علي الأصولي
ما يهمنا بوضوح أن القرآن الكريم نزل في شهر رمضان
المبارك، لقوله تعالى { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } وهو الإنزال الكامل
الشامل التام، بدلالة ضمير أنزلناه إذ لا يفهم منه التبعيض ونحو ذلك،
وهذه النكتة لم يلتفت إليها من اعتبر أن ليلة
القدر مشتبهة في أيام السنة،
ومن المعلوم أنها في شهر رمضان وأن لم نستفد
الظهور من القرآن ولكن استفدناه من الأحاديث والأخبار التي حثت على قيام ليلة
القدر في شهر رمضان فلاحظ،
- وما أدراك ما ليلة القدر - فهي راجعة أما للتعجب
أو الاستفهام الذي يراد منه التعظيم على ما أفادوا، وهي خير من ألف شهر ليس فيها
ليلة القدر بطبيعة الحال كما فهم المشهور،
-
تنزل الملائكة - وفي هذه الليلة المباركة، محملين بالأوامر
الصادرة من الله تعالى،
والملائكة جمع محلى باللام يفيد الاستغراق لجميع
الملائكة كما هو الظاهر،
وكذلك لفظ - الروح - بقوله - والروح فيها - مما
تفيد نزول كل القوى السماوية لتوصيل الأمر،
وقد قيل: بالروح، أنها جبرائيل - ع - وذكر بنحو
الخصوص لاهميته وأن كان هو مندرج من ضمن مفهوم الملائكة فيكون من قبيل عطف الخاص
على العام، أو الجزئي على الكلي،
وقيل: هو أعظم الملائكة،
وقيل: هو خلق أعظم من الملائكة، وهذا هو الأشهر ما
بين جملة من المفسرين،
وقد أفاد السيد الصدر هذا الرأي لوجود التغاير
السنخي بين الملائكة والروح، كون الملائكة من عالم الخلق والروح من عالم الأمر،
وفيه: هذا اذا ثبت كون الروح المقصود منها في
الآية هي الروح التي هي من عالم الأمر، إلا أنه للان لم يثبت ذلك، ولربما أخذ
المشهور اللفظة - الروح - ورتب عليها رأيه التفسيري،
إلا أننا وجدنا صاحب - منة المنان - اعترض على
صاحب - الميزان - عندما فسر - الروح - في الآية هي نفس - الروح - التي هي من أمر
ربي،
ووجه الاعتراض هو عدم تحديد لمعنى - الروح - سورة
القدر،
وبعد الاعتراض خفف على صاحب - الميزان - وعلى ما
يبدو لي مضى معه في النتيجة،
وقد أجاب صاحب - منة المنان - على سؤال مثار
حاصله" إن الملائكة جمع، والروح مفرد،
وقد لحظ جوابه بوجوه :
منها: إن المراد بالروح الجنس وهو بمعنى الجميع،
يعني تتنزل الملائكة والأرواح، فالأول جمع نحويا والثاني جمع معنويا وهذا يكفي،.
ومنها: إن يلحظ الفرد فقط وهو ما تحقق بلفظ الروح
بخلاف الملائكة،
ومنها: إن الروح واحدة لا تتعدد ومن هنا كان
التعبير بلفظ المفرد ولا يمكن حينئذ الجمع،
ولو رجعنا للفظ الروح والتحري عن معناها فلا سبيل
لنا إلا طريق النقل وما نفهمه من عقل، ولتكن الانطلاقة من قوله تعالى { يسألونك عن
الروح قل هي من أمر ربي } الإسراء ٥٨/
فيقال: إن من الحقائق القائمة والمسلمة قرآنيا هو
ان الروح موجودة، نقلا وعقلا،
قرآنيا وحديثا فالنصوص واضحة في المطلب ولا نحتاج
إلى عناء إثبات،
وأما عقلا فيكفي بصدق القضية - وجود الروح - كذب
نقيضها - عدم وجود الروح - منطقيا، وإذا كذب النقيض يثبت صدق القضية الأولى، وهي
أن الروح موجودة ، هذا لان لا تكاذب بين النقيضين أو أنهما لا يكذبان معا،
وما نحن فيه ليس غرضه إثبات وجود الروح وأن كان
مفهومها من عالم الغيب، والعقل قد أعلن عجزه عن الوصول لكنهها وواقعها و اسرارها
فلسفيا وكلاميا، ومن هنا نجد أن الآراء تعددت ونظرياتهم تشعبت في ماهية الروح، هل
هي عرض أو جوهر وهل هي قديمة ام حادثة وما حقيقة علاقتها بالدين وتعلقها وتجردها
ومصيرها ونحو ذلك،
وحسب فهمي كل المباحث المثارة في كتب الفلسفة
والكلام فيما يخص هذا الموضوع فهو من قبيل الأبحاث الاستطرادية،
وهنا ينبغي التفريق بين الروح والنفس من جهة وبين
الروح - يضم الراء - والروح - بفتحها - والروح - بالتحريك - من جهة أخرى حتى تتضح
الصورة ونفهم المطلب بشكل أوضح، وإلا فالاستعمال جار على قولهم - خرجت روحه -
ويقصد بها نفسه،
وضرورة ملاحظة الضم والفتح والتحريك أيضا لا ينبغي
إهماله؛ لأن بالضم الروح تعني الحياة أو ما به حياة الانفس وبالفتح الروح تعني
الراحة والرحمة والرزق ومنه قوله { ولا تيئسوا من روح الله } يوسف/
وبالتحريك تعني الانبساط في صدور القدمين وسعة في
الرجلين دون تباعدها، وما يهمنا في المقام هو التفريق الأول،
الذي لوحظ في عدد من الآيات القرآنية ومن أمثلته:
الموت نسب للنفس دون الروح،
النفس جمعت قرآنيا بخلاف الروح،
ازدواجية النفس - الهمها فجورها وتقواها - بخلاف
الروح ،
النفس جاءت بصيغة المؤنث بخلاف الروح - فتمثل لها
- اي الروح في قصة مريم -ع- ولم يقل فتمثلت لها،
وان كان ابن منظور يرى التذكير والتأنيث للروح كما
في لسان العرب، إلا أن القرآن له رأي آخر كما نرى،
وكيف كان: هناك جملة من القرائن تؤيد المدعى،
تركتها للاختصار،
وكيف كان: عندنا عدة آيات في ما نحن فيه منها {
روحا من أمرنا } و { قل الروح من أمر ربي } و { وايدناه بروح القدس }
و { نزل به الروح الأمين } فهل يمكن عدها بأنها
حاكية عن منشأ الروح بدلالة التسمية ؟
جوابه: لا ، لأن ظاهر الآيات هو بتعدد مهام الروح
بعد إثبات النشأة - من عالم الأمر - والروايات صريحة كون الروح مخلوقة لله كما في
كتاب - الكافي- للكليني،
وأن ذهبنا إلى صوب تعدد الروح الذي لم يقبله
المشهور فيقال: أن التعدد يلحظ مقاميا، فلكل روح مقام خاص ومهمة خاصة، نعم جامعها
هو عالم الأمر وهي بالتالي من سنخ واحد ، نظير التقسيمات الفقهية للماء مطلق ومضاف
ونحو ذلك بينما هو في الحقيقة معنى واحد،
نعم، صرحت بعض المرويات ان لفظ الروح في قوله
تعالى { فارسلنا إليها روحنا } المراد به هو جبرائيل -ع- وقد ذكرنا في بحث سابق أن
جبرائيل تمثل لمريم - ع - بشرا سويا وواقعها كما يواقع الرجل زوجته على تفصيل
مذكور في محله،
وهو موصوف بالأمانة والطهارة كما في قوله { نزل به
الروح الأمين على قلبك } اي على حقيقتك وواقعك وباطنك لا على قلبك الصنوبري، وقد
وجدنا الإمام الباقر - ع - يذكر بأن روح القدس هو جبرائيل والقدس الطاهر،
نعم: ووجدنا كذلك بعض الروايات تذكر بأن الروح
مخلوق أعظم من الملائكة، وكيف كان: هذا المخلوق السماوي مذخور لكبرى المهمات
السماوية في الأرض، تارة بمفرده وتارة معه الملائكة،
عودة على ذي بدء،
{ تنزل الملائكة والروح فيها من كل أمر }
إذن: وفق المهمة الكبرى للروح فقد أمره الله
بالنزول بمعية الملائكة كونه حدث جلل وعظيم الشأن،
والأمر في الآية مفرد أوامر وهو برأي التفسير
المشهوري يعني الطلب، سواء كان هذا الطلب متحقق الوجود في اللوح المحفوظ أو في
الجانب الأسفل ويراد منه تنفيذه،
وكيفما اتفق: ذهب المشهور إلى كون النزول ثبوتي،
اي تتنزل الملائكة بالأوامر لغرض التطبيق الأرضي،
بينما التزم في كتاب - المنة - على أن النزول
إثباتي وهي عملية تعريفية للأوامر من قبل الملائكة للاؤلياء، وهذا ما غفل عنه
المشهور حسب ما أفاد السيد الصدر،.
ولكن ربما يصادف ما التزمه السيد إشكال حاصله: إن افتراض
التعريف الملائكي للاؤلياء بالأوامر يستلزم جهل الولي وكون الملك أعلى رتبة منه
معرفيا وهذا ما لا يلتزم به صاحب - منة المنان -
و يمكن الإجابة على ذلك بوجوه:
يمكن التفص من الإشكال بعد فرض كون ان الملائكة
ليست إلا عقولا تدبيرية فمثلا ما تسميه بالملك جبرائيل هو العقل النبوي المحمدي
وهنا لا تنافي بين انتظار الأوامر واخذها بالتالي للتطبيق،
الوجه الثاني: يمكن أن يقال: إن الأولياء ليس لهم
أطلاع على الغيب بعرضه العريض وهذا لا ينافي مكانتهم ومنزلتهم وهم بالتالي في طور
انتظار الأمر وفهم معناه لتحقيقه وتطبيقه،
وعلى العموم هذا كله اذا فسرنا الأمر مفرد الأوامر
وفي قبال هذا التقسيم يقال أمر مفرد أمور، وهي الأشياء،. فيكون المعنى باذن ربهم
من كل شيء، ومنها العطاء،
وكيفما كان: الملائكة تحمل أمانة عبارة عن أمور
وهي الأشياء ومنها العطاء والأوامر،
وفي ختام الرحلة في رحاب سورة القدر، يقال: إن
الأمر تارة يكون من مقام الإلهية كقوله { وكان أمر الله } و { وقل ان الأمر كله
لله } و { ان الله بالغ أمره } و {فتربصوا متى يأتي الله بأمره } ونحو ذلك من
الآيات،
وتارة يكون من مقام الربوبية أو الربوبي، نحو قوله
تعالى { وكأين قرية عتت عن أمر ربها، ، ، } و { يا ابراهيم اعرض عن هذا أنه قد جاء
أمر ربك } و { باذن ربهم من كل أمر } و { قل الروح من أمر ربي }
ومعلوم بالحكمة ان لكل مقام خصائص تبعا للرتب،
فمقام الإلهية أعلى رتبة من مقام الربوبية،
فالأمر: أولا: ينزل من مقام الإلهية على نحو كلي،
يرتبط بالقدر { ان الله بالغ أمره قد جعل لكل شيء قدرا }
ثم يكون ثانيا: في المقام الربوبي { أمر ربك }
ويكون سريعا في وقوعه { وكأين قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا }
وإذا نزل الأمر من المقامين فيكون أسرع من لمح
البصر { وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر } و { حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور } و
{ إنما أمره إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون }
إذن: الأوامر تنزل من مقامات ومراتب مرتبة { الله
الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن ينزل الأمر بينهن } أنتهى
اعتقد بأن البحث واف بالمطلب والحمد لله رب العالمين،
0 تعليقات