عز الدين
البغدادي
لو لم يحدث الانقلاب في 14
تموز عام 1958 لكان وضع العراق الآن مختلفا، ولكان أفضل بكثير مما عليه الآن، ولو
لم يحدث الانقلاب لكان العراق ملكية دستورية.
كثيرا ما نسمع هذا الكلام
ونحوه. لكن هذا الكلام باعتقادي غير صحيح، فرغم مرور أكثر من نصف قرن على ما حصل
ليس هناك في البلاد العربية ملكية دستورية واحدة يمكن أن نقول بأنه لولا ما حصل
لكان العراق مثل تلك الدولة، دول الخليج الأردن المغرب، كلها دول دكتاتورية
متخلفة، فضلا عن تبعيتها للأجنبي وضعف بنيتها بمقاييس الدول، وإن كان يوجد في
بعضها نمو لكن أيضا فيها هدر للأموال وفساد وتبعيّة.
كما إن من يطرح هذا الرأي
يغض النظر عن أخطاء كبيرة في ذلك العهد، فقد كان معدل عمر العراقي في ذلك الزمن
يقل بكثير عن اربعين سنة، وكانت هناك نسبة عالية جدا من الوفيات بين الأطفال، وكان
المستوى المعيشي في العراق منخفضا قياسا للبنان وسوريا حسب تقارير دولية، أما الأمية
فقد وصلت نسبتها إلى 80 % من السكان!
أما الإقطاع وجرائمه بحق
الفلاحين فحدث ولا حرج، حيث كان الإقطاع يمارس شتى أنواع الاهانة والإذلال
والاستغلال للفلاح دون أن يقع تحت أي حساب قانوني، لقد كان الإقطاع آفة دمرت
الفلاح العراقي وجعلته يعمل ويكدح ليكون ربح عمله في جيب الإقطاع الذي ينفقه في
ملاهي الميدان.
لم تكن هناك مصانع عدا معامل
الطابوق التي يملكها اليهود، وإنما يوجد حرفيون كالحدادين الذين يصنعون المناجل
والمساحي والسكاكين والمحاريث والفؤوس والنساجون الذين يستعملون النول اليدوي في
نسج البسط والعباءة والنجارون الذين يصنعون الأسرة الخشبية الصناديق والأبواب.
المواصلات بين مراكز المدن
والأرياف تتم بواسطة الحيوانات كالأبل والخيول والحمير، وتستعمل السيارات القديمة
والباصات ( دك النجف ) للنقل بين مراكز الأقضية والنواحي ومركز اللواء، لا يوجد
نقل عمومي سوى القطار الذي يربط مدينة الديوانية بالحلة وبغداد والسماوة والبصرة.
يطبق القانون المدني العراقي
رقم 40 لسنة 1951 في المدن، بينما يخضع أفراد العشائر الى قانون دعاوي العشائر
لسنة 1924الذي صاغ مبادئه الانجليز سنة 1918.
في الخمسينات زادت المشاكل
بشكل كبير، فكان إسقاط الجنسية عن عشرات الآلاف من المواطنين العراقيين اليهود، وإضافة
الى خطأ هذا التصرف إنسانيا ووطنيا وسياسيا فقد حدث فساد كبير في هذه القضية حيث
اتهم رئيس الوزراء حينها بقبض أموال من الوكالة اليهودية، كما أن نقل اليهود تم من
خلال شركة يملكها أحد الوزراء.
وكان هناك أيضا إسقاط
الجنسية عن عدد من الشيوعيين العراقيين. هذا فضلا عن سهولة طرد المعلمين او
الموظفين الذين لهم آراء سياسية مختلفة أو إطلاق النار على التظاهرات التي كان
معظمها طلابية. كما قتل عمال مضربون في مجزرة كاور باغي في كركوك وأيضا في البصرة.
أما سياسيا، فعندما قامت
حركة مايس 1941 استعان نوري وعبد الإله بالانكليز، وتم إعدام قادة التحرك، وهم
العقداء الأربعة وتمت اهاهنتهم قبل ذلك، وعلق العقيد الركن صلاح الدين الصباغ لعدة
أيام في وزارة الدفاع، وتم طرد عدد كبير من الضباط من الجيش.
ثم كانت نكسة فلسطين التي
حمل العهد الملكي جزءأ من المسؤولية على ما حصل فيها من إخفاق، وعندما كان الجيش
يحارب في فلسطين كان هناك بعض الأسر السياسية المتنفذة تبيع البنزين لإسرائيل.
وعندما حدثت الحرب العالمية
الثانية تبرع نوري السعيد بالدعوة لإعلان الحرب على ألمانيا رغم ان ميدان الحرب
كان في بولندا‼ وهو توجه سخيف كان يهدف الى استرضاء البريطانيين حتى دون ان تتضح نتائج
الحرب. ولم يكتف بذلك، بل فرض الإحكام العرفية وأعلن حالة الطوارئ..
كما أعطيت لبريطانيا
امتيازات غير مسبوقة في العراق في مجال النفط، كما حصر إنتاج النفط بها. هذا فضلا
عن المفاسد السياسية من التبعية المطلقة لبريطانيا كما هو معروف في معاهدة
بورتسموث او حلف بغداد.. كان البرلمان شكليا تماما، وكان معظم الأعضاء يفوزون
بالتزكية. لم يستطع البرلمان أن يحل أي وزارة، بينما نوري السعيد كان يحل البرلمان
متى شاء ، وكمثال على ذلك فقد حل البرلمان في سنة 1954 بعد يوم واحد فقط من
افتتاحه، والسبب هو فوز 11 نائباً فقط من المعارضة من مجموع 135 نائبا، وقد أعيدت الانتخابات
في 12 ايلول ففاز121 بالتزكية‼
كانت هناك عجائب في السياسة
الخارجية، مثلا ذهب ناجي الأصيل وزير الخارجية الى إيران للتفاوض بشأن الحدود وشط
العرب، ووقع اتفاقية العام 1937 وتساهلً في ذلك. وكان عبد الله بن سعيد وزير
خارجية نجد (السعودية) قد وقع اتفاقية الحدود مع العراق، ثم أصبح بعدها وبقرار من
نوري السعيد وزيرا لخارجية العراق وصار اسمه عبد الله الدملوجي، ومكلفا بملف
الحدود مع السعودية‼
كل هذا أدى الى تذمر واسع
جدا في الجيش، وبين عامة الشعب، لم يكن الأمر متعلقا بمصالح شخصية للضباط الأحرار
الذين قاموا بالثورة، بل ومنذ وقت مبكر حصل حراك في الجيش ، حين كان النقيب
المهندس رفعت الحاج سري، الذي أشترك في حرب فلسطين عام 1948 ، أول من بدأ خطواته
نحو تشكيل تنظيم سري داخل الجيش أثناء حرب فلسطين ، ففاتح زملاءه وهم في جبهة
الحرب ،على تنظيم عسكري سري يطيح بالنظام الذي خان قضية العرب الكبرى .
وتبلورت فكرة الثورة على
نظام الحكم العراقي إثر نجاح ثورة مصر عام 1952 وانتفاضة تشرين 1952 في العراق ،
وفي نهاية 1956 بعد العدوان الثلاثي دبّ النشاط مجدداً في التنظيم ، فإنضم اليه
عدد من قادة الوحدات والتشكيلات في الجيش ، منهم العميد الركن ناظم الطبقجلي
والعميد الركن عبد العزيز العقيلي والعقيد خليل سعيد والعقيد طاهر يحيى والعقيد
عبد الرحمن عارف . ومن القوة الجوية إنضم اليها المقدم الطيار عارف عبد الرزاق
والرائد الطيار حردان التكريتي ، وقام هذان الضابطان بتنظيم عدة خلايا في معسكر
الحبانية إنضم اليها النقيب محسن الرفيعي والرائد حسين خضر الدوري. وكانت هناك عدة
محاولات انقلابية بدءا من محاولة 1952 مرورا بمحاولة 1954 وانتهاء بانقلاب 1958
الذي أطاح بالحكم الملكي.
وهذا يكشف عن وجود حراك
شديد، ومخاض مستمر سبق الثورة. ولهذا فان نجاح الثورة كان سريعا جدا، حيث تمكنت
القوات الانقلابية من السيطرة في ساعات قليلة على بغداد حتى قبل ان تعلم العائلة
الحاكمة شيئا مما يحصل. كان الانقلاب متوقعا جدا، وكانت التوقعات في القصر الملكي
وفي الأردن وفي الجيش الا ان السلطة كانت منخورة ومتهالكة جدا، لذا كان سقوطها
سريعا. وهو ما يفسر أيضا عدم قيام بريطانيا بأي عمل لإنقاذ حلفائها.
مع ذلك وللإنصاف؛ فقد كان
العائلة الحاكمة في العراق نفسها بعيدة عن الفساد، ولكن هناك كراهية من الشعب
للملوك الثلاثة إلا عبد الإله ونوري السعيد وكثير من رجالات ذلك العهد كانوا
فاسدين أو ضعفاء لا يهتمون لمصالح الشعب أبدا. لم يكن هناك تذمر أو انزعاج من
الشعب العراقي تجاه الملك الشاب فيصل الثاني، إلا ان الوصي عبد الإله كان شخصية
مكروهة جدا مع رئيس الوزراء نوري السعيد الذي كانت شعبيته تضعف باستمرار.
ربما يبين لنا هذا كم هو
ساذج وبعيد عن الواقعية ذلك الفهم الذي يصور العهد الملكي كأنه كان نظاما مثاليا
في نزاهة رجالاته ووطنيتهم وكذلك في تطبيقهم للقوانين وإقامة العدل والمساواة!
من جهة أخرى لا يمكن ان نغض
النظر عما تحقق بعد 14 تموز من منجزات واقعية، وليست افتراضية كتلك التي يتحدث
عنها البعض في (خطط) مجلس الأعمار، بل حتى في العهد العار في كان وضع العراق جيدا
ومقبولا من حيث التنمية، ثم قفز بشكل كبير جدا في السبعينات حتى حلت الكارثة الكبرى
باستيلاء صدام على الحكم الذي دمر كل انجازات من سبقه.
تموزيات : مجزرة قصر الرحاب (3)
0 تعليقات