آخر الأخبار

فلاحون في المدينة





فلاحون في المدينة

خالد الأسود
قصة
( ٤ )


ألقينا أجسادنا على الملاءة، بالغ صلاح وابن عمي في التعبير عن سعادتهما بالراحة التي اقتنصاها من عمي، ابتسم الرجل ابتسامته المتسامحة، انضم لنا، تناول قلة الماء التي رفعتها له بذراع مرتعشة..

تغيرت النظرة في عيني عمي، ظهرت القسوة فيهما للمرة الأولى منذ زيارتي، التفت لمحمد المتسخ:

- ما تتحرك يا واد يا محمد! فضي القفة وكوِّم السباخ في مطرحه.
لم تزُل النظرة الحاقدة في عيني الصبي الملعون، تحرك في تكاسل مستفز وأخذ يفرغ السباخ الذي جمعه من زرائب القرية وطرقاتها بتوجيه ابن  عمي..

“محمد سباخ” يكبرنا جميعا في السن، لم يفلح في التعليم وربما لم يحاول قط..

حكى صلاح حكايته كاملة..
أبوه كان من عمال التراحيل في زمن الملكية، نال خمسة أفدنة من الحكومة بعد ثورة الضباط، تحايل وباعها، ذهب بثروته للبندر واختفى بضع سنوات، لم يعلم أحد كيف أضاع ثروته الصغيرة، عاد للقرية عاملا أجيرا كما كان، زاد عليه امرأة طويلة نحيفة تصبغ وجهها محاولة التشبه بنساء البندر، محاولتها الفاشلة لم تضف عليها إلا مسحة مبتذلة كرهتها الريفيات الجميلات المحبات البساطة..

رغم أن المرأة النحيلة كانت تحمل رضيعا على كتفها، وتجر طفلين قذرين إلا أنها لم تتوقف عن الإنجاب، صارت القرية معتادة على مشاحنات الزوجين وصريخ الأطفال، مات الرجل وزوجه بعد سنوات، تركا خلفهما قبيلة من الأطفال، ساح نسله في القرية والقرى المجاورة يبحثون عن أرزاقهم والمحسنين..


بقي محمد في قريتنا، أصبح مسئول القرية عن جمع فضلات الحيوانات من الطرق والزرائب، يقوم بتوزيعها على الحقول نظير نفحات يجود بها الفلاحون عليه، اكتسب اسمه من حرفته، عرف باسم الواد محمد سباخ، تسامحوا معه لظروف يتمه، لم يخف عليهم الحقد الأسود..


لم نخرج تلك الليلة لنزهة الحقل كما توقعت، ظهر صلاح بعد العشاء، غادرنا سريعا، نمت ليلتها كما لم أنم من قبل، نوم عميق، استيقظت وحدي مع لفحة الفجر الباردة تغزو الحجرة التي خصصوها لي مع ابن عمي، عضلات جسمي ممزقة، عظامي تئن مع كل حركة، رغم ذلك شعرت بقوة تسري في عروقي، أحببت تيقظي قبل ابن عمي، ذهبت للاغتسال، عدت للحجرة لأجده جالسا، ابتسامته الفخور أسعدتني..


جاء صوت صلاح الذي انتظرته، أجبته مسرعا، أسرعت أفك الحمارة البيضاء، ابتسم لي صلاح وأنا قادم وحدي أجر الحيوان الصغير، قفزت فوق الحمارة، حرصت على استرجاع كل التوجيهات التي ألقيت على سمعي..
فعلتها..


ظهر ابن عمي في نفس اللحظة التي استقر فيها جسدي فوق الحيوان الجميل..


تبادل مع صلاح نظرة إكبار وتقدير، هتف سعيدا:
اتعلمت بسرعة يا إسكندراني.

أجبت معترفا:
البركة في صحابي الجدعان.

انطلق ثلاثتنا مستبشرين، كان اتفاقنا أمس أن الإفطار سيكون في الحقل، قررنا أن نسبق عمي إلى العمل..


لم يستغرق الطعام سوى لحظات، نهضت أولا، ذهبت إلى فأسي، نظرت نحوها برهبة، رفعتها، مازالت الملعونة ثقيلة على ذراعي، باعدت بين ساقي، رفعتها عاليا كما أرشدوني، لم أصب الخط، لكني اقتربت، عاودت المحاولة، اقتربت أكثر من النجاح، عاد الألم المتوحش، صرت أقدر على التآلف معه، نجحت المحاولة الثالثة، أصبت الخط أخيرا، جززت على أسناني متحديا الوجع الحارق في كفي، رفعت الفأس بثقة أكبر هبطت بها سريعا، أصبت هدفي تماما للمرة الثانية، لمحت صلاح ينظر لي بجانب عينيه مبتسما، مضيت أشق الأرض مثلما يشقان، تخدر جسدي، لم يعد يستشعر الألم، اشتدت قبضتاي على الفأس، بدأت أحبها، سرها يسري في كفي، صرت قادرا على فعل شيء مقدس مثلما يفعلون..


قبل أن ألتفت خلفي شعرت بنظراته تحرق ظهري، كان واقفا خلف عمي الذي قدم منذ لحظات، عيناه الصغيرتان جاحظتان في ذهول، أرنبة أنفه الضخم ترتعش، فكه ملتو في ألم..

لم يمهله عمي العملاق، أدار وجهه بهدوء:
-         بص يا موكوس، الجدع عصب، إمبارح أول يوم يحمل فيها الفأس، النهارده ماسكها ولا أجدع فلاح قراري.

قهقه ابن عمي لكلام أبيه، ألقى على محمد سباخ نظرة انتصار، فوجئت بكف صلاح على كتفي، همس في أذني:
أنت راجل يا إسكندراني.


فلاحون فى المدينة

إرسال تعليق

0 تعليقات