إبراهيم خليل الرحمن (2)
بقلم / أسامة الدباغ
تحدثنا في الجزء الأول عن نبذة تاريخية عن حياة النبي
إبراهيم ومكان مولده وبعض مما يذكره التأريخ، وقلنا بأن تلك المعلومات لا يعتمد
عليها بما فيها من صحيح وسقيم!!
المستوى الأول: وهو مرحلة الدعوة لدين الله .
المستوى الثاني: وهو مرحلة الصدام المباشر.
ونبدأ على بركة الله في المستوى الأول ونقرأ في سورة
الأنعام ما جاء عن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ
وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿74﴾، نلاحظ أن بداية الدعوة للمقربين (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ
الأَقْرَبِينَ)، لكن الرأي الأقوى والأصح هو إن (آزر) ليس والد إبراهيم بل هو عمه،
وأرى حسب ما أوضحتاه في بحث ابتلاء يعقوب النبي وقلنا هناك بأنه أي (آزر) هو كبير
القوم وهذا أقرب للصحة بدليل الآية المباركة ذاتها (إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ)، حيث خاطبه كونه كبير القوم فإذا اهتدى كبيرهم اهتدى الآخرون،
وهناك أقوام آخرين ولكن هو بدء بقومه، والضلال المبين هو نظام مخالف لنظام السماء
أي كما قلنا من قبل هو نظام الشيطان ضد النظام الإلهي من خلال ما يعبدون من إلهة
وأصنام وهم اتخذوا من ذلك النظام قانون وديانة مخالفة لدين الله وشرائع أنبيائه،
ودعوة إبراهيم لهم لأعادتهم الى النهج القويم والدين الواحد، الداعي لعبادة الله
سبحانه ونبذ كل إله وصنم مادي ومعنوي، ومن خلال عبارة (ضَلَالٍ مُبِينٍ) يتضح لنا
حال ذاك المجتمع الذي قست قلوبهم عن ذكر الله (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ
ذِكْرِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴿22﴾الزمر، وصف دقيق لذلك المجتمع الذي
بعث فيهم الخليل إبراهيم بكل ما يحملون من قساوة القلوب وبعدهم عن نور الإيمان،
وقد رأى إبراهيم ملكوت ربه العظيم في السموات والأرض، (وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴿75﴾، نلاحظ كلمة (نُرِي إِبْرَاهِيمَ)
فهل هي النظر الأعتيادي، بدليل الآية المباركة في سورة الأعراف (أَوَلَمْ
يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ
شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ
بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴿185﴾، إذاً هي للجميع ليتفكر وينظر في ملكوت السماء والأرض ولكن هناك
من يرى ويؤمن بتلك الآيات وهناك من يكفر ثم يرغم عليها كما هو حال فرعون وهامان
(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا
مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴿6﴾القصص، فلابد للإنسان أن يرى ويصدق ليتبين له الحق بالفهم النظري
برؤية واقعية، (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿53﴾فصلت، لذلك إبراهيم عليه السلام بحث
وتيقن في ملكوت الله ثم توجه للقوم ليحاججهم في (مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، فتوجه لهم وهم مجتمعين فكأن القوم
في مؤتمر عالمي كبير كحوار الديانات، وهذا ما يجب أن نفهمه فأن التصوير القرآني يوضح
لنا الحجم الكبير لتلك الدعوة فابتدأ خليل الرحمن بأول دخول الليل (فَلَمَّا جَنَّ
عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ
﴿76﴾، توجه إبراهيم الخليل أولاً إلى من
كانوا يعبدون الكواكب وهم مولعون بحركتها ومنازلها (الأبراج) والذين يعتقدون أنها
تمنحهم الخصب والنماء وتمنع عنهم الكوارث والحروب، (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ
اللَّيْلُ)، ومعنى جن أي أَظْلَمَ، واِشْتَدَّ ظَلاَمُهُ، فرأى كوكبا من الكواكب
التي يعبدونها فقال هذا ربي؟؟ وهو يشير هنا للسؤال والاستفهام، كالذي يعرف الجواب
ولكنه يسأل ليعرف غيره الجواب بالدليل بعد التفكير والتأمل، وهنا يجب الإشارة إلى
مسالة مهمة جداً وهي أنه قال هذا ربي ولم يقل هذا الهي !!!
لأن الناس يعبدون إلهة وأرباب بما تهوى أنفسهم
وفق نظام شيطاني مخالف عبادة الواحد الأحد على الرغم من علمهم بوجود إله واحد لهذا
الكون، والدليل على ما أقول هو نفس سورة الأنعام (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ
أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا
تَتَذَكَّرُونَ ﴿80﴾، وسنعود للكلام عن هذا بعد أن يُكمل إبراهيم الخليل احتجاجه مع
بقية الناس المجتمعين في ذلك المؤتمر، (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ
هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ
قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴿77﴾، أنتقل لمن يعبدون القمر بعد أن
أفل الكوكب وعاد ليسألهم (هذا ربي) ؟؟؟
لاحظ التدرج بالاحتجاج عندما غاب الكوكب قال
(قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ولما أفل القمر قال (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي
رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)، عاد ليذكرهم بربه هو (رب
إبراهيم) خليله الرحمن !!!، لأنه ربٌ غير أربابهم !!
(قَالَ لَئِنْ لَمْ
يَهْدِنِي رَبِّي) ثم أشار إليهم بأنكم قوم ضالين !!! (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ
بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ
مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴿78﴾، نلاحظ دقة الكلام قال هذا أكبر على اعتبار الشمس وحقيقتها بما
تعطي من ضوء للقمر والكواكب، ورغم ذلك فهي أفلت أيضاً، وهنا أعلن بكل صراحة وقوة
براءته من كل تلك الأرباب وقال لهم انتم لستم ضالين فحسب بل أنتم مُشركين (يَا
قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)، وبهذا القول يكشف لنا حقيقة أولئك
المؤتمرين بعد أن فهمنا أنهم قوم ضالين صاروا الآن ضالين ومشركين، ثم أعلن وجهته،
وتبرء منهم حيث قال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿79﴾، رب إبراهيم هو من فطر السموات
والأرض، وهو من هداه إلى الحنفية، والحنفية معناها في اللغة: حنف، الحنف: هو ميل
عن الضلال إلى الاستقامة، والجنف: ميل عن الاستقامة إلى الضلال، فبعد أن مال وتبرئ
عن ما يتبعون ضج الناس عليه وارتفعت أصواتهم بالاحتجاج، (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ
قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ
بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا
أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴿80﴾، هو يعلم أنهم يعرفون الله سبحانه لذلك أستنكر احتجاجهم لذلك قال
(أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ)، وسؤاله استنكار لما يخفونه في
أنفسهم من معرفة بالله الواحد الأحد وإظهارهم للشرك، ولشدة كلامهم وتهديدهم
وتخويفهم له وإنكارهم عليه بما أقام عليهم من حجة قال لهم (وَلَا أَخَافُ مَا
تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ
عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴿80﴾، يقول أن تهديدكم لا يُخيفني لأنه وضع ثقته بربه ويعلم أن الأسباب
بيده وذكرهم بمن قبلهم من الأقوام التي كفرت كقوم نوح وعاد وثمود (أَلَمْ
يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ)التوبة 70، لاحظوا قوة الأيمان في الخط الإلهي ترعب كل جموع خط الشيطان
المجتمعين رغم اختلاف عباداتهم ولكنهم متوحدين على خط الشيطان، فتكاثروا عليه
بتهديدهم ولكنه لا يخافهم بل يستمر في احتجاجه عليهم حيث قال (وَكَيْفَ أَخَافُ
مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿81﴾، كلام يرهب القلوب ويذيب عنها العمى والغفلة، فهو كلام من أمتلئ
قلبه إيماناً بالله، لأن القوم احتجوا عليه وحذروه من لعنة الكواكب وغضب القمر
وأخافوه من زعل الشمس إذا لم يعبدها، فقال لهم أن ذلك شرك بالله، بل أنتم خافوا من
هو خالق الكواكب والقمر والشمس، يقول لهم فأنتم لا دليل لكم على هذه العبادة ثم
يشير إلى مفصل مهم بأن هناك فريقين أحدهم آمن والآخر خائف، فريق يعبد الله وفريق
يشرك بالله وهو واضح دائماً على مدى الحياة، الخط الإلهي والخط الشيطاني، وهو سلام
الله عليه أوضح لهم بأن هذه العبادات هي من فعل الشيطان ما أنزل الله بها من
سلطان، لأن السلطان يأتي مع الخط الإلهي فيريد أن يقول لهم أنا معي ذلك السلطان
الذي يهديكم إلى الصراط المستقيم، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴿82﴾، وهنا إشارة مهمة لمن آمنوا بأن
الخوف لا يقترب منهم أبداً فالمؤمن الحق يكون دائماً في أمن وأمان لأنه يسير بهدى
الله سبحانه (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً
يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ
فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴿112﴾النحل، وهذا الآية المباركة توضح
معنى الأمن والأمان الذي يبحث عنه الفرد في كل المجتمعات.
(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ
نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴿83﴾، ما أعظمها من حجة واحتجاج خرج منها نبي الله إبراهيم منتصراً،
ورُفع له من الدرجات عند ربه وخليله الرحمن ......
وللحديث تتمة ...............
والحمد لله رب العالمين
0 تعليقات