آخر الأخبار

التعامل مع فيروس كورونا [فقه الوبائيات] (١٦)










أحمد مبلغي⧪




[هذه المناقشة، التي بدأناها حول تعظيم الشعائر الدينية (وتحت ذريعة فقه الوبائيات)، في الواقع ، تقدم نظرية تعظيم الشعائر الدينية من وجهة نظر القرآن، وتحتوي على منظور خاص في هذا المجال، بحيث يمكن أن يوفر أفقًا فكريًا جديدًا. لهذا أطلب من جميع القراء المحترمين متابعة هذه المناقشة بعناية، ووضعها في اهتمامهم الكريم].



الضلع الثالث: البعد القلبي:

ما يدل على ثبوت واعتبار هذا الضلع للشعائر، الآية الشريفة:


"وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ".


هناك حقيقة تتعلق بهذا الضلع (أي: انبثاق وانطلاق الشعائر الدينية من تقوى القلوب)، يجب الانتباه إليها، وهي:


أننا إذا حققنا وأوجدنا هذا الضلع، فإنه يعمل ويلعب بمثابة شاقول فكري ومعياري، نستطيع إنشاء وتعديل وتصحيح العديد من الأفكار والمقاربات الاجتماعية على طول الخطوط المتوازية لهذا الشاقول.


بالطبع ، هذا ادعاء كبير ، لكنه يَثبُت هذا الادعاء، ما إذا كنا نجيب على ثلاثة أسئلة:

1. ماذا يعني "الأمر القلبي" من منظور القرآن؟

2. ماذا يعني انطلاق وانبثاق الشعائر الدينية من تقوى القلوب؟

3. ما هو أداء الشعائر الدينية إذا كانت تنطلق من تقوى القلوب؟


أدناه، نطرح هذه الأسئلة واحدة تلو الأخرى ونجيب عليها، ثم الاستنتاج، إنشاء الله.

السؤال١: ماذا يعني "الأمر القلبي" من منظور القرآن؟

عندما يقال: إن شيئًا مّا أصبح قلبياً، فماذا يعني ذلك؟ الرأي القائم بشكل عام يقول: هو بمعنى وقوعه وحدوثه كحالة للقلب؛ حالةً من قبيل الحب، والعداء، والعاطفة، والرقة، و... ولكننا علينا أن نرى ماذا ينظر القرآن إلى الأمر القلبي (أي الذي يحدث في القلب)؟

الإجابة هي: أن هذه المناقشة في الواقع، وإن تتطلب بحثًا مكثفًا، ولكن الجواب المختصر، هو: أنه من منظور القرآن ، يوجد هناك نوعان من الأمر القلبي:

النوع الأول: الأمر القلبي الذي هو مجرد حالة، لا أكثر:


وهذه الحالة قد تكون إيجابية؛ مثل:


-- الألفة (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ).


-- والرأفة والرحمة (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً).
-- وحالات اخرى.


وقد تكون سلبية؛ مثل:


-- القسوة (قَسَتْ قُلُوبُكُمْ).

-- والتكبر (كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ).

-- والغلظة (فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ).

-- وما إلى ذلك.
كل هذه الحالات وما شابهها، -كما هو معلوم- هي حالات قلبية للإنسان.

النوع الثاني: الحالة التي هي وثيقة الصلة بالوعي او اللّاوَعي:
هذا النوع، وإن كان من سنخ الحالات القلبية أيضاً، ولكن مع ذلك، لم يتم تشكيل هذه الحالات منفكة عن الوعي أو اللّاوَعي، بل كل حالة من هذه الحالات، متصلة ومرتبطة ومختلطة ومتعلقة بأحدهما.

وهذه الحالات مثل:

-- الإيمان بالله (الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ).

-- تقوى الله (تَقْوَى الْقُلُوبِ).

-- الهداية (يَهْدِ قَلْبَهُ).

-- الإنابة إلى الله (بِقَلْبٍ مُنِيبٍ).

-- العمي (تَعْمَى الْقُلُوبُ).

-- التعمد (تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ).
-- وما إلى ذلك.

لماذا تعاني بعض المجتمعات الإسلامية من مشاكل أخلاقية باسم الدين؟


هنا حقيقة مثيرة للاهتمام، خاصة مثيرة للاهتمام لأولئك الذين يسألون دائمًا لماذا تعاني بعض المجتمعات الإسلامية والمجموعات الإسلامية من مشاكل أخلاقية باسم الدين.

وهذه الحقيقة، هي: إذا لم يتحقق هذا الذي تحدثنا عنه بعنوان النوع الثاني من حالة القلب (وبالطبع إيجابيات هذا النوع) اذا لم يتحقق هذا، فإن النوع الأول من حالة القلب (أي النوع الذي لا علاقة ولا امتزاج له بالوعي) ليس ضمانًا على أنه يمكن أن يوفر الطريق إلى المعرفة والكمال، أو يدفع الإنسان نحو القرب من الله، على العكس، إذا اكتفى الإنسان بحالات قلبية غير واعية، فإنها تُحدِث بعض المشاكل والمخاطر لدين الإنسان، بل تخلق تحديات كبيرة إمام إنسانية الإنسان، وسيتضح ذلك إنشاء الله.

إلى هنا أجبنا عن السؤال الأول.


السؤال ٢: ماذا يعني انطلاق وانبثاق الشعائر الدينية من تقوى القلوب؟

يمكننا ربط الشعائر الدينية بالقلوب، بصورتين: الأولى: وجود مجرد العلاقة القلبية بالشعائر، الثانية: وجود علاقة قلبية مصحوبة بالوعي بالشعائر.

والقرآن قد أعطى فكرة "صحة الصورة الثانية"، واليك تبيين هذه الفكرة بالبيان التالي:

إذا لم يكن "العلاقة القلبية بالشعائر الدينية" مصحوبة بالوعي والتقوى، فستحدث مشكلة كبيرة، وهي: أنه تجري عملية "استمرار واتساع وتجذّر هذه العلاقة" في القلب، دون أن تكون عليها إدارة وسيطرة وإشراف من الوعي والتقوى، وإذا تم جريانها بهذا الشكل، فإنها (أي: هذه العلاقة) سوف تأخذ -عاجلاً أم آجلاً- أبعاداً من العصبية، ويظهر بشكل يمكن أن نسميه بالتعصب الشعائري.

في هذه الحالة (حدوث أبعاد من العصبية في هذه العلاقة) يصبح هذا الإحساس القلبي خطيرًا؛ وهذا يعني أنه على الرغم من أن على هذه العلاقة القلبية طابع من القداسة، فإنها تحرك الإنسان في اتجاه ينحرف عن محتوى الشعائر الدينية وأهداف هذه الطقوس وأدائها.

ذلك أن هذه الشعائر، بناءً على طبيعتها الدينية، يجب أن تكون من جهة، علائم ترمز الى التوجه لله سبحانه وإحياء ذكره وإعلاء كلمته العلياء (حيث إن عنوانها الأصلي والأصيل هو كونها شعائر الله)، ومن ناحية أخرى، يجب أن تعطي المجتمع، الخير الاجتماعي والهوية الاجتماعية بصورة ديناميكية (حيث أمرنا بتعظيمها، والتعظيم فعل اجتماعي، ولا معنى له الا الجري على مستوى المجتمع). أما عندما يأتي التعصب، ويغطي الإحساس بالشعائر، فإن هذا التعصب يخلق حالة أحادية البعد، وسلوكيات غير مرنة، وحالة انفصال عن عالم الوعي الذي يكمن في في الشريعة وحالة الابتعاد عن عالم السلوكيات الاجتماعية الديناميكية، التي لابد أن تستمد حياتها من الثقة بالله سبحانه.


وبعبارة أخرى، فإن حالة التعصب هذه، تسبّب تشغيل وتحريك هذه الشعائر باتجاه عدم الوفاء بمحتوى الشريعة والدين - رغم أنها تظهر وتبدو دينية- وفي اتجاه عدم العمل نحو تقوية التماسك الاجتماعي، وتحقيق الهوية الاجتماعية الإلهية، فالشعائر التي جائت لكي تخدم الدين والمجتمع، أصبحت تضر بهما معاً.

ما هي طريقة الحل؟
ولكن ما هي طريقة الحل في الإسلام؟ بحيث لا يعيق التعصب، الوظائف الإيجابية والبناءة للشعائر الدينية، ولا يجرها إلى أداء خطير؟
الجواب: أن طريقة الحل في الدين هي أن هذه الشعائر يجب أن تكون لها "نقطة دعمٍ متشكلة من الوعي المستمر"، حتى لا تقع في مواجهة خطر التعصب.


كقاعدة، يجب أن يكون موقف هذه النقطة الداعمة هو القلب، لأننا نتحدث وفقًا لمنطق القرآن، والقرآن يعتبر القلب مكانا يتكوّن فيه الوعي.


وعندما نرجع إلى القرآن، نرى أن القرآن يُعرّف "تقوى القلوب" على انه هي تلك النقطة التي تدعم الشعائر، حيث قال سبحانه:

"وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ".



وبناءً على ذلك، فإنه -وفقًا لمنطق القرآن الكريم- ، يمتلك تقوى القلوب، القدرة على اللعب بالدور في إنتاج الوعي الذي يحتاج إليه مشروع الشعائر، وهذا الدور قوي جدًا، وإلا لم يربط القرآن امرأ اجتماعيا مثل الشعائر (حيث شرع الحكم بالتعظيم لها) بهذا التقوى.


هنا سؤال حساس وهو هل بإمكان تقوى القلوب أن يلعب مثل هذا الدور؟ هل بإمكانه المنع عن تشكيل التعصب؟ هل بإمكانه وضع الدعم الفكري الديني العميق وراء الشعائر؟



الإجابة في المنشور القادم إنشاء الله.



سماحة الشيخ أحمد مبلغى مرجع دينى ايرانى 



إرسال تعليق

0 تعليقات