آخر الأخبار

أهمية أن نقرأ يا ناس!! (49)












نصر القفاص


وقعت هزيمة 5 يونيو.. وفى اللحظة ذاتها انهزم الإعلام المصري, هزيمة ساحقة ومدوية!!


اعترفنا بهزيمة عسكرية.. رفضنا الاعتراف بالهزيمة الإعلامية.. قل أن أهل الإعلام – صحافة وإذاعة وتليفزيون – نجحوا فى إخفاء ما ارتكبوه من أخطاء فى حق أنفسهم والمجتمع.. أفلت الإعلام من أن يكون متهما, ومارس دور الادعاء والقاضي!!


صحيح أن 5 يونيو يمثل عنوانا لهزيمة عسكرية.. وصحيح – أيضا – أنه عنوان سقوط إعلامي كبير.. والحقيقة أن لحظة الهزيمة والسقوط, كان اقتصاد مصر فى عنفوان قوته.. كانت خطط التنمية تمضى على قدم وساق.. فالقوة الاقتصادية التى تحققت قبل 5 يونيو, كانت الدرع الذى احتمينا به لخوض حرب الاستنزاف.. وهى واحدة من أهم وأخطر وأروع حروب القرن العشرين, إلى أن جاءت الحرب الأروع والحاسمة بداية من 6 أكتوبر 1973.. فحرب أكتوبر أو قل "حرب الشمس" كما يسميها المفكر – لا أقول المقاتل – علاء الدين سويلم.. كانت الشمس التى كشفت حقيقة ما قبلها من حروب.. وأظهرت قوة مصر عسكريا وكمجتمع يعيش على أرض تستحق كل الأهمية والاحترام والتقديس عند الأعداء قبل الأصدقاء.



إعتقادى أنه حانت لحظة المكاشفة والمصارحة, حول الدور الذى لعبه الإعلام فى الوصول إلى الهزيمة..



كشف ذلك "أنيس منصور" حين كتب: "كنا نكذب ونكتب أن العساكر يشربون شوربة ساخنة وهذا غير صحيح.. فقد رأيت على الجبهة حالة فوضى.. رأيت عساكر لم يتذوقوا لقمة أمام دبابات.. سمعت الفريق أول عبد المحسن مرتجى.. يحدثنا عن استعدادات القوات المسلحة وجاهزيتها.. ورأيت فشلا فى الاتصال عبر اللاسلكي لحجز أماكن للصحفيين فى العريش.. رأيت كروش القادة تعكس قدوة سيئة للجنود.. وعدنا لنكتب كله تمام"!! والمؤسف أن "أنيس منصور" كتب ذلك بعد رحيل "عبد الناصر" وطعنا فيه فى زمن "السادات".. لكنها كانت الحقيقة التى اعترف بها قادة ما بعد النكسة.



حاول أن تقرأ صحف ما قبل الهزيمة.. ستجد أنها جعلت المجتمع.. بل العالم العربى يحلق فى سماء الخيال.. أقلب معك بعضا من عناوين هذه الصحف, لتعرف حجم سقوط الإعلام.. ففى أول يونيو كانت مجلة "روز اليوسف" تنشر إعلانا فيه تصميم فستان حريمى فضفاض مكتوب تحته: "يا ريت كل ربة بيت بفستان كالمنشورة صورته, بدلا من أن تضطر للنزول إلى الملجأ بقميص النوم"!! والإعلان يذكر اسم مصممته "مدام......" وصاحبة المصنع "......" ويدلك أنك تستطيع شراءه من محل "......" بجنيه واحد!! كانت مجلة "روز اليوسف" تتناول الحرب التى سنذهب إليها على أنها حفلة!!



وفى اليوم نفسه – أول يونيو – نشرت "الأهرام" عناوين تقول: "قادة العالم يتحركون سياسيا.. وإسرائيل تتحرك فى خطوط موازية وتغلى لولادة وزارة حرب" وعنوان آخر: "عبد الناصر يكثف اتصالاته السياسية ومعه وعد المشير عبد الحكيم عامر بأن القوات المسلحة جاهزة للمعركة"..


وكان "مانشيت الأهرام" يقول: "أى دولة تحاول اقتحام خليج العقبة سوف تمنع من استخدام قناة السويس".. هكذا كانت العناوين الرئيسية للصحف.. خاصة "الأهرام".. وكانت هناك عناوين أخرى مثل: "تحركات أمريكية محمومة ومريبة ضد مصر دعما لإسرائيل" وكذلك تصريحات بالغة الحماقة لقائد الأسطول الأمريكي فى البحر المتوسط: "نحن فى انتظار تعليمات جونسون".


أما مجلة "صباح الخير" فحملت مقالا للدكتور "مصطفى محمود" عنوانه "علامة النصر".. بينما الفنان "حجازى" رسم "كاريكاتير" عبار عن جندى إسرائيلى يشد أذن شخص يمثل المخابرات الأمريكية ويقول له: "هتودينا فى داهية يا أهبل.. بلغتنا معلومات غلط من الشرق الأوسط ليه"!!


 وفى المقال الافتتاحي كتب "صلاح جاهين" وكان رئيسا للتحرير.. بوضوح: "يا يوم 5 يونيو 1967.. فلتكن نهاية للمأساة التى بدأت يوم 15 مايو 1948"!!


 والمعنى أننا كنا نعلم موعد اندلاع الحرب, بما لا يحتمل شكا!!


 ولعلك تسأل.. من أين عرف "صلاح جاهين" موعد المعركة؟!


الإجابة تأتيك من اجتماع بمقر القيادة العامة للقوات المسلحة يوم 20 مايو 67, عقده "عبد الناصر" مع كبار القادة.. يومها وجه كلامه للفريق "صدقى محمود" قائد القوات الجوية والدفاع الجوى – كان سلاحا واحدا – وقال: "عندى معلومات بأن إسرائيل ستقوم بعمليتها الجوية الشاملة ضد الدول العربية المحيطة بها يوم 5 يونيو..


ما حجم الخسائر التى يمكن أن نتكبدها فى حالة تلقى الضربة الأولى؟!" وأجابه الفريق "صدقى محمود" قائلا: "فى حدود 15% إلى 20%".. وهنا رد عليه "عبد الناصر" قائلا: "هذه نسبة نستطيع أن نتحملها, لأن الرد بما لدينا سيكون قويا"!!.. ذكر ذلك اللواء "مصطفى الحناوى" الذى تولى قيادة القوات الجوية, وأكده كل من نشر مذكراته من القادة العسكريين.. وفى ضوء وقائع هذا الاجتماع نادى "صلاح جاهين" على يوم 5 يونيو.


قبل أن تقول.. ولماذا انتظرنا لتلقى الضربة الأولى؟!



 السؤال يفرض عليك أن تعود للأجواء التى سبقت الحرب.. وباختصار لأن العالم كله.. بداية من الأمم المتحدة ثم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا.. بل وحتى الاتحاد السوفيتى, حذر مصر من أن تبدأ الحرب.. كلهم ضمنوا إسرائيل بأنها لن تقدم على الحرب, ما لم تبادر مصر بإشعالها.. ورغم كل ذلك كان "عبد الناصر" يشك فى هذه الضمانات.. للك كان مانشيت "الأهرام" يوم أول يونيو خبر توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والأردن بناء على طلب الملك "حسين".. وحملت الصحف إعلانات التأييد المطلق, وكلها كانت موجهة للرئيس "عبد الناصر" والمشير "عامر".. فالكل كان يخاطب كليهما.. لم يخاطبوا "عبد الناصر" وحده.. بل أن المؤتمرات التى نقلت وقائعها الصحف.. كان كل من يتحدثون خلالها لا يذكرون اسم "عبد الناصر" دون أن يعقبه اسم "عبد الحكيم عامر"!!



كان هذا هو الواقع وصورة اللحظة.. لأن "عبد الناصر" اختار المنصب السياسى بوضوح, وفرض الفصل بينه وبين الموقع العسكرى مبكرا.. وهذا لا يعنى تبرئته من خطأ استمرار "عبد الحكيم عامر" فى موقعه رغم إخفاقاته.. لكننى أحاول أن أعود بك عبر آلة الزمن إلى أيام يونيو حتى وقعت النكسة – الهزيمة – وذلك كان يعلمه "خالد محيى الدين" الذى نقلت "روز اليوسف" كلمة له فى مؤتمر شعبى قال فيها: "إذا كانت أمريكا أقوى منا, فيجب ألا ننسى أن الحروب لا تكسبها القوة العسكرية وحدها.. إنما تكسبها عوامل الاقتصاد والسياسة والحركة الشعبية.. وفى هذا نحن متفوقون على أعدائنا" وفى المؤتمر نفسه أضاف "خالد محيى الدين قائلا: "فى سنة 1956 كانت الأسلحة لدينا جديدة دون أن نتدرب عليها كما يجب.. أما اليوم فأسلحتنا معنا مثل أصابعنها.. وخبراتنا العسكرية تضاعفت"!!


 كان ذلك هو اعتقاد "خالد محيى الدين" وغيره من الذين انصرفوا للسياسة ويتابعون الحالة العسكرية.. لأن معلوماتهم وتصوراتهم وتقديراتهم, كانوا يحصلون عليها ويستندون فيها إلى كلام نائب القائد الأعلى والقائد العام للقوات المسلحة المشير "عبد الحكيم عامر"..


وكذلك وزير الحربية "شمس بدران" الذى نشرت الصحف أوامره, بأن تحمل شركة الطيران العربية – هكذا كان اسم مصر للطيران – الصحف المصرية إلى عواصم أوروبا, ليتابع العرب هناك الموقف أولا بأول".


كانت صحف أول يونيو تحتفى بصدور كتاب "خبايا السويس" الصادر عن دار "العصر الحديث" للأستاذ "محمد حسنين هيكل" وتوازيه حفاوة لا تقل بمسرحية :حسب تقديرك" تأليف "لويجى برنديللو" الصادرة عن "الكتاب العربى" لأن هذا الزمان كان يقدر ويحترم الكتاب لحد التقديس.. كان الناس يستنشقون الرواية والشعر والأغنية.. وكانوا يتذوقون المسرح باشتياق وحرص شديدين!!


مازلت معكم فى صفحات أول أيام شهر يونيو.. وكانت الصحف قد نقلت تحقيقا أذاعته وكالة "اسوشيتدبرس" بعنوان: "الإسرائيليون يرون فى عبد الناصر أنه مشكلتهم" ونقلت عن صحيفة "لوماتان" الفرنسية مقالا عنوانه: "الاستعمار يرفع الشرق الأوسط إلى حالة حرب" وحملت صحف هذا الصباح إعلانا يقول: "40 ألفا من العاملين بشركة المقاولين العرب يقفون صفا واحدا.. يساندونك بالسلاح والأرواح على أرض المعركة" مع صورتين للرئيس والمشير!!

وعلى صفحات "صباح الخير" كاريكاتير للفنان "جورج البهجورى" يقول: "رسالة إلى الرئيس جونسون.. يحموك فى كندا"!!


 وكذلك كاريكاتير رسمه "حجازى" فيه جندى إسرائيلي يتلقى طلقات موسيقية فى صدره.. ويسقط ميتا ويقول.. أى.. فايدة كامل بتغنى"!!



تحدثت الصحف عن أغنية جديدة وسهرت معها الأمة العربية على ضفاف حنجرة "أم كلثوم" التى غنت "جيش العروبة يا بطل.. الله معك.. ما أعظمك.. ما أروعك.. ما أشجعك" .



كذلك نشرت خبرا يقول: "160 ألف صورة من عبد الوهاب وعبد الحليم ونجاة وشادية تحمل توقيعاتهم إلى أبطال القوات المسلحة على الجبهة"!!


كانت درجة الحرارة 22.. أفيشات السينما تدعوك لمشاهدة أفلام "ليلة عاصفة" و"لا أنام" و"لقاء فى جهنم".. وفرقة الفنانين المتحدين تعرض مسرحية "المغفل"!!..



 يتبع


إرسال تعليق

0 تعليقات