محمد البسفى
تحت السيطرة..
اللذيذة..
في ربيع 2018، ظهرت
الترجمة العربية لـ"دليل الحكومة الأميركية لمكافحة التمرد"، الصادر عام
2009، وهو نتاج صياغة 9 هيئات حكومية أميركية ساهمت في وضع مسودة مشروعه، وهي:
"وزارة الخارجية، وزارة الدفاع، الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وزارة
العدل، وزارة الخزانة، وزارة الأمن الداخلي، وزارة الزراعة، وزارة النقل، مكتب
مدير المخابرات الوطنية".
وقد حمل في طياته
الكثير والهام من المبادئ والمعايير المنهجية والعملياتية لمكافحة التمرد دوليًا،
مما يُشجع التوقف أمامها بالتحليل والدرس مطولاً، ولكننا نكتفي هنا برصد ما ساقه
"الدليل الأميركي لمكافحة التمرد" من تحديد آليات ممنهجة في إستراتيجيته
للسيطرة على ما يصفه بـ"التمرد" دوليًا..
ولأن الحرب غير
النظامية قد أصبحت اليوم أكثر تنوعًا من الصراع التقليدي بدرجة كبيرة، ونظرًا لأن
"مكافحة التمرد" تضع أعباءً كبيرة على كاهل البيروقراطيات في العمل مع
الحلفاء والمنظمات غير الحكومية، "فقد لزم الاهتمام بالأطر الفكرية المتماسكة
لتوفير التوجيه والمرونة اللازمين للتكيف مع الظروف المختلفة". بحسب ما أقرت به
مقدمة الدليل.
لذلك تبدأ مقدمة
"الدليل الأميركي لمكافحة التمرد" بتوضيح ما يُعتبر فلسفة مسودة مشروعه؛
حينما تقول: "إن خبرات مكافحة التمرد الأميركية تستند على عدد من الافتراضات:
منها أن الجهود الحاسمة لهزيمة التمرد نادرًا ما تكون عسكرية، (ينص دليل الميدان
للجيش الأميركي الخاص بمكافحة التمرد على أن: "المعركة قد تكون تحيات ومصافحة
حارة أثناء الصراع؛ مثلما قد تكون بالقنابل والأسلحة"). وذلك، (على الرغم من
أن الأمن هو الشرط الأساس للنجاح). لذا فإن الجهود الأميركية يجب أن توجه إلى
إنشاء هياكل حكومية محلية ووطنية تخدم السكان، لتحل تلك الهياكل بمرور الوقت محل
الجهود التي يبذلها الشركاء الأجانب؛ ومن ثم فإن المعرفة الدقيقة، ولا سيما فهم
«التركيبة البشرية»، (يشمل فهم التركيبة البشرية: فهم المجتمع والبنيان الاجتماعي
والثقافة واللغة والقوة والسلطة والمصالح السائدة فيه). أمر ضروري. فضلاً عن أهمية
التحلي بالصبر للنجاح في تلك الصراعات الطويلة".
في سبيل ذلك؛ قدمت
"الولايات المتحدة" ابتكارات ميدانية ملحوظة في مجال "مكافحة
التمرد"، ولعل أهم تلك المبادرات الجديدة يتمثل في إنشاء "فرق إعادة
الإعمار الإقليمية"، التي تجمع بين الأفراد المدنيين والعسكريين لتنفيذ
الأعمال الإنمائية التي مثلت ضرورة للنجاح في "العراق"
و"أفغانستان". ومثلما تتطور تلك الصراعات، فقد تطورت فرق المساعدة
المؤقتة، إذ تغير تكوينها، وفي بعض الحالات تغيرت مهمتها أيضًا.
ويتنبأ الدليل، في
مقدمته؛ بأنه من المنتظر أن يُمثل "التمرد" عنصرًا ضخمًا ومتزايدًا ضمن
التحديات الأمنية التي تواجهها "الولايات المتحدة" في القرن الحادي
والعشرين. "فمع أن احتمال نشوب صراع تقليدي مازال قائمًا، إلا إن الحقيقة أن
القوى الرئيسة للنظام الدولي في اللحظة الراهنة مترددة بشدة بشأن الانخراط في صراع
من هذا النوع". بينما نجد أن "التمرد" يمكن أن يزدهر في البيئة
الحديثة، "فالتوترات التي أوجدتها «العولمة» بانهيار هياكل الدول الضعيفة،
والضغوط الديمغرافية والبيئية والاقتصادية، وسهولة التعاون بين الجماعات المتمردة
والمجرمين، وظهور الإيديولوجيات الراديكالية المدمرة، تُنبيء بفترة تكون خلالها
الحكومات الحرة المعتدلة في خطر. وفي عالم اليوم، لا يُمثل فشل الدولة مجرد مشكلة
للمجتمعات المحلية، بل يمكن أن يتعدى ذلك سريعًا ليُشكل تهديدًا للأمن
العالمي".
ويقدم الدليل تعريفًا
"أميركيًا" لمفهوم "التمرد" عالميًا بأنه: "هو الاستخدام
المُنظم للتخريب والعنف للاستيلاء على أو تقويض أو تحدي السيطرة السياسية على
منطقة ما. ومن ثم فهو في المُقام الأول صراع سياسي يستخدم فيه الطرفان القوة
المسلحة لإفساح مجال يتيح لهما تفعيل نفوذهما وأنشطتهما السياسية
والاقتصادية".
ويرى أنه:
"تتطلب حركات التمرد كي تنجح: قيادة كاريزمية، وأنصار، ومجندون وإمدادات،
وملاذات آمنة، وتمويل، (غالبًا ما يكون من أنشطة غير مشروعة). وهي لا تحتاج دعمًا
فعالاً إلا من جانب عدد قليل من الأفراد القادرين على تقديم الدعم، في الوقت الذي
يوفر فيه القبول الضمني من قِبل نسبة كبيرة من السكان المتنازع على ولائهم
احتمالية أكبر للنجاح. ويتحقق ذلك القبول على أفضل وجه عندما تكون القضية السياسية
المحركة للتمرد ذات جاذبية قوية، فتوظف الهوية الدينية أو القبلية أو المحلية من
أجل استغلال المظالم المجتمعية المنتشرة واحتياجات السكان".
وبالتالي فإن
"مكافحة التمرد" عبارة عن مزيج من الجهود المدنية والعسكرية الشاملة
التي تهدف إلى إحتواء "التمرد" الحادث ومعالجة أسبابه الجذرية في آن
واحد. وخلافًا للحرب التقليدية، فإنه كثيرًا ما تكون الوسائل غير العسكرية هي أكثر
العناصر فعالية، بينما تلعب القوات العسكرية دورًا مهيئًا للساحة.
فتركز إستراتيجياتها
عادة على السكان بدلاً من العدو، وتسعى إلى تعزيز شرعية الحكومة المتضررة بالتوازي
مع الحد من نفوذ المتمردين. ولا يمكن تحقيق ذلك في كثير من الأحيان إلا بالتزامن
مع الإصلاح السياسي لتحسين نوعية الحكم، ومعالجة المظالم ذات الأولوية، التي قد
يكون الكثير منها مشروعًا.
وبما أن حملات
"مكافحة التمرد" الأميركية عادة ما تنطوي على المشاركة في دعم حكومة
أجنبية، (إما بشكل مستقل أو كجزء من تحالف)، فإن النجاح غالبًا ما يعتمد على رغبة
تلك الحكومة في إجراء التغييرات السياسية اللازمة. حيث إنه لا يمكن للاعب خارجي -
مهما كانت درايته الفنية وحماسته - أن يعوض بشكل كامل نقص الإرادة، أو العجز، أو
السلوك غير المثمر من جانب الحكومة المدعومة.
ويستخدم هذا الدليل
نموذجًا لمكافحة "التمرد"؛ يتألف من خمس مهمات رئيسة :
أولاً: المهمة
السياسية.. هي المهمة الرئيسة، وتوفر إطارًا للمصالحة السياسية يدور حول إصلاح
الحكم، وهذا هو ما تدور حوله جميع أنشطة "مكافحة التمرد" الأخرى. وبوجه
عام فإن إستراتيجية "مكافحة التمرد" تكون جيدة بقدر وجود خطة سياسية في
القلب منها.
ثانيًا: المهمة
الاقتصادية.. تسعى إلى توفير الخدمات الأساسية وتحفيز النمو الاقتصادي على المدى
الطويل، مما يولد الثقة في الحكومة، وفي نفس الوقت يحد من أعداد الشباب والشابات
العاطلين عن العمل الذين يسهل على المتمردين استقطابهم.
ثالثًا: المهمة
الأمنية.. هي عامل مهييء للوظائف الأخرى، لكنها لا تنطوي فحسب على تنمية القوة
العسكرية للدولة المتضررة، وإنما تشمل تنمية القطاع الأمني بالكامل؛ بما في ذلك
الإطار القانوني المرتبط به، وآليات الرقابة المدنية والنظام القضائي. فإرساء
الأمن ليس مقدمًا على الأنشطة الاقتصادية والحكومية، بل يجب أن يتم تطوير النشاط
الأمني والاقتصادي والحكومي بشكل متواز.
رابعًا: المهمة
المعلوماتية.. تشمل الاستخبارات، (المطلوبة للحصول على الفهم)، والتأثير، (لتعزيز
قضية الحكومة المتضررة). ومن الضروري أن تتماشى حملة التأثير مع الخطاب
الإستراتيجي الذي يتردد صداه على مسامع الجماهير المعنية، والمعتمد على الحلول
الحقيقية من جانب الحكومة المستهدفة. كما يجب أن تتوافق الإجراءات المادية مع
الخطاب.
إنما يجعل عملية
"مكافحة التمرد" مختلفة عن العمليات الأخرى لتحقيق الاستقرار والمهام
الإنسانية، (تهدف مهام حفظ السلام إلى إيقاف العنف، بينما تهدف جهود مكافحة التمرد
إلى القضاء على التمرد بما يتضمنه ذلك من استخدام للعنف)، هو أن كلاً من مهام
عنصري المعلومات، (الاستخبارات والتأثير)، يتنافسان بقوة مع مهام المعلومات، (يسعى
المتمردون لجمع معلومات عن خصومهم، وللتأثير على الجماهير لتعزيز قضية التمرد)،
التي يحصل عليها المتمردون.
خامسًا: تسهم هذه
المهام الأربع السابقة؛ في تحقيق الهدف العام المتمثل في تمكين الحكومة المتضررة
من فرض سيطرتها وتعزيزها، ثم نقل المهام من قوات التدخل إلى القوات الوطنية، ومن
المؤسسات العسكرية إلى المؤسسات المدنية.
ولا يخفى أنه من
المُلح التنسيق بين الأنشطة السياسية والأمنية والاقتصادية والإعلامية، وهو ما
يتطلب توحيد الجهود بين جميع الجهات المشاركة في "مكافحة التمرد"،
(الحكومة المتضررة، والوكالات الحكومية الأميركية، وشركاء التحالف). ويتم تحقيق
ذلك على أفضل وجه من خلال نهج متكامل للتقييم والتخطيط.
وفي إطار استعراض
وكشف إستراتيجيات "السيطرة اللذيذة" - إن جاز التعبير - لضبط إيقاع
الوعي الجمعي والتلاعب بمشاعر إنسان القرن الحادي والعشرين في وضعية التحكم فيها
واحتوائها بمنهجية مدروسة، وخلق ميادين صراع اجتماعي "حديثة"، لمواطني
العالم الثالث خاصة، تستنزف قواه الفكرية والجدلية وتحصره داخل مربع السيطرة
المبتغى.. يظهر "وحش" اعتباري يملك من المواصفات ما للكائنات الأسطورية
من ضخامة وقوة سيطرة، تّكون من توليفة عجيبة من: علوم "هامشية" تم بث
الروح في أوصالها وتضخيم نظرياتها وتحديثها لتُصبح عماد عمل ونشاطات شركات متعددة
الجنسيات تساهم في إدارة ديمقراطيات دول، كتنظيرات "علم النفس الإيجابي
والعصبي" وتفريعاتهما المتشعبة، وبعضٍ من مفاهيم وفلسفات قبائل وحضارات ما
قبل التاريخ، مثل أسرار "الطوطم والتابو والمذاهب الحيوية والعاطفية"،
وغيرها من قواعد السحر والشعوذة التي تم تحديثها لتواكب خوارزمية تكنولوجيا عصر
المجتمعات الإفتراضية والسماوات المفتوحة في محيط عولمي شمولي القوانين والمفاهيم
إلى حد إبتكار "المراقبة السيكولوجية" للشعوب بما يخدم سياسات ومصالح
السوق الحر المفتوح، وأصبحت هناك بالتالي ما يمكن لمسه من اقتصادات كاملة قائمة
على ما يسمى بـ"صناعة السعادة" والرفاهية !
"صناعة
السعادة"؛ ذاك العنوان الذي اختاره "ويليام ديفيز"، لأحدث دراساته؛
والتي افتتحها بملاحظة موحية خبيثة الذكاء في إبراز حضور "راهب بوذي"،
لأول مرة، فعاليات المنتدى الاقتصاد العالمي WEF
لعام 2014، والذي يُعقد سنويًا في "دافوس Davos"،
ويحضره نُخبة مليارديرات العالم الرأسمالي ورؤساء وممثلي الدول الصناعية والنامية
!
ليقدم
"ديفيز"، ذلك الراهب البوذي باعتباره: "راهبًا نخبويًا حقيقيًا؛
عالم بيولوجيا فرنسيًا اسمه ماثيو ريكارد Matthieu Ricard،
صاحب شهرة محدودة صنعها بنفسه. يعمل مترجمًا عن الفرنسية لـ «الدلاي لاما»، ويعطي
دروسًا عن موضوع السعادة ضمن مؤتمرات TED، (إختصار للكلمات: Design Entertainment Technology، وتعني: تقانة وترفيه وتصميم. وهو عنوان لسلسلة مؤتمرات عالمية
تُعقد سنويًا، وترعاها مؤسسة «سابلنغ» الأميركية، (Sapling Foundation)، تهدف إلى التعريف بالأفكار الجديدة ونشرها مجانًا على
الويب/الموقع الإلكتروني الخاص بها)، وهو الموضوع الذي يحظى براعة استثنائية في
الحديث عنه استنادًا إلى صيته بوصفه «أسعد رجل في العالم». شارك «ريكارد» عدة
سنوات في دراسة خاصة بعلم الأعصاب في جامعة ويسكونسين University of Wisconsin؛ تسعى إلى فهم كيف تحفر وترى مستويات مختلفة من السعادة داخل
الدماغ ...".
كان حضور
"ريكارد" اجتماعات (دافوس)، في العام 2014، تعبيرًا عن تحول أعم في
النبرة مقارنة بالسنوات السابقة. كان المنتدى مشغولاً بأحاديث عن "الإستغراق
العقلي Mindfulness"، وهي تقنية للإسترخاء تشكلت من توليفة
من علم النفس الإيجابي والبوذية والعلاج المعرفي السلوكي وعلم الأعصاب، وتمركزت
خمس وعشرون جلسة في اجتماعات 2014؛ حول مسائل تتصل بالصحة العقلية والبدنية، وهو
عدد يزيد على ضعف الجلسات المخصصة لهذا الشأن في اجتماعات 2008.
يُعلق الباحث:
"هذا هو ما يستحوذ على تفكير نخبنا العالمية. فلم تُعد السعادة بمختلف
مظاهرها مجرد إضافة سارة إلى العمل الأهم؛ وهو جني المال، ولا اهتمامًا من
اهتمامات ذوي تلك المرحلة العمرية التي تتيح لمن وصلوا إليها الوقت الكافي ليعدوا
لأنفسهم الخبز، بل هي الآن، بوصفها كيانات مرئية يمكن قياسها وتحسينها، قد اخترقت
قلعة إدارة الاقتصاد العالمي. إذا كان المنتدى الاقتصادي العالمي يُشكل مرشدًا ما
- ولطالما أراد أن يكون كذلك في الماضي - فإن مستقبل الرأسمالية الناجحة يتوقف على
قدرتنا على التصدي للضغوط النفسية والبؤس والمرض، ووضع الإسترخاء والسعادة والصحة
بالمكانة اللائقة. لقد أصبحت التقنيات والمقاييس والتقانات متاحة الآن لتحقيق ذلك،
وهي تغزو مقر العمل والشارع الرئيس والمنزل وجسم الإنسان".
وهنا يحاول الباحث
البريطاني وضع يده على المكمن الدقيق لاهتمامات الرأسمالية العالمية حاليًا في
توجيه بحث نيوليبراليتها عن فلسفات ومناهج جديدة قد تقيمها من عثرة إنهيارها
الأخير في عام 2008، وتُسكن أوجاع ومطالب شعوبها بتغييبهم من ناحية؛ والاستفادة
منها إستثماريًا بجعلها مصدرًا لدر الأرباح من ناحية أخرى.. "وفي لندن تحديدًا
يُسدون النصح لأولئك الذين يشردون عنوة من منازلهم، بشأن كيفية الانتقال
عاطفيًا" (!!).
ومع تراكم الأدلة
الإحصائية في هذه المنطقة ينمو حقل "اقتصاديات السعادة"؛ ليستفيد من كل
تلك البيانات الجديدة في بناء صورة دقيقة تُبين أي المناطق، وأي أنماط الحياة
وأشكال التوظيف، أو أي أنواع الاستهلاك هو ما يولد الرفاهية العقلية العظمى.
ليظهر هنا مدى
الاحتياج لـ"علم النفس الإيجابي" وتحديثاته التي لاحقتنا منذ تسعينيات
القرن الماضي، بتغلغله في ثقافاتنا السياسية والاقتصادية وتسلله إلى حياتنا
الاجتماعية، لقياس السعادة والرفاهية. ولكن دون النظر إلى مكمن خطورة هذا العلم
الذي ينتهي به الحال بتحميل الأفراد مسؤولية شقائهم وعلاج هذا الشقاء، في حين
يتجاهل السياق الذي أدى إلى ذلك. "فتقانات تعُقب الحالة المزاجية وخوارزميات
التحليل الوجداني وتقنيات التخلص من الضغوط النفسية باستخدام التأمل، توضع في خدمة
مصالح اقتصادية وسياسية بعينها؛ فهي ليست هبات لنا كي نصل إلى إزدهارنا
الأرسطي".
يُعلق
"ديفيز" على أسباب اهتمام الرأسمالية العالمية الآن بحل مثل هذه
المشاكل: "يتعلق السبب بطبيعة الرأسمالية ذاتها. كان أحد الحاضرين في
اجتماعات دافوس، في العام 2014، قد ألقى تعقيبًا حوى من الحقيقة أكثر بكثير مما
قصد على الأرجح: «لقد أختلقنا المشكلة التي نحاول الآن حلها». كان يتحدث تحديدًا
عن كيف أن ممارسة العمل مدة أربع وعشرين ساعة يوميًا، سبعة أيام في الأسبوع، إلى
جانب الأجهزة الرقمية المتاحة دائمًا، قد أصابتا المسؤولين الكبار بالإجهاد البالغ
ما جعلهم يضطرون الآن إلى الإستغراق في التأمل لمجاراة التبعات. على أي حال، يمكن
تعميم التشخيص نفسه على ثقافة الرأسمالية ما بعد الصناعية على نطاق أوسع".
لقد إنتكبت النُظم
الاقتصادية الغربية بأزمة حادة منذ ستينيات القرن الماضي؛ جعلتهم يعولون بدرجة
أكبر على إندماجنا الإنفعالي والسيكولوجي، (سواء كان ذلك من خلال العمل والعلامات
التجارية، أو من خلال صحتنا ورفاهيتنا)، في الوقت الذي يكتشفون فيه الصعوبة
المتزايدة في الحفاظ على هذا الإندماج. ولا تندرج أشكال الانفصال الذاتي؛ الذي يبرز
في الأغلب باعتباره اكتئابًا أو أمراضًا سكوسوماتية Psychosomatic تحت بند المعاناة التي يشعر بها الأفراد فقط، بل تستفحل صعوبتها
بالنسبة إلى صنُاع السياسة والمسؤولين حين تفسر على أساس اقتصادي. على رغم ذلك
ترسم أدلة من علم الأوبئة الاجتماعية صورة مقلقة للكيفية التي تتركز بها التعاسة
والاكئتاب في المجتمعات غير العادلة إلى حد كبير، والتي تُشيع فيها قيم تنافسية
ومادية فجة. تشدد أماكن العمل بشكل متصاعد على الجماعة والإلتزام السيكولوجي، لكن
ذلك يكون في مقابل ميل اقتصادي أطول أمدًا إلى التذرر Atomization
وإنعدام الأمن. إن لدينا نموذجًا اقتصاديًا يخفف من آثار السمات السيكولوجية التي
يرتكز إليها تحديدًا.
لقد اختلفت الحكومات
والشركات بهذا المعنى، الأكثر تاريخية وعمومية، إذاً: "المشكلات التي تحاول
الآن حلها". وأنجز "علم السعادة" النفوذ الذي يتمتع به؛ لأنه يعد
بتوفير الحل الذي طال إنتظاره. فقبل كل شيء، يستطيع اقتصاديو "السعادة"
تحديد سعر نقدي لمشكلة البؤس والإستلاب. إذ قدرت مؤسسة "غالوب Gallup" لاستطلاع الرأي، على سبيل المثال، أن عدم إحساس الموظفين
بالسعادة يُكلف اقتصاد "الولايات المتحدة" خمسمائة مليار دولار أميركي
سنويًا بسبب تدني الإنتاجية والإيرادات الضريبية وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية.
يسمح ذلك بالزج بإنفعالاتنا ورفاهيتنا إلى قلب الحسابات الأوسع للكفاءة
الاقتصادية؛ حيث تؤدي تقنيات علم النفس الإيجابي والتقنيات المرتبطة بها دورًا
جوهريًا في مساعدة البشر على استعادة طاقاتهم ودوافعهم. والأمل كامن في احتمال
التغلب على الخلل الأساس في اقتصادنا السياسي الراهن من دون مواجهة القضايا
الاقتصادية والسياسية الخطيرة. فغالبًا ما يدور "علم النفس" حول الكيفية
التي تتحاشى بها المجتمعات النظر في المرآة.
السبب البنيوي الثاني
للاهتمام المتعاظم بـ"السعادة"؛ مُربك أكثر بعض الشيء، وهو يتعلق
بالتقانة. فحتى وقت قريب نسبيًا، ظلت محاولات أغلب العلماء لمعرفة الطريقة التي
يشعر بها فرد آخر، أو للتلاعب بها، تجري داخل مؤسسات محددة بشكل رسمي كالمختبرات
والمصحات النفسية وأماكن العمل والجلسات النقاشية "Focus Groups"؛
أو ما شابه. تغيرت الحال الآن؛ فقد نشر (فيس بوك Facebook)،
في (تموز) يوليو 2014، ورقة أكاديمية تضم تفاصيل بشأن الكيفية التي بدل بها
الحالات المزاجية لمئات الآلاف من مستخدميه؛ وذلك من خلال التلاعب بالخلاصات
الإخبارية، "News Feeds"، الخاصة بهم، ما سبب اندلاع نوبة
احتجاجية بذريعة السرية التي أحاط بها (فيس بوك) بحثه. لكن مع إنقشاع الغيمة تحول
الغضب إلى قلق: ترى هل يجشم (فيس بوك) نفسه عناء نشر ورقة كهذه في المستقبل، أم
يكتفي بمواصلة التجربة على أي حال ويحتفظ بالنتائج لنفسه ؟
إن رصد مشاعرنا
وحالاتنا المزاجية يغدو إحدى وظائف بيئتنا المادية. في العام 2014، اختبرت الخطوط
الجوية البريطانية "بطانية سعادة" تصف مستوى رضا المسافر عبر الرصد
العصبي؛ إذ يتحول لون البطانية من الأحمر إلى الأزرق كلما استرخى الركاب أكثر؛ ما
يُعطي مؤشرًا إلى طاقم شركة الطيران بأن ما يقدمونه من رعاية مناسب إلى حد كبير.
ويتوافر الآن في السوق قدر من التقانات الاستهلاكية لقياس وتحليل مستوى السعادة؛
بدءًا من ساعات المعصم إلى الهواتف الذكية إلى "فيسل Vessyl"؛
وهو كوب ذكي يرصد ما تتناوله من سوائل من ناحية آثاره الصحية.
كان إحدى الحجج النيوليبرالية
المؤسسة، دعمًا لـ"السوق"، تزعم أنه يعمل كجهاز أستشعار رحب، يلتقط
الملايين من رغبات الأفراد وآرائهم وقيمهم، ويحولهم إلى أسعار. ربما نكون على
أعتاب "عصر ما بعد نيوليبرالي" جديد لم يعُد فيه "السوق"
الأداة الرئيسة لإلتقاط مثل هذا الوجدان الاجتماعي، فبينما تغرق أدوات رصد سعادتنا
حيواتنا اليومية، تبرز طرق أخرى للتقدير الكمي للمشاعر فوريًا بصورة قد تتوغل بها
في حيواتنا أكثر من الأسواق.
كانت المخاوف
الليبرالية بشأن الخصوصية تعتبرها عادة شيئًا في حاجة إلى الموازنة في مقابل
الأمن. لكن اليوم، نحن مضطرون إلى التصدي لحقيقة أن قدرًا ضخمًا من المراقبة يجري
بهدف تحسين صحتنا وسعادتنا والإشباع المعنوي أو لذاتنا المحسوسة. وبصرف النظر عن
البواعث وراء ذلك، فإننا لو تصورنا وجود حدود للمدى الذي ينبغي لحيواتنا أن تخضع
فيه للإدارة بشكل محترف، فلا ريب أن هناك حدودًا للقدر الذي ينبغي أن نطمح إليه من
الإيجابية البدنية والنفسية. إن أي انتقاد للمراقبة الواسعة ينبغي أن يتضمن الآن
انتقادًا لتعظيم الرفاهية، حتى إن جاء ذلك على حساب الصحة والسعادة والثراء.
لا يشير إستيعاب تلك
الإتجاهات باعتبارها تاريخية أو سوسيولوجية في حد ذاته إلى الطريقة التي ربما
تعرضت بها للمقاومة أو الرفض. لكنه يحظى بفائدة تحررية عظيمة: من خلال تحويل
اهتمامنا النقدي نحو العالم في الخارج، لا إلى الداخل نحو مشاعرنا وأدمغتنا
وسلوكنا. غالبًا ما يقال إن الاكتئاب "غضب إنقلب إلى الداخل"، وفي كثير
من النواحي، فإن علم السعادة "نقد إنقلب إلى الداخل" على رغم كل توسلات
مختصي علم النفس الإيجابي كي "نُبصر" العالم من حولنا. ليس في استطاعة
الإفتتان الذي لا هوادة فيه بكميات المشاعر الذاتية غير أن يحول الإنتباه النقدي
بعيدًا عن المشكلات الاقتصادية والسياسية الأوسع. لذلك، بدلاً من السعي إلى تبديل
مشاعرنا، ها قد حان الوقت المناسب كي نستدعي ما قلبناه إلى الداخل ونحاول توجيهه
إلى الخارج مرة أخرى. وواحدة من طرق البدء هي إلقاء نظرة متشككة على تاريخ قياس
السعادة نفسه.
هنا ظهرت لنا
اختيارات محددة، تدفعنا إليها رأسمالية اليوم ضمن إستراتيجيتها الحديثة.. يوضح
الباحث قائلاً: "هكذا كانت وستظل الخيارات: إما النقود وإما الجسم؛ الاقتصاد
أو الفيسيولوجيا؛ الدفع أو التشخيص. لو قدر للسياسة أن تصبح علمية وتتحرر من هراء
التجريد، فسيكون إنطلاق المشروع من خلال الاقتصاد أو الفيسيولوجيا أو توليفة ما
منهما".
حين أطلق هاتف (iPhone 6)، في (أيلول) سبتمبر 2014، كان التجديدان الجوهريان فيه كاشفين
تمامًا: تطبيق يراقب النشاط الجسدي، والآخر يمكن استعماله في السداد داخل المتاجر.
أينما أبتغى الخبراء رصد عاداتنا في التسوق؛ أدمغتنا أو مستويات إجهادنا النفسي،
فهم يسهمون في المشروع الذي وضع "بنتام"، (غيرمي بنتام Jeremy Bentham؛ فيلسوف إنكليزي، يُعتبر من مؤسسي مذهب النفعية)، أسسه. ومنزلة
المال في هذا العلم مثيرة للاهتمام؛ ففي حين تتعرض المفاهيم الأخلاقية والسياسية
للهجوم بوصفها تجريدات عقيمة وغبية، ينظر إلى لغة الباوندات والبنسات على أنها على
علاقة طبيعية وراسخة إلى حد ما بمشاعرنا الداخلية. إن هذه المنزلة الإستثنائية
التي تعزى إلى الاقتصاد منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى الآن، بوصفه أقرب إلى أن
يكون علمًا طبيعيًا من أن يكون علمًا اجتماعيًا، هي من إرث هذه النظرة إلى العالم.
قد تبدو "مشكلة
القياس" مسألة جافة تتعلق بالمنهجية العلمية. فلا ريب أننا نعلم جميعًا ما
كان "بنتام" يقصده؛ حين قال إن على الحكومة أن تسعى إلى تحقيق السعادة
القصوى للجميع؛ فهل نحن في حاجة حقًا إلى أن يتوقف تفكيرنا عند تفاصيل كيفية حساب هذه
السعادة ؟.. نستطيع بالطبع أن نهب "بنتام" منزلة فيلسوف ونتجاهل تطلعاته
التقنية والإبتكارية. كما نستطيع أن نتأمل الطريقة التي يعمل بها "مذهب
المنفعة" نظريًا من خلال ممارسة ألعاب تحليلية داخل قاعة البحث الفلسفي.
يستمر
"ديفيز"؛ شارحًا: "كانت النقطة الطاردة في الرأسمالية تتعرض للإزاحة.
فمنذ «آدم سميث» وصولاً إلى «كارل ماركس»، كان ينظر إلى المصنع والعامل على أنهما
مؤشران يحددان سعر ما يُباع داخل السوق. لكن منذ العام 1870 فصاعدًا، تغير كل هذا.
صارت "الحاجات" الداخلية للمستهلك الآن هي محل إنبعاث التساؤلات
المتعلقة بالقيمة. من هذا المنظور، أصبح العمل لا يعدو أن يكون شكلاً من
"المنفعة السلبية"؛ نقيض "السعادة"، نتجشمه كي نجني مزيدًا من
النقود كي ننفقها على تجارب ممتعة، ("نحن نعمل كي ننتج وهدفنا الوحيد هو
الاستهلاك، وينبغي أن تتحدد أنواع وكميات السلع التي ننتجها في ضوء ما نحتاج أن
نستهلكه". ويليام ستانلي غيفونز William
Stanley Jevons؛
"The Theory of Political
Economy")، كان
الإحساس الذاتي وتفاعله مع الأسواق يرفع لمنزلة القضية المركزية لعلم
الاقتصاد".
في مقدمة الطبعة
الثانية من كتابه، (نظرية الاقتصاد السياسي)، كان يرى "غيفونز" بوضوح ان
كتابه يُعد بداية جديدة لفرع معرفي أكثر صرامة مما في مستطاع المشتغلين في حقل
الاقتصاد السياسي تحقيقها؛ إذ لم تكد ترسي الدعائم الرياضياية الصحيحة حتى ترتكز
دراسة الاقتصاد إلى أسس موضوعية جديدة.
بالنسبة إلى
"غيفونز"، كان كل شيء مسألة توازن مقيسة من ناحية الكم. وقد جعله
إفتتانه بخصائص العقل الشبيهة بخصائص الآلة؛ رائدًا لنوع من التفكير السبراني Cybernetic، الذي سيتمخض لاحقًا عن علم الحواسيب.
يصف
"ديفيز"؛ السوق لهؤلاء الفلاسفة والمنظرين، ما قبل "غيفونز"؛
"كان السوق عبارة عن بيان سيكولوجي واسع يكشف رغبات المجتمع ويمثلها".
أما
"غيفويز" فقد حول السوق بفاعلية إلى آلة رحبة لقراءة العقل، تعمل فيها
الأسعار - أي النقود - أداة تجعل من هذه القراءة أمرًا ميسورًا. هكذا كانت الحال،
النقود ليست أداة عادية، وعلم الاقتصاد ليس بالعلم العادي. صار النموذج الأمثل
لإخراج عالم الإنفعالات والرغبات غير المرئية إلى حيز الرؤية؛ مرتبطًا الآن على
نحو وثيق بالنموذج الأمثل للسوق الحرة.
لقد درس الاقتصاديون
الكلاسيكيون الرأسمالية من ناحية الجهد والعرق والمردود المادي الناتج. أما
"غيفونز" فقد عرضها بوصفها مجرد لعبة هواجس ومخاوف، وقدمها بشكل
رياضياتي.
وجاءت إرهاصات تطبيق
تلك التنظيرات الحديثة على السوق.. تم افتتاح أول مركز تسوق في العالم
بـ"باريس"، في العام 1852، متيحًا تجربة التسوق التي نعرفها الآن. لم
يسبق للمنتجات قط أنها عُرضت مفصولة على نحو سحري عن منتجيها، وغير حاملة لشيء سوى
بطاقة سعر تعرض ألم الحصول عليها.
يُعد
"غيفونز" واحدًا من مهندسي ما يشار إليه في الأغلب باعتباره كائنًا
اقتصاديًا "homo economicus"، وهو تصور بائس إلى حد ما للكائن
البشري الذي لا يكف عن الحساب، وتحديد الأسعار للسلع، ويسعى بشكل عُصابي خلف
مصالحه الشخصية عند كل منعطف.
في نهاية القرن
التاسع عشر صار للكائن الاقتصادي معنى؛ باعتباه نظرية علمية تساعد في فهم الأسواق،
ولم يكن هناك على الإطلاق ما يستلزم تطبيقها خارج الحلبة المالية. كانت نظرية
تعظيم المنفعة، كما طورها "غيفونز" وآخرون في سبعينيات القرن التاسع
عشر، مفيدة إلى حد أنها فسرت لِم يشتري الناس ويبيعون. لكنها لم تتجاوز ذلك، بيد
أن هذه النظرية الاقتصادية توسعت بشكل كبير خلال النصف الثاني من القرن العشرين
إلى أن وصلت إلى خدمة الوظيفة العامة الأوسع نفسها، والتي سعى مذهب
"بنتام" النفعي الأصيل إلى تحقيقها. إن ما بدأ بوصفه نظرية عن المبادلات
في السوق تضخم شيئًا فشيئًا إلى أن أصبح نظرية عن العدالة.
إن علم الاقتصاد أصبح
يستخدم بوصفه أساسًا لاتفاق عام أوسع يتجاوز حدود السوق. إذ تتسع التقنيات التي
تبتكر لدراسة الإتزان في تبادلات سوق خاصة صغيرة من أجل إصدار أحكام على خلافات
أخلاقية عامة كبرى. تأمل ماهية النشاط الغريب الذي يدور في القلب من هذا: مواطنون
منتشرون في أنحاء "أميركا" مطلوب منهم أن يغمضوا أعينهم وأن يتخيلوا ما
يتعين عليهم شخصيًا دفعه للحيلولة دون وقوع حادث ما بعيد. لابد أن يغوصوا داخل
أعماقهم بحثًا عن رقم ما يعتقدون أنه مساوٍ لقيمة تنظيف الشريط الداخلي. يا لها من
تقنية عجيبة تقوم على إستبطان غريب من المُحال تمامًا إثبات دقته بأي شكل، بل تحظى
بسلطة تفوق، لنقل، شهادات القضاة أو المسؤولين المنتخبين أو خبراء الحياة البرية.
ومع ذلك تتنامى
السلطة السياسية لمثل هذه التقنيات بمرور الوقت.. تُمثل هذه التقنيات مراوغة بين
نظرة ديمقراطية تتطلب سماع صوت الناس، وعلم بنتامي ينادي بأن الأرقام وحدها هي
الجديرة بالثقة. لكن المُحصلة صعبة التناول هي أن الناس ربما يتكلمون، لكن شريطة
أن يتبنوا المقاييس والأسعار باعتبارها لغتهم. وكي تكون لهم كلمة عليهم تقليد
الآلة الحاسبة.
بعد العام 2008، الذي
شهد أكبر أزمة مالية منذ العام 1929، قادت إلى أطول ركود منذ ثمانينيات القرن
التاسع عشر، كانت هذه هي الأرضية التي أعتقد عدد هائل من واضحي الذكاء ضرورة
مناقشة الاقتصاد السياسي على أساسها. فقد يكشف إنعام النظر داخل الدماغ عن الخطأ
الذي جرى بالضبط. هكذا لم تكن الضغوط الإستراتيجية التي مارستها البنوك على
التشريعات المالية منذ ثمانينيات القرن العشرين فصاعدًا هي الملومة، ولا الباب
الدوار بين "البيت الأبيض" و"غولدمان ساكس"، (غولدمان ساكس Goldman Sachs: بنك إستثماري عالمي مقره "نيويورك"، يُطلق عليه
"صانع الصفقات الرقم 1 في وول ستريت"؛ والإشارة هنا إلى الشبهات التي
حامت حول استفادة البنك من حزمة إنقاذ القطاع المالي البالغة 700 مليار دولار من
خلال علاقته بوزير الخزانة آنذاك،"هنري بولسون Henry Paulson"، والذي كان رئيسًا للبنك في وقت سابق.)، كما لم تكن حقيقة
أن البنوك الإستثمارية كانت لديها القدرة على رشوة وكالات التصنيف الائتماني
لتمتدح المنتجات المالية التي لا قيمة لها. كلا، كانت المشكلة التي عصفت بدنيا
المال تتمثل في إحدى مواد كيمياء الأعصاب الخطأ.
وأمام هكذا آليات سوق
نيوليبرالي حديثة، نجد الأحوال على الطرف المقابل من سوق العمالة أكثر إشراقًا،
لكنها لا تقل وحشية بطريقة أو بآخرى. كما يرى "ديفيز". ففي حين تتصدى
"آتوس" و"إيه فور إي" و"إينغوس" لبلادة وتشاؤم الفقراء،
يجني مستشارو العافية الراقون مبالغ هائلة من خلال تلقين النخب بالشركات كيفية
الإبقاء على أنفسهم داخل حالة من اللياقة السيكوسوماتية المُثلى. فدروس
كـ"البرنامج الرياضي للشركات"، Corporate Athlete Course،
الذي يقدمه؛ "د. غيم لوهر Jim
Loehr"،
ومدته يومان ونصف اليوم بقيمة 4.900 دولار، تُعرف المديرين التنفيذيين
بإستراتيجيات نخبوية في استثمار الطاقة تمكنهم من تحقيق مستوى أداء رفيع للعافية
الجسدية والعقلية. ويبيع معلم الإنتاجية الأميركي، "تيم فيريس Tim Ferriss"، النصح بشأن الطريقة المُثلى التي يوظف بها المديرون الكبار
أدمغتهم في أثناء يوم العمل، بعد عمله السابق في بيع مكملات غذائية مشكوك فيها،
لتحسين وظائف الدماغ.
تنتقل دائرة
الاستشارات هذه بسلاسة بين مجالات خبرة منفصلة بشكل واضح. إذ تمتزج سيكولوجيا
الدافعية مع فيسيولوجيا الصحة، منتجة بين الحين والآخر إستبصارات من مدربين
رياضيين وخبراء تغذية يضاف إليها خليط من شائعات "علم الأعصاب" وممارسات
التأمل البوذي، فتتداخل مفاهيم شتى عن "اللياقة" و"السعادة"
و"الإيجابية" و"النجاح" من دون شرحٍ واف عن الكيفية أو السبب.
والفكرة التي تلازم كل هذا هي أن هناك شكلاً مثاليًا واحدًا للوجود الإنساني:
مجدًا في العمل؛ سعيدًا، يتمتع بالصحة، وفوق كل شيء، ثريًا. ويُبنى علم يختص بكمال
الصفوة مستثمرًا نجاح هذه الرؤية الرأسمالية البطولية. لكن الجانب الآخر من هذا،
والقوة الدافعة الحقيقية وراء الكثير من البرامج المعنية بعافية المديرين
التنفيذيين، هو مجموعة من المخاطر التي خضعت للبحث الجيد الذي أجراه رجال أعمال
على درجة عالية من التنافسية، والتي أشتهرت بين العامة باسم، "الإنهاك" Burn-Out، وتشمل: الفرصة الكبيرة للإصابة بالنوبات القلبية، والسكتات
الدماغية، والإنهيارات العصبية.
وعليه؛ فإن إحدى طرق
إستيعاب "النيوليبرالية" هي دراسة كيف تطورت الأمور: تصاعد أجور
التنفيذيين؛ المستويات غير المسبوقة للبطالة؛ الهيمنة المتزايدة للقطاع المالي على
بقية الاقتصاد والمجتمع؛ توسعة تقنيات إدارة القطاع الخاص لتشمل كل مناحي الحياة.
وعلى مستوى تفصيلي؛
تطرح شعارات مثل "أفعلها فقط"، و"أستمتع أكثر"،Enjoy More، والتي تخص (نايك Nike) و(ماكدونالدز McDonald’s)،
على الترتيب، الأوامر الأخلاقية في مرحلة ما بعد الستينيات النيوليبرالية. حيث
تُصبح المباديء الأخلاقية المفارقة الأخيرة لمجتمع يرفض السلطة الأخلاقية، وكما
دفع به "سلافوي غيغيك Slavoj
Zizek"، فقد
صار الأستمتاع فريضة تفوق الإمتثال للقواعد. وبفضل ما لـ"مدرسة
شيكاغو"،(مدرسة تطويرية في علم الاقتصاد)، من تأثير في المنظمين الحكوميين،
فإن الأمر لا يختلف بالنسبة إلى ربحية الشركات.
وهكذا؛ ينشأ
"الاضطراب الاكتئابي التنافسي" المرتبط بالنيوليبرالية، لأن الإلزام
بتحقيق نفع أكبر - سواء كان مقيسًا من خلال النقود أو الأعراض البدنية - يخصخص.
وتُصبح إمكانية، بل ضرورة، أن تُضحي المؤسسات والناس أكثر ثراءً ونجاحًا وصحة، أشد
إلحاحًا. ويصير المنطق القائل أننا نتحمل مسؤولية سياسية أو أخلاقية معينة نحو
الضعفاء، ما يتطلب منا فرض قيود على الأقويا، معطلاً في حضرة "مدرسة
شيكاغو" للاقتصاد أو مدرسة "سانت لويس" للطب النفسي. إذ تشدد
السلطة ببساطة على القياس والتصنيف والمقارنة ووضع القوي في مواجهة الضعيف من دون
إصدار أحكام، كاشفة للضعفاء مدى قوتهم المحتملة، ومؤكدة للأقوياء أنهم يربحون، على
الأقل في الوقت الراهن.
لقد برهنت توليفة من
"علم النفس الإيجابي" وتحليلات وسائل التواصل الاجتماعي؛ على أن الأمزجة
والإنفعالات الاجتماعية تنتقل عبر الشبكات، تمامًا كإكتشاف "كريستاكيس"
بالنسبة إلى السلوك الصحي. فعلى سبيل المثال، وجد الباحثون في "جامعة بيهانغ Beihang University"، بالصين، من خلال تحليل محتوى رسائل الوسائط الاجتماعية، إن
أمزجة بعينها مثل الغضب تميل إلى الإنتقال أسرع من غيرها عبر الشبكات. ويشتهر
الإطار السلبي للعقل، بما فيه الاكتئاب ذاته، بأنه مُعد اجتماعيًا.
إن عددًا قليلاً من
أدوات المرافبة الجديدة قد اخترع بهدف التلاعب بنا أو انتهاك خصوصيتنا لأغراض
سياسية، بل على العكس؛ كان اختراعها مدفوعًا بفطرة علمية نزيهة هي أن رخاء البشرية
سيتحسن إذا أمكن استيعاب طبيعة الرفاهية على نحو أفضل من خلال تعقبها باستمرار.
وحتى تضمن تلك
المنظومة التوليفية سهولة انتشار أفكارها وتمهيد الذهنية الجمعية لما تصدره من
مباديء؛ عليها القيام ببعض المهام.. يقول "ديفيز": "إن الممارسات
والأفكار التجارية لا تنتشر من تلقاء نفسها؛ حتى إن بدا أن لها منافع واضحة، بل
تحتاج إلى دفعةً ما. وقد يتطلب الأمر أحيانًا إزالة عراقيل سياسية وثقافية قبل
تبني تلك الممارسات والأفكار في مرحلة لاحقه..".
ومن أهم تلك المهام
والخطوات التنفيذية، آلية "المراقبة السيكولوجية".. ليصل الباحث
البريطاني إلى شرح تلك الآليات: يشتق مصطلح "بيانات data"
من الأصل اللاتيني، "datum"، وهو الذي يعني حرفيًا: "ما
يعطى". وهذه في الأغلب أكذوبة فاضحة. ذلك أن البيانات التي تُجمع من خلال
الدراسات المسحية والتجارب السيكولوجية نادرًا ما تُمنح عن طيب خاطر، بل تُنتزع
بقوة الخضوع للمراقبة بسبب تفاوت القوى، أو تعطى لقاء شيء آخر، كمقابل مادي أو
فرصة للفوز بلوح ذكي مجانًا. في أغلب الأحيان، تُجمع تلك البيانات بطريقة سرية،
كشأن المرايا أحادية الإتجاه التي تراقب من خلالها مجموعات الدراسة. في العلوم
الاجتماعية، كعلم الإناسة، تُعد الشروط التي تجمع البيانات وفقًا لها، (في تلك
الحالة، من خلال المشاركة والمراقبة المطولتين)، مسألة تفكير مستمر. لكن في العلوم
السلوكية، يُضمر المصطلح البريء، "data"،
عتادًا ضخمًا من القوة يمكن من خلاله دراسة ومراقبة وقياس وإقتفاء أثر الناس،
سواءً قبلوا أو لا.
من الواضح أن هذا
البُعد السياسي كان لايزال جليًا في عشرينيات القرن الماضي، حين كانت وكالة
"غيمس والتر طومبسون"، (الدعائية، التي لها الريادة في مجال تطوير فنون
الإعلان إلى علم مستقل؛ ومن أوائل الوكالات التي اعتمدت آلية استطلاع آراء
المستهلكين)، تتوسع خارج الحدود. مع أنه قد تراجع عن الأنظار في السنوات التالية،
حين صار السؤال عن آراء الناس أو إحساسهم أو نياتهم للتصويت أو طريقة تلقيهم بعض
العلامات التجارية، مسائل بسيطة. الوضع مشابه بالنسبة إلى السؤال عن
"السعادة"، فمؤسسة "غالوب" تستطلع آراء ألف شاب أميركي بشأن
إحساسهم بـ"السعادة" أو "الرفاهية" يوميًا، كما تتيح لهم تتبع
المزاج العام بإسهاب، يومًا تلو الآخر. ونحن على دراية كبيرة الآن بفكرة أن
المؤسسات النافذة لديها الرغبة في معرفة مشاعرنا وطريقة تفكيرنا، وأن هذه الرغبة
لم تُعد تبدو مسألة سياسية. على رغم ذلك لا يمكن إنكار أن هياكل السلطة التي تتيح
الحصول على البيانات السلوكية والسيكولوجية هي التي شكلت، وبقوة، الإمكانيات المضمرة
لتلك البيانات. إن الانفجار الذي تشهده حاليًا البيانات المتعلقة
بـ"السعادة" و"الرفاهية" ناجم بلا ريب عن تقانات وممارسات
المراقبة الحديثة. وهذه بدورها تستند إلى التباينات المسبقة في توزيع السلطة.
وهنا نجد أنه في
المقام الأول، هناك الصعود الأشهر للبيانات العملاقة Big Data.
مع رقمنة مختلف تعاملاتنا اليومية مع تجار التجزئة؛ ومقدمي الرعاية الصحية؛
والبيئة الحضرية؛ والحكومات وغيرها، تتيح تلك الجهات تسجيلات أرشيفية ضخمة؛ يمكن
تحصيلها باستخدام قوة تقنية كافية. تنظر الشركات إلى الكثير من تلك البيانات التي
تجمعها، والتي تعتقد أنها تسيطر على ثروات لا حصر لها بالنسبة إلى هؤلاء الذين
يرغبون في التكهن بالطريقة التي سيتصرف بها البشر في المستقبل، بوصفها ملكية
ثمينة، والعديد منها، مثل الـ (فيس بوك)، تميل إلى حجب تلك البيانات؛ وهكذا تتمكن
من تحليلها لمصلحتها، أو بيعها إلى شركات تعني بأبحاث السوق.
يعلق الخبير
الاقتصادي المصري، "مجدي عبدالهادي"، على تلك التوليفة الغرائبية التي
تستعين بها سياسات النيوليبرالية كمنظومة متكاملة تقيم بها أودها حاليًا، قائلاً:
"يحتاج استمرار التراكم الرأسمالي بأوسع معانيه لـ «عظمة» يغري بها الناس
لتقديم قواهم الإنتاجية من الوجهتين، وجهة «قوة عملهم» لتحقيقه ماديًا، ووجهة
«طلبهم الفعّال» لتصريفه تداوليًا؛ ومن ثم تجديده اجتماعيًا، أي قواهم الإنتاجية
كعاملين ومستهلكين في ذات الوقت".
متابعًا: "ذلك
التراكم الرأسمالي؛ في سعيه لتحقيق هذا، لا يكفيه الإكراه بالتجويع؛ إذ أن قدرة
النظام على الإنتاج وحاجته للتراكم المتزايد تجاوزت، مع تصاعد إنتاجية العمل
الاجتماعي، مستوى الكفاف البسيط منذ زمن بعيد، وهو ما فرض مستويات استهلاك أعلى من
ذلك الكفاف؛ فأصبح على النظام تطوير أشكال أرقى من الإغراء؛ فبدأ في تقديم صياغاته
للسعادة، وهكذا إنتقل المجتمع من التعامل مع «حاجات» الإنسان، إلى خلق «رغبات» له؛
فالحاجات منشأها طبيعي، فيما الرغبات اختراعات اجتماعية، حتى ولو كانت تحويلاً
مُطورًا أو مُشوّهًا، لا فارق، لغرائز وحاجات طبيعية".
ومن خلال هذه
الرغبات، أصبح بمقدور النظام إغراء الناس بتقديم المزيد من العمل، بل وإجبارهم
عليه مع تحوّل هذه الرغبات لمتطلبات شبه ضرورية، أي كفاف اجتماعي، فيسعون لمزيد من
الدخل، يقدمونه من الجهة الأخرى للتراكم في صورة طلب استهلاكي فعّال، معتقدين إنهم
بذلك يحققون سعادتهم.
وكما يرى
"عبدالهادي"؛ المشكلة هنا ذات وجهين :
أولهما: أن هذه
المطالب الجديدة تفرض ضغطًا جديدًا على الناس، وهو ما يمكن ملاحظته بيُسر بمقارنة
الأجيال الحالية بالأجيال السابقة، وتحديدًا في مجال الكماليات التي أصبحت ضرورات،
التي كما وفّرت منافعًا جديدة، فإنها خلقت ضغوطًا أكبر بكثير، خصوصًا مع كون
الآليات الطبيعية للنظام لا توفّر الإشباع، للجميع؛ بحكم آليات المنافسة، وقيود
النظام نفسه فيما يتعلق بتوزيع الدخل..
أما ثانيهما: فهو
الجانب الذاتي المتعلق بكون أغلب هذه المطالب الجديدة؛ مُختلق أو يمثل صياغات
مُعممة ومفروضة بقصف إعلامي وإعلاني كثيف، يخلق إغترابًا استهلاكيًا، موازيًا
للإغتراب الإنتاجي السابق، يسعى فيه الإنسان لإشباع رغبات مُنمطة، بفعل ذلك
التشويش الإعلامي/الاجتماعي على ذاتيته، رغبات لا تحقق سعادته الحقيقية وفقًا
لمطالبه الذاتية الخاصة جدًا، غير الخاضعة بالضرورة لصياغات النظام المفروضة بمنطق
"الإنتاج الكبير" التنميطي.
هذا بالإضافة إلى
أزمات الرأسمالية المزمنة، وحاجتها لتصريف فوائض الإنتاج وتوسيع الاستهلاكية،
ومشكلات الأطراف الأكثر عمقًا في هذا الصدد.
0 تعليقات