آخر الأخبار

فلاحون في المدينة







فلاحون في المدينة


خالد الأسود

قصة
                          ( ٣ )


أقبل ابن عمي يرحب بصلاح في حرارة، تبادلا ضحكات الود والسرور، بدا الصبي المتسخ مسكينا، تشاغل بقفة كبيرة من الخوص بجانبه، عادت عيناه سريعا تحدقان في..

أتى ابن عمي بحماره أمس، نظراتهما المشجعة ملأتني ثقة في نفسي، تقدمت مستبشرا، كنت واثقا من نجاحي هذه المرة، تأخر ابن عمي خطوات بعيدا عن الحمارة، زادت حركته التلقائية ثقتي في نفسي..

رفعت رأسي، وسعت خطواتي متعجلا استعراض نجاحي المنتظر..
   تعثرت خطواتي في الأرض غير المستوية، لم يساعدني الجلباب على استعادة توازني، انكفأت بقوة على وجهي، أنجدتني ذراعاي، تفاديت سقطة مزرية أخرى ولم ينجُ الجلباب، اضطررت للسقوط على ركبتي..

قهقه الصبي المتسخ بصوت عال، بدأ يتقافز كالملتاث لمنظري، عيناه الضيقتان اتسعتا فجأة، شماتته كانت أكثر ألما من السقطة واتساخ الجلباب،نهره صلاح بعنف حانق:
- اتلم يا واد يا محمد.
زجره ابن عمي بنظرة نارية وهو يتقدم نحوي مادا يده يساعدني على النهوض، نظرت لمحمد المتسخ بغيظ، ابتسمت لصلاح شاكرا قبل أن أدخل مع ابن عمي لأغير ثيابي وأرتدي جلبابا آخر نظيفا..
عدت لهم بوجه عابس، لاحظت أن الصبي المتسخ تراجع بعيدا بانكسار،. سرنا صامتين، تبعنا المتسخ محافظا على مسافة كبيرة بينه وبيننا..


أول مرة أكون في وسط الحقل في بداية صباح القرية، فيض من الخضرة اللانهائية، رائحة الهواء تنعش، نقاؤها يخدر أعصابي الطيور الآمنة تحلق على مسافة قريبة، استعدت فرحتي، منحتني الطبيعة الفطرية سلاما..

  عمي واقف وحده في منتصف الحقل، يشمر عن ذراعين قويتين مفتولتين، تدلت الفأس في يده اليمنى نحو الأرض، سلاحها المشحوذ يبرق، بدا ككائن أسطوري، على وجهه الوسيم ابتسامة متسامحة..
قفز صلاح وابن عمي نحوه سريعا، تبعهما الصبي المتسخ، التقطت أذني كلمات اعتذار.

أدركت أنني كنت سببا في تأخرهم، بدل الشابان ثيابهما النظيفة، ارتديا ملابس العمل، جرى محمد المتسخ بقفته مبتعدا..

أجلسوني تحت شجرة في الظل، فرشوا ملاءة جميلة، رصوا فوقها ثمار الفاكهة، وبضع قلل فخارية مملوءة بالماء..

جلست أرقبهم مبهورا، أذرع قوية تتحرك في نظام وتناسق، يشقون الأرض بإصرار، الجدية على وجوههم أشعرتني أنهم يفعلون شيئا مقدسا..

لم ينس ابن عمي أن يمنحني ابتسامة ترحيب وحب كل فترة، تمنيت في لحظة لو أستطيع أن أقوم إليه وأعانقه، وددت أن أطير  معه إلى الإسكندرية، أردت أن أفخر به أمام أصدقائي المشغولين بمباريات الكرة ومتابعة ابنة الجيران الجميلة وتفسير كلماتها وحركاتها وفقا لأحلام وآمال كل واحد..

الزمن لا يتحرك وأنا في مجلسي، أطلقت العنان لكل أفكاري وذكرياتي لكنه مازال متوقفا، شعور بالضآلة يغزوني وأنا أرقبهم يعملون، تقدمت لعمي طالبا أن يمنحني جزءا من العمل، ابتسم لي محتارا، هتف ابن عمي يدعو أباه أن يتركني أشاركهم العمل، اكتفى صلاح بابتسامة مشجعة..

قطعت الحيرة على عمي وأمسكت بفأس ملقاة بجانبهم..

صدمني وزنها الذي لم أتوقعه، السهولة التي يمسكون بها الأفؤس خدعتني، استجمعت كل قوتي ورفعتها، أسرع عمي مشفقا، غير اتجاه السلاح في يدي ليصبح في مواجهة الأرض، رفعتها أخيرا، هويت بها، كدت انكفأ على وجهي، طاشت ضربة الفأس، صنعت نقطة ناشزة عن الخط الذي يتبعونه..

حاولت رفعها ثانية، وزنها زاد أضعافا في لحظة..

لمحته قادما يهرول، يتسلل كسحابة سوداء، لا يلتفت لأحد، عيناه ثابتتان على، سعادة شريرة تملؤهما، وقف أمامي مباشرة، التوى فكه الصخم بازدراء هائل، كمية حقد مفزعة، يكتم ضحكة مستهزئة، لا يبتسم، لايضحك، رغم ذلك كل جارحة فيه تنطق بكراهيته وشماتته..

لن يشمت في هذا الملعون المشوه.. استجمعت كل قواي، اشتدت قبضتي النحيلة على الفأس الغليظة..

عدت أرفع الفأس، تجاهلت الألم في ذراعي، هبطت بقوة محاولا التزام الخط، طاشت ضربتي كسابقتها..

اقترب ابن عمي مني، باعد بين ساقي، أعاد كتفي للوراء قليلا، ابتعد دون أن يتكلم..

عدت أرفع الفأس، أصبحت أكثر تحكما وسيطرة عليها، مازال وزنها في يدي ثقيلا، طاشت الضربة الثالثة، لم أتوقف، عاودت رفعها مهدرا كل قواي..

النيران تلتهم كفي يدي، خصري النحيل يتراقص لا يقوى على حمل جسدي الضئيل، الذراعان تيبستا، شعرت بلسعة الشمس لأول مرة، العرق يغزو عيني يكويها كنار..

تمنيت بقوة أن أترك الفأس تسقط من يدي، أتخلص من عذابها المسعور، لم أفعل..

نظرات الملعون ثابتة على، وجهه ينطق باستعلاء، يقف واثقا من عجزي..

ظللت متمسكا بها وكأن فيها حياتي..

الألم يتوحش..

ينهشني بقسوة لم أطقها..

تجاهلت الألم، ظلت ذراعاي ترتفعان بالفأس وتهبطان بإصرار لاإرادي، رجولتي الوليدة على المحك: صلاح المقبل على الجامعة ينادينا باسمي، ابن عمي وزهوه بقرابتنا، دفء امرأة عمي..
لم يكلمني أحد، حتى النظرات تفادوها.. استمروا في شق الأرض دون أن يلتفتوا لي..

حمدت لهم كياستهم النبيلة..

توقف عمي بغتة، رفع رأسه ناظرا تجاهي:
-         ناولني القلة ياخالد..
-          
تقبلت كرامتي الرومانسية العذر الممنوح، تركت الفأس يسقط من يدي، شعرت براحة تغمرني، كل خلية في جسدي امتنت له فرحة..




إرسال تعليق

0 تعليقات