبوي والشريف فى ابتكار نموذجا حكم رشيد يتفق مع الواقع المحيط وموظفا لعناصره المتاحة ........
-------
أن مشروع دولة المدينة الذي أقامه النبي صلى الله عليه وآله رغم طابعه التجديدي الذي حرص أن يظهر به - دائما - كان منطلقا من عناصر قديمة أمكن ترشيدها وتشذيبها وتوظيفها من جديد، خدمة لنفس المشروع . فهو - صلى الله عليه وآله - إذ رفض العصبية القبلية، أبقى على القبيلة كوحدة اجتماعية، بعد أن وظفها داخل فكرة الأمة كوحدة " سياسية" تخضع للقانون العام والشرع الواحد المطبق عل الجميع الذي يعيد تنظيم الحياة الأخلاقية والاقتصادية والسياسية .
ويحضرني فى هذا الخصوص المرجع - العراقي - محمد اليعقوبى ودعوته لتكوين مجلس للعشائر العراقية، فبناء الدولة الحديثة فى العراق لا يعنى الضغط على زر وإلغاء هذه التكوينات الاجتماعية من الفعل السياسي والاجتماعي فى بلد كالعراق ولكن يحسن بمن ينطلق من رؤية إسلامية أن يعيد تهذيب وترشيد العشائر وإعادة دمجها فى المجتمع وفق الرضا العام والقانوني .
وعودة على بدء ... فالنبي صلى الله عليه وآله من خلال " صحيفة المدينة " أو دستورها " المكتوب " اظهر لنا هذا البديل السياسي والاجتماعي وما يحتويه من قبائل وعشائر ويهود وصفهم بأنه " أمة مع المؤمنين " .
لقد كان مشروع " البديل " السياسي فى المدينة متعارض ومتقابلا مع النظم المحيطة بالمدينة وبشبه الجزيرة العربية ككل، لهذا كان النبي مدركا للأخطار المحدقة بالجزيرة العربية من قبل الفرس والروم وعملائهم من عرب الجزيرة مثل الغساسنة والمناذرة . بل لقد تحقق هذا الخطر حين عزم الروم على غزو " الدولة" الإسلامية الفتية فى عقر دارها ، مباشرة بعد انتصارهم على الفرس، الأمر الذي حمل الرسول صلى الله عليه وآله على الإعداد لغزوة " مؤتة" في السنة الثامنة من الهجرة ، ثم لغزوة " تبوك " في السنة التالية .
هكذا ندرك كم كانت الاعتبارات " السياسية" فى أكثر من موقف اتخذته الدولة الإسلامية الجديدة، على المستويين الداخلي والخارجي . ولهذا سارع ذلك البديل الإسلامي الجديد ، فى خضم تلك التحديات الداخلية والخارجية، إلى بث مفاهيم سياسية تقدم نفسها كبدائل مناقضة لما كان سائدا على الساحة العربية والخارجية . والأحاديث النبوية كثيرة جدا فى الإشارة إلى تحديد مفاهيم السياسة المركزية ، ومفهوم المراقبة ، سواسية الأفراد أمام الشرع، إضافة إلى المعارضة الصريحة لشكل النظام السياسي القائم فى دولتي الفرس والروم .
ونستطيع وأخيرا، فى ضوء هذا الحضور السياسي الذي رافق ميلاد وتطور دولة المدينة أن نبدى ملاحظتين أساسيتين :
أولاهما : إسهام مميزات خصائص تلك الظاهرة في إبراز مبررات الاصطدام مع القوى الموجودة على الساحة الخارجية، وهو اصطدام لم يكن مستبعدا، خصوصا أن هذه القوى لم تستسيغ أن يدخل ضمن هذا المشروع أناس كانوا بالأمس القريب، محط ازدراء، وهذا ما يفسر سلوك الفرس مع مبعوث النبي إليهم .
علاوة على أن هذا البديل قد أغرى " رعايا" تلك القوى السياسية الخارجية، أن يلتحقوا به باعتباره منقذا سياسيا وعقائديا هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فان الانصهار والتآلف بين عناصر المجتمع الجديد الذي شكل ( أمة) واحدة، هذه الأمة قابلة للاتساع بفعل قابليتها دون قيد أو شرط في انخراط عناصر جديدة فيها وتبوئهم أعلى السلم الاجتماعي والوظيفي بشرط واحد هو أن يكونوا ضمن هذه الأمة سواء بالإسلام أو الدخول فى عهد مع الدولة، وهذه الحالة من الانصهار والألفة كان لها انعكاساتها على تطور المجتمع والفكر .
الثانية :
يتحتم القول والتأكيد هنا أن الإسلام يمتلك في ذاته بحكم بنيته وخطابه الأساسي ، وانطلاقا من صورته التي أتى بها إلى الوجود كمجدد وناقد ومراجع ومصحح ، يمتلك أكثر من غيره الوسائل والمبررات التي تجعل ممارسة " الحوار" ضرورة شرعية وأمرا مطلوبا ، شريطة أن يكون هذا الحوار مع الآخر المخالف ليس هو التلفيق ، بل التوفيق .
التوفيق الذي يسعى إلى معرفة الواقع والوقوف على أسباب الخلاف وتطور لأحداثه ولمواقفه الفكرية والعملية ، بل والحكم له أو عليه حكما بالقسط قائما على أساس من العلم والمعرفة .
ثم إن القرآن لصريح في وجوب ربط علاقة من الحوار قائم على الود والتعايش مع الآخر المخالف، سواء فيما يخص العقائد أو الأمور العملية والأخلاقية وكان حاكم الخلاف هنا هو العقل حينما تختلف المرجعيات العقدية قال تعالى ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) البقرة 136.
فان لم يبقى من سبيل لحسم الخلاف، فعلى الجميع أن يرجع إلى الله تعالى بشكل مباشر (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) آل عمران 61.
وان لم يحسم الخلاف في كل هذا فعلى الأمة الواحدة أن تحافظ على روابط الود والألفة مع المخالفين عقائديا فى هذا الأمة ( لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ  إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الممتحنة 8.
وعلى الرغم من أن الإسلام جاء بنزعة إصلاحية نقدية ناسخة لغيره من الشرائع التي طالتها انحرافات عقائدية ، فان ذلك لم يثنيه عن الاعتراف بالحق الشرعي والأصيل فى وجود تلك الديانات، وحق أصحابها فى الحياة، وحقهم الأصيل فى الإسهام فى بناء المجتمع الواحد، بل إن النبي جعل " الميثاق" أو " العهد" لأصحاب تلك الديانات أمر لا يتم إيمان المسلم إلا بحفظه، ووضع نفسه صلى الله عليه وآله فى خصومه مع من ينقض أو يعتدي على أصحاب هذه الديانات الذين يشكلون مع المسلمين أمة واحدة .
وهذا الأمر يعتبر فتحا غير مسبوق فى تاريخ العلاقات بين الديانات، وتلك علة قوية من علل بقاء المسيحيين واليهود وغيرهم فى وسط بيئات ذات أغلبية مسلمة، فى حين زالت الأقليات المسلمة وفنيت فى ظل المجتمعات الوسطى التي حكمت بالمسيحية أو غيرها كما حصل فى الأندلس والبلقان وروسيا والصين وغيرها .
ومن الجدير بالذكر ختاما ....
---
إن النصوص القرآنية تميزت لأول مرة في تاريخ الدعوات الدينية الكتابية، بعرض القضايا والأطروحات العقدية عرضا نقديا فى أسلوب واضح تمتزج فيه الحجج والمناظرة وطلب الإقناع والحرص على ظهور البرهان، وهو الأمر الذى حرص اغلب متكلمى الإسلام وفلاسفته على تأكيده وتطويره انطلاقا من القرآن ذاته ...



إرسال تعليق

0 تعليقات