آخر الأخبار

فلاحون في المدينة







فلاحون في المدينة

خالد الأسود

قصة
                                 ( ٢ )



سار ابن عمي بجوارنا رافضا الركوب..

انطلقنا خارج منطقة البيوت، مررنا بالترعة الصغيرة، صوت صراصير الحقل يجاوب أصوات الضفادع سيمفونية مدهشة، هواء الزروع منعش فيه نقاء عجيب..

اختارا بعناية بقعة مضاءة بنور القمر، افترشنا الأرض، أخرج صلاح كيزان الذرة، أشعل نارا صغيرة حاوطها بالحجارة،استوت الذرة، تناولناها ساخنة..

للأسف أضاعت الذاكرة أغلب الأحاديث، أذكر بصعوبة قصة حكاها ابن عمي عن حمارة التقاها وهو عائد آخر الليل، وكيف تحولت الحمارة إلى امرأة فاتنة..

استقبل صلاح القصة دون اندهاش ورد عليها بقصة العفريت الذي التقاه عند الساقية المهجورة، لم أكن أملك قصصا عن الجنيات والعفاريت مثلهما، اكتفيت بالصمت والاستماع مبتسما..

غالبا لو حكى لي أحد تلك الحكايات في شارعنا المزدحم بالسيارات وأنوارها الباهرة لكان من المستحيل أن أصدقه، لكن في ذلك الظلام الدامس، وسط الزروع التي تحجب الرؤية بدت تلك القصص ممكنة أو على الأقل لم أقوَ على تكذيبها..

توقفا فجأة عن الحكي، سألني صلاح جادا:

-احك لنا عن الإسكندرية، صحيح بتنزلوا البحر كده من غير هدوم..؟

ابتسمت :

-لا طبعا نرتدي ملابس البحر، مايوهات شبيهة بالشورتات ..

ابتسم الاثنان بسرور ساذج..

سأل ابن عمي في خجل:

-         والستات والبنات؟

حاولت جاهدا أن أشرح لهما حالة البهجة على الشاطئ، وأن كل إنسان يكون مشغولا بمسراته وألعابه لا بمراقبة الآخرين..

تبادلا نظرات متخابثة أكدت فشلي في إقناعهما..

مضت الليلة بين القصص والحكاوي، كانا شغوفين بكل أخبار المدينة، لهما تصورات ساذجة عن حياتها..

تحدث صلاح عن الشقة التي استأجرها أبوه له مع بعض أبناء أهل القرية الذاهبين لاستكمال دراستهم الجامعية، سألني عن حي الأزاريطة الذي اختاره والده مقرا لسكناه طيلة حياته الجامعية، اندهش جدا عندما كشفت له عن جهلي بحي الأزاريطة، الحقيقة أنني كنت مازلت طفلا لا تتعدى حياتي منطقة  سكني ..

عقب ابن عمي على كلامه، أخبرني أنه سيلحق بصديقه بعد عام واحد..

تكلم صلاح بزهو محبب عن مجموعه الكبير في الثانوية العامة، طالما حلم أن يتخرج في كلية الطب ليصبح طبيبا شهيرا يخدم الناس وأهل قريته..

هتف ابن عمي ضاحكا:
-         لا تصدقه يا خالد، هو لا يريد إلا تكوين ثروة طائلة والتعرف على ممثلات السينما.

ابتسم صلاح بخبث مرح:
-         وما المانع أن أخدم الناس وأعيش حياتي وكدا؟

نظرت لوجه صلاح، ملامحه أوروبية فيها رجولة جذابة، تخيلته في ملابس عصرية، هو جدير أن يسحر أية فاتنة.

نهض ابن عمي إيذانا بانتهاء سهرتنا الليلية:

- سننهض مبكرين، لن يقبل الرجل العجوز أية أعذار منا لو تأخرنا. 
أخذنا طريقنا إلى الدار، حاولت امتطاء الحمارة وحدي، فشلت فشلا ذريعا مرة ثانية، الغريب إني رغم مراهقتي لم أشعر بالخجل في حضورهما، تقبلت مساعدتهما الصادقة، انتبهت جيدا لتوجيهاتهما..
لم أنل من النوم إلا سويعات أقل مما تعودت، نهضت نشيطا فرحا في الجلباب النظيف الذي قدمه لي ابن عمي، جاءني صوت عمي قويا ودودا يناديني، وجدت الجميع متحلقين حول طبلية حافلة: البيض المقلي والمسلوق، العسل في أطباق عميقة، القشطة موزعة بسخاء، الفول المزين بطبقة كثيفة من السمن، حبات الفلافل المقرمشة محاطة بالجرجير الطازج، جبنة قريش تصنعها امرأة عمي بنفسها، لكل شيء مذاق مختلف تماما عما نأكله في المدينة..

صوت صلاح يجلجل، فرحت أنه يناديني أنا هذه المرة..

وجدناه في نفس الجلباب الأبيض النظيف، ابتسامته مازالت مشرقة، يقف بجانبه صبي طويل متسخ، حدق الصبي المتسخ في وجهي بعينين زائغتين..

له وجه طويل عجيب، استولى أنفه الطويل على مساحة كبيرة من ملامحه، عيناه صغيرتان تكادان لا تظهران من تحت حاجبين كثيفين، نظراته مقتحمة باستعلاء لا يناسب منظره المزري وثيابه المتسخة..


فلاحون في المدينة

إرسال تعليق

0 تعليقات