آخر الأخبار

أهمية أن نقرأ يا ناس!! (38)






أهمية أن نقرأ يا ناس!! (38)


نصر القفاص


اتجه الرئيس "عبد الناصر" إلى اتخاذ قرار بتعيين اللواء "محمد فوزي" وزيرا للحربية يوم 23 يوليو عام 1962.. وكان هدفه إعادة بناء القوات المسلحة وفق منهج احترافي, لمواجهة تحديات كان يراها فى المستقبل.. يقول ذلك "محمد فوزي" فى مذكراته..


ورغم موافقة المشير "عبد الحكيم عامر" فى بداية الأمر.. إلا أنه تراجع بعد ذلك وأوفد "شمس بدران" للقاء "عبد الناصر" وإخطاره برفضه, وعندما سأله.. ولماذا لم يأت "عامر" ليبلغني بذلك, أجاب بأنه سافر فى رحلة بحرية للبحر الأحمر لعدة أيام.. ويوم أول ديسمبر عام 1962 قدم "عامر" استقالته رفضا لتخويل مجلس الرئاسة سلطة التعيين والترقي فى الرتب من عقيد فأعلى.. وسافر غاضبا إلى "مرسى مطروح" وترك سطرا فى نص استقالته شديد الخطورة وهو: "أرجو ألا يبدر من أحدنا ما قد يندم عليه مستقبلا"!!


 والمعنى واضح وتأكد عندما تجمع الضباط أصحاب الرتب الكبيرة فى مركز القيادة العامة بكوبرى القبة, فيما يشبه مظاهرة عسكرية.. وكان مطلبهم هو التمسك بإصرار على قيادة "عبد الحكيم عامر" للقوات المسلحة.. شعر "عبد الناصر" بخطورة ذلك, فذهب إلى حل وسط بأن يكون "عامر" نائبا للقائد الأعلى للقوات المسلحة.


عقب حرب 1956 تأكد "عبد الناصر" من أن القوات المسلحة تحتاج إلى قائد محترف, يختلف تماما عن "عامر" لكنه أجل ذلك لبعض الوقت حتى لا يقال أنه تم عزله فى أعقاب هذا الانتصار.. وعاد ليفكر فى الأمر بعد الانفصال بين مصر وسوريا, خاصة وأن أخطاء "عامر" الفادحة كانت من أسباب الوصول إلى هذه النتيجة.. وحسم الأمر بمناقشة دارت بينه وبين "عامر" واتفقا, وكان قرار تنصيب اللواء "محمد فوزي" جاهزا للإعلان يوم 23 يوليو 1962.. وترتب على هذا الحل الوسط أن ظهر صراع مكتوم بين الطرفين, لأنه حين يخشى القائد تصحيح المسار لأي سبب.. تفلت من بين يديه عجلة القيادة!!


وقد حدث ذلك بالفعل عندما تم تنصيب مدير مكتب المشير "عامر" لكى يكون وزيرا للحربية عام 1966 لتكتمل الدائرة فى ظل إمساك "صلاح نصر" بجهاز المخابرات.. وكانت هذه المقدمات هى التى أدت للهزيمة فى حرب يونيو 1967.. وهو الأمر الذى اعترف به "عبد الناصر" بشجاعة وصراحة للشعب, الذى رفض استقالته وجدد فيه الثقة بصورة ستبقى خالدة فى التاريخ.


عقب الهزيمة كان "عبد الناصر" يشرح للرئيس الجزائرى "هوارى بومدين" ما حدث وأسبابه فقال له: "إن موقفنا كان أشبه بالسمكة التى أمسكت برأسها الإمبريالية العالمية, بسبب تغلغل البيروقراطية العسكرية عندنا" ويبدو أن ذلك أدى إلى الكارثة بدخول الإعلام على الخط ليمارس الخداع, وتضخيم قدرات القوات المسلحة وإظهارها على أنها معجزة وقوة لا تقهر من حيث العدد والتسليح..


وهنا لا أتحدث عن البيانات العسكرية, لكننى أقصد من قاموا بهذا الدور تقربا من المشير "عامر" ورجاله فى جهاز المخابرات.. وذلك كان يخدم إسرائيل بأكثر مما خدمنا!!


خاصة وأن القوات المسلحة كانت تعانى نقصا فى الأفراد بلغ 40 %, ونقص 30 % فى الأسلحة الصغيرة, ونقص 24 % فى المدفعية, ونقص 45 % فى الدبابات, ونقص 70 % فى المركبات.. وكل هذه الأرقام سجلها الفريق "محمد فوزى" فى مذكراته.. كما سجل ما فعله مع "عبد الناصر" لإعادة بناء القوات المسلحة فى الوقت نفسه الذى خاض فيه حرب الاستنزاف والتى أصدر عنها الأستاذ "محمود عوض" كتابا رائعا عنوانه "الحرب المستحيلة" ومن يقرأه يعرف أننا – للأسف – لا نعرف عن حرب الاستنزاف سوى هوامشها!! لأنها كانت المقدمة والأساس الذى قامت عليه حرب وانتصارات أكتوبر 1973.



واكب مقدمات حرب 67 إقليميا ودوليا وعسكريا, أوضاعا داخلية كانت تنذر بخطر.. فقد عاد رجال زمن ما قبل الثورة لترسيخ أقدامهم – عثمان أحمد عثمان نموذجا – وظهرت طبقة ارتبطت بمشايخ النفط والخليج.. وحدث اهتزاز فى الطبقة الوسطى نتيجة غموض الأوضاع بالنسبة لها, وعجزها عن فهم ما يدور حولها.. خاصة وأن ماكينة الإعلام المضاد فى "بيروت" كان يتسرب عنها ما يزرع الشك فى النفوس, وبعد أن أمسك "أهل الثقة" بمفاصل الدولة.. فكل من كان يطمح فى منصب أو مكسب, كان عليه أن يتقرب من معسكر المشير "عامر" باعتبار أن مديرو مكتبه أصبحوا يملكون أهم المناصب وأخطرها.. فإذا كان "شمس بدران" قد أصبح وزيرا للحربية, فإن "صلاح نصر" يدير المخابرات و"عباس رضوان" تولى وزارة الداخلية..


 وهكذا حتى مستويات قيادة شركات القطاع العام وغيرها من مواقع الجهاز التنفيذى.. ورغم ذلك كانت تجربة التنمية المصرية بين عامى 1957 و1967 هى النموذج بالنسبة للبنك الدولى فى تقريره الصادر يوم 5 يناير عام 1980 – أى بعد عشر سنوات من رحيل عبد الناصر – والذى أكد أن نسبة النمو بلغت 7.6 % دون الاعتماد على مساعدات خارجية.. وكانت مصر قد وضعت أساس عملية تصنيع غير مسبوقة قادها "عزيز صدقى" وانتهت من بناء "السد العالى" بإشراف وقيادة "صدقى سليمان" وأصبحت تملك جهازا إعلاميا شديد التأثير والقوة بفضل "محمد عبد القادر حاتم" إلى جانب نهضة ثقافية صمم قاعدتها بوعى وعمق "ثروت عكاشة" إلى جانب خبراء وضعوا أساس نظام اقتصادى ومالى يشار له بالبنان وشارك فيه "حسنى عباس زكى" بعد "عبد الجليل العمرى" وكذلك "عبد المنعم القيسونى" و"عبد العزيز حجازى" بينما كان "لبيب شقير" يتولى التخطيط.



يوم 20 فبراير 1967 قرأ "عبد الناصر" تقريرا أمنيا يتناول شائعات تتحدث عن زواج المشير "عامر" بالفنانة "برلنتى عبد الحميد" وأنها تنتظر مولودا منه.. فاتصل بوزير الداخلية طالبا التأكد وتقريرا وافيا عن الأمر مع مراعاة الحيطة والحذر فى تقصى الحقيقة حتى لا تحدث إساءة لأحد.. وما إن تأكد من المسألة, حتى قرر تأجيل مناقشتها مع "عبد الحكيم عامر" لعدة أيام.. وحدث اللقاء يوم أول مارس فى بيت "عبد الناصر" بمنشية البكرى.. وبمجرد فتح الموضوع حاول "عامر" أن يدعى أنه ضمن حملات تستهدفه, وراح يتحدث بغضب عن أولئك الذين يثيرون حوله الشبهات.. وما إن انتهى من ذلك, عاد "عبد الناصر" يسأله.. هل الموضوع صحيح؟! وأريد إجابة واضحة..


فأجاب بالتأكيد وأنها كإنسانة تفهمه واستراح لها.. وأنه تعرف عليها عن طريق "صلاح نصر" فسمع من "عبد الناصر" كلاما قاسيا عن أنه ترك نفسه لعواطفه تتحكم فيه, وهذا يعنى أنه يفقد القدرة على القيادة.. لذلك أرى أن تبتعد لفترة خارج مصر, حتى ننتهى إلى صيغة جديدة فى التعامل.. واقترح أن يسافر إلى "يوغسلافيا" لمدة شهر, وأصدر "عبد الناصر أمرا بإعداد قرار السفر على أنه رحلة علاج وسيرافقه فيها الدكتور "أحمد عفت عبد الوهاب" والسيد "أبو نار" كإداري.. لكن حدث ما فرض صرف النظر عن تنفيذ القرار.



كان "الاتحاد الاشتراكي" ينظم معسكرا فى "أبو قير" بالإسكندرية.. فإذا بالمشاركين يناقشون ورقة حول "كيف يستطيع التنظيم السياسى أن يقاوم احتمال انقلاب عسكري تقوم به القوات المسلحة" وتفرعت المناقشة لتتناول ما حدث فى الجزائر واندونيسيا وغانا, وغيرها من دول العالم الثالث.. ورصدت المخابرات العسكرية ما حدث, فكتبت تقريرا رفعته إلى "عبد الحكيم عامر" فقام بإرساله إلى الرئيس "عبد الناصر" الذى استدعى "على صبرى" نائب رئيس الاتحاد الاشتراكي لمناقشته فيما حدث.. وكيف؟! ولماذا يتم طرح الموضوع بهذه الصيغة.. واستقر رأيه بعدها على أن إبعاد "عامر" فى هذا الوقت وبعد فتح هذا الموضوع, يمكن أن تكون له تداعيات سلبية ويتسبب فى بلبلة.. وبناء على ذلك طلبه وقال له أنه يجب عليه أن يواصل عمله ويصرف النظر عن السفر فى هذا الوقت.


وسط هذه الأجواء.. كانت آلام مرض السكر لا تبارحه, وهو يرفض تنفيذ نصائح الأطباء بضرورة الراحة وتقليل ساعات عمله.. إضافة إلى أن التحديات كانت تطارده وتضغط عليه من كافة الاتجاهات.. وكل هذا كانت ترصده أجهزة مخابرات دولية وتبنى عليها مواقف, وتخطط لاستثمارها.. وأخطرهم كانت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية, اللذان خططا لضربة كان عنوانها "اصطياد الديك الرومى"!!


يوم 9 مارس 1967 استقبل "عبد الناصر" الفيلسوف الفرنسى "جان بول سارتر" والكاتبة الفرنسية الشهيرة "سيمون بوليفار" واللذان زارا مصر بدعوة من "محمد حسنين هيكل" كرئيس لتحرير الأهرام.. وخلال اللقاء تحدث "سارتر" من إعجابه بالمشروعات الضخمة التى تشهدها مصر.. لكنه يرى أن واجبه أن يحدثه فى حقوق الإنسان, خاصة وأنه تلقى شكاوى من أناس التقاهم.. وهنا أفاض "عبد الناصر" فى الحديث عن الثورة المصرية وتحدياتها وقال: "الانتقال من مجتمع تسيطر عليه القلة إلى مجتمع تتحقق فيه عدالة التوزيع, هى عملية فى منتهى الصعوبة.. لأن مجتمعا قديما يتهاوى, بينما تنظيم المجتمع الجديد لم يكتمل.. وبالنسبة لى أنا أتفهم أولئك الذين يريدون احتكار الثروة, لكنني أنحاز للفقراء والطبقة المتوسطة.. وإذا كان أولئك يقبلون منطق الديمقراطية, فعليهم أن يقبلوا انحيازي للأغلبية وأن يعترفوا بأنهم أقلية" واستمر الحوار لساعات طويلة.. تناول مناقشة الضيوف حول المرأة وتعليمها ودورها فى المجتمع.. وموقف "عبد الناصر" من الشيوعيين ومن إسرائيل.. وتحدث عن رأيه فى دور الشباب فقال "عبد الناصر": "يقلقنى أن الأجيال القديمة تحجب الأجيال الجديدة عن المشاركة فى القيادة, ورؤيتى أن المجتمع الذى لا يمكن شبابه يفقد قدرته وحيويته وقوته.. ولن تكون أمامه غير قوة الجيش.. وهذه وصفة غير مضمونة لحماية تطور المجتمع"!!


كانت هذه ملامح مرحلة سبقت حرب يونيو 67.. فكيف عكستها الصحافة المصرية التى مارست أبشع عمليات الخداع للشعب!! والكارثة أن الأمر يتكرر دون استفادة من دروس الماضي.




يتبع

إرسال تعليق

0 تعليقات