محمود جابر
ذكرنا فيما سبق بعضًا مما يورده المدافعون أو المتحمسون للرجل، ولا مجال
لإنكار أن منتج ابن تيمية يستحق الدراسة والتحليل؛ لكن المشكلة الحقيقية حول ابن
تيمية ليست فيما كتبه في نقده للفلسفة والمنطق الأرسطي، وتشابه ما قدمه الفيلسوف
الألماني هيدجر في ذلك مع ما قاله ابن تيمية مثلا، ولا في نقاشاته مع أهل الكلام
أيضا، فهذه بحوث أولف فيها كتب كثيرة، ولا حتى في خلافاته مع شيوخ عصره حول الذات
الإلهية وتشدده للرؤية الحنبلية التجسيدية، على الرغم من أنه خلاف استخدم أحيانا
لإراقة الدماء؛ ما يهمنا بهذا العصر، خارج جدران الأكاديميات وبحوثها، هو تأثير
مدرسة ابن تيمية المدمّر في عصرنا، فمنهجه استمر منذ القرن الثالث عشر ميلادي،
قويًا أحيانًا وخافتًا بأحيان أخرى، إلى القرن الثامن عشر ميلادي، حين ظهر محمد
ابن عبد الوهاب ليؤسس لما يُعرف بالوهابية التي ترفض أن يسميها الآخرون مذهبًا،
ولكن آخرين كثر يرونها مذهبًا مستقلًا، لكن بكل الأحوال هي مدرسة اعتنقت هذا الأفكار
والآراء، ودمجت رؤيتها الدينية مع السلطة السياسية عبر محاولات كثيرة خلال ثلاث
قرون انتهت بتأسيس المملكة العربية السعودية؛ بدأ من الستينات اسم ابن تيمية يعود
بقوة بين أجيال شباب المسلمين المؤدلجين سياسيا، لنصل إلى مرحلة التسعينات، إذ
أصبحت فتاواه هي الأشهر، وهي الأساس العقائدى الأهم لغالبية جماعات التكفير
والهجرة، وجماعات المنهج القاعدي والجهادية.
إذًا المشكلة مع ابن تيمية ليست في حبنا أو كرهنا، ولا في قبولنا أو رفضنا
لمكانته العلمية الدينية، بل المشكلة هي في من ما زال يتمسك بنهجه المتشدد وما
يماثله في التعامل مع المسلمين أو غير المسلمين، بل مع من هم على مذهبه السلفي
المتشدد ومن هم ليسوا كذلك، فمعروف عن منهجه رفضه لمنهج الأشعرية والصوفية
ومشتقاتهم لدرجة القتال معهم؛ ونعود لنذكر أن الكلام ما زال عن الشخصية المتجسدة
بيننا كأفكار وكلمات وليس الشخص ابن تيمية نفسه.
المشكلة مع منتج هذا الشيخ أنه يُشكّل أساسًا لما يتم تعليمه لأبناء كثير
من المسلمين، فحتى لو كان المعلم لا يذكر فتوى ابن تيمية في الصوفى مثلًا، لكن
التلميذ سيجدها بسهولة، وبما أنه أي هذا التلميذ مُشبع بتقديس كلام ابن تيمية، أو
على الأقل يراه أحد أهم علماء الإسلام منذ ما بعد عصر الصحابة والتابعين، فإن
فتاواه هذه ستقلب هذا التلميذ إلى شاب سهل الاستخدام والتوجيه من قبل جماعات الإسلامية
السياسية المتشددة؛ ولا ينفع هنا حجج: “شيخ الإسلام رحمه الله لم يقصد كذا” أو
“عالم الأمة ابن تيمية لم يقل كذا، بل أخرجوه من سياقه”، أو أي تبرير آخر؛ فمنتج
هذا المنهج يحمل كمية كبيرة من الفتاوى القاسية، وأحكام التكفير أو الزندقة أو
التفسيق، مما يشكل أداة هدم لا أداة بناء، في عصرٍ نسعى فيه لتأسيس الدولة العصرية
القائمة على حقوق المواطنة الأساسية التي تعني -أولًا- حماية المواطنين في
معتقداتهم وإيمانياتهم وطقوسهم الدينية، فمنهج ابن تيمية لا يقبل التفاوض والنقاش،
كما ثبت تاريخيًا وحاضرًا من تصرفات من تمسكوا بنهجه، بل هو نموذج تقزيمي للإسلام
أولًا، وللمجتمع الإنساني ثانيًا ضمن نظرة بضعة رجال دين.
وبما أن أشد المتعصبين لابن تيمية يُقرّون بحقيقة أن الرجل ليس معصومًا ولا
مقدسًا، فلا يوجد مبرر لكل هذا في الدفاع عنه كما رأينا عبر مسلسل الاختيار فى أكثر
من حلقه ، والإسلام لن يتهاوى أن خرج من تراثه بضعة عشرات أو مئات من شيوخ وعلماء
من كل مذاهبه.
هذا الكلام لن يلقى صدى طيبًا عند المؤمنين بنظرية المؤامرة بدرجة إيمانهم
الدينية، فهم لن يروا أي نقد لابن تيمية أو سواه سوى نقد وهدم للإسلام، وسيرددون
الحجة عينها، الهدف ليس ابن تيمية بل الإسلام، وعندها نعود إلى القول إن المشكلة
هي عند هؤلاء وهم يقزمون الإسلام الذي آمن به مليارات ممن عاشوا ويعيشون على هذه
الأرض إلى ما قاله بضعة مئات من الشيوخ والفقهاء والأئمة.
باختصار، الاستغناء عن منتج ابن تيمية لن يشكل فجوةً لا يمكن تعويضها في
فهمنا للإسلام والتاريخ، والعمل على إخراج منهجه من أيدي صناع التعصب والتحريض
الطائفي، لا يعني خطرًا على الإسلام، بل حماية له .
الغاية من نقد منتج ابن تيمية ليست ما قرره هذا الشيخ وكتبه فحسب، بل هي
نقد لمنهجية كاملة في التفكير والتدين والممارسة، رجعت تتوسع بين المسلمين في
عصرنا الحالي، تحت رداء الإسلام ومساحة قدسية واسعة لكثير من رجال التراث؛ هذه
المنهجية تهدد مستقبل الإسلام والدول التي تسيطر عليها هذه المنهجية.
أورد في نهاية المقال بضعًا من فتاوى ابن تيمية المشهورة، ليستطيع القارئ
الحكمَ؛ وأجيب على سؤال سيطرح فورًا: وهل نختصر عطاء الرجل في بضعة فتاوى؟ أقول
باختصار إن نصف منتج ابن تيمية على الأقل هو فتاواه، وفتاواه فيها كثير من
الافتئات والظلم والقسوة في الأحكام، والتحريض بين الناس حسب الدين والطائفة
والمذهب، وهي أفكار تهدد سعي أيّ من شعوبنا لتأسيس دولة معاصرة ديمقراطية تقوم على
أسس المواطنة وحقوق الإنسان، وهي أيضًا تشكل خطرًا على الإسلام نفسه، فمنتوج الرجل
مع منتوج عددٍ من شيوخ الإسلام تاريخيًا وحاضرًا يُستخدم بكثافة لهدم الإسلام من
داخله، وعند كل المذاهب.
بعض من فتاوى ابن تيمية:
أجاب ابن تيمية في كتاب مجموع الفتاوى الكبرى، في باب الفقه كتاب الصلاة،
عمن يجهر بالنية في الصلاة ويصرّ عليها أنها من الدين:
“الحمد لله الجهر بلفظ النية ليس مشروعًا عند أحد من علماء المسلمين ولا
فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعله أحد من خلفائه وأصحابه وسلف الأمة
وأئمتها ومن ادعى أن ذلك دين الله وأنه واجب فإنه يجب تعريفه الشريعة واستتابته من
هذا القول فإن أصرّ على ذلك قُتل بل النية الواجبة في العبادات كالوضوء والغسل
والصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك محلها القلب باتفاق أئمة المسلمين”.
وفي سؤال حول الكنائس في مصر، أجاب ابن تيمية في كتاب مجموع فتاوى
ابن تيمية:
“أما دعواهم أن المسلمين ظلموهم في إغلاقها فهذا كذب مخالف لإجماع
المسلمين؛ فإن علماء المسلمين من أهل المذاهب الأربعة: مذهب أبي حنيفة ومالك
والشافعي وأحمد وغيرهم من الأئمة كسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم
ومن قبلهم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين متفقون على أن الإمام لو هدم
كل كنيسة بأرض العنوة؛ كأرض مصر والسواد بالعراق وبرّ الشام ونحو ذلك مجتهدًا في
ذلك ومتبعًا في ذلك لمن يرى ذلك لم يكن ذلك ظلمًا منه؛ بل تجب طاعته في ذلك
ومساعدته في ذلك ممن يرى ذلك. وإن امتنعوا عن حكم المسلمين لهم كانوا ناقضين
العهد؛ وحلت بذلك دماؤهم وأموالهم .
وأما قولهم: إن هذه الكنائس قائمة من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي
الله عنه وأن الخلفاء الراشدين أقروهم عليها. فهذا أيضًا من الكذب؛ فإن من العلم
المتواتر أن القاهرة بُنيت، بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بأكثر من ثلاثمائة
سنة بنيت بعد بغداد وبعد البصرة؛ والكوفة وواسط.
وقد اتفق المسلمون على أن ما بناه المسلمون من المدائن لم يكن لأهل الذمة
أن يحدثوا فيها كنيسة؛ مثل ما فتحه المسلمون صلحًا وأبقوا لهم كنائسهم القديمة؛
بعد أن شرط عليهم فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا يحدثوا كنيسة في أرض
الصلح، فكيف في مدائن المسلمين بل إذا كان لهم كنيسة بأرض العنوة كالعراق ومصر
ونحو ذلك فبنى المسلمون مدينة عليها؛ فإن لهم أخذ تلك الكنيسة، لئلا تترك في مدائن
المسلمين كنيسة بغير عهد…”.
0 تعليقات