نصر القفاص
انحاز الشيخ "محمد
عبده" إلى منهج يقوم على "جرب وشاهد ولاحظ تكون عارفا" ورفض منهج
مقابل يقوم على "أقرأ فى الكتب وكرر ما يقوله الأساتذة تكون عالما" لذلك
عاش رافضا ومنددا بالتقليد والمقلدين.. فهو كان يؤمن بأن الإسلام أطلق سلطان العقل,
القادر على أن يمنح للإنسان استقلال الإرادة واستقلال الرأي والفكر..
وكان يرى أن القرآن يفرض على قارئه التفكير فى
معانيه, وليس مجرد ترديد ألفاظ بأصوات تدعى الخشوع!!
وتوقف بالشرح
والتفسير عند آية فى سورة "البقرة" تؤكد: "ومنهم أميون لا يعلمون
الكتاب إلا أمانى وإن هم إلا يظنون" وأوضح أن "أمانى" فى الآية
تعنى "القراءة" واعتبر أن هؤلاء حق فيهم قوله تعالى فى سورة "الجمعة":
"مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا, بئس مثل
القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدى القوم الظالمين".
منهج "محمد عبده"
كان – ومازال – هدفه تحرير الإسلام من قيود التقليد المتحجر, ذهابا إلى إصلاح يجعل
الدين مسايرا للحياة العصرية.. وكتب فى سيرته قائلا: "نشأت كما نشأ كل واحد
من الجمهور الأعظم من الطبقة الوسطى فى سكان مصر, ودخلت فيما فيه يدخلون.. ثم لم
ألبث بعد قطعة من الزمن أن سئمت الاستمرار على ما يألفون.. واندفعت إلى طلب شىء
مما لا يعرفون, فعثرت على ما لم يعثروا عليه.. فناديت بأحسن ما وجدت ودعوت إليه, وارتفع
صوتى بالدعوة إلى تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل
الخلاف على ينابيعه الأولى.. وعلى هذا وجدت أن الدين صديق للعلم وباعث على البحث
فى أسرار الكون.. وقد خالفت رأى فئتين يتركب منهما جسم الأمة.. وهما طلاب علوم
الدين ومن على شاكلتهم, وطلاب فنون العصر ومن ناحيتهم.. وكنت من دعاة أمر آخر, الناس
فى عمى عنه.. وهو الركن الذى تقوم عليه حياتهم الاجتماعية.. وما أصابهم من وهن
وضعف وذل, بسبب خلو مجتمعهم منه..وهذا الأمر هو التمييز بين ما للحكومة من حق
الطاعة على الشعب.. وما للشعب من حق العدالة على الحكومة.. فكنت فيمن دعا الأمة
المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها".
التجديد إذن عند
الإمام "محمد عبده" قام على ثلاثة أهداف تضم الإصلاح الديني, والإصلاح
للغة, والإصلاح السياسي.. وركز فى مسألة الإصلاح الديني على انقسام النخبة المثقفة
بين المحافظين الجامدين الغارقين فى التقليد والخرافات.. وبين المتفرنجين الذين
يعطون ظهورهم للتراث بالاتجاه للغرب فى كل شىء.. وكان رأيه أن هذا الصراع والدوران
داخل دائرته لا يصنع تجديدا, فاختار "الطريق الثالث" شارحا تفاصيله
وجذوره ورؤيته لنتائجه..
وانتهى إلى ضرورة
احترام علوم العصر وفنونه وصناعاته.. ومن هنا سنجده يؤمن أن أي حضارة لا تقوم دون
علم وتفاعل حضاري.. اطلبوا العلم ولو فى الصين..
وشرح أن العرب تعلموا
من اليونانيين حتى أصبحت لهم قاعدة علمية قامت على التجربة والمشاهدة.. فكانت
مدرسة الطب فى القاهرة قدوة للعالم الإسلامي, وذهبوا إلى تأسيس أول مدرسة للطب فى
أوروبا بمدينة "ساليرن" بإيطاليا..
وأقاموا أول مرصد فلكى
فى أوروبا بمدينة "أشبيلية" بأسبانيا, وترجموا الكتب التى قامت عليها
مدارسهم واستعانوا فى ذلك بالبارعين والموهوبين بغض النظر عن دينهم.. وكان يرى أن
سماحة الإسلام أباحت وحرضت على طلب العلم من غير المسلمين.. وبذلك أصبح "العرب
هم أول من علموا العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين" ليؤكد فى
أفكاره على أن: "الدين صديق للعلم ويحث على البحث فى أسرار الكون, وذلك يفرض
ضرورة تعلم لغات العالم وإتقانها باعتبار أن هذا يخدم الإسلام وأهله".
هجرنا فكر واجتهاد "محمد
عبده" فكان تراجعنا وتدهور أحوالنا, لصالح الذين يتاجرون بالدين ويستثمرونه
لمصالح مادية ضيقة.. فهؤلاء الذين يقدمون أنفسهم على أنهم "الدعاة الجدد"
ليسوا أكثر من موجة ضمن موجات التقليد وتكرار الكلام دون فهمه.. المهم عندهم
مخاطبة العواطف وانتزاع الآهات والتباكى لتمثيل الخشوع والإيمان!!
ولعل "محمد عبده"
قد حذر منهم ومن خطورتهم بتركيزه على قيمة العقل والعلم.. لأنه كان يرى أن العقل
البشرى هو الطريق الصحيح إلى الاعتقاد فى الله.. فالإيمان بالله يلزم الباحث عنه
بأن يفكر ويتدبر ويتعلم.. وذهب إلى القول: "إذا تعارض العقل والنقل, فعلينا
أن نأخذ بما يرشدنا ويدلنا عليه العقل" وكان يرى أن: "العقلاء هم
الجديرون والقادرون على وضع قواعد العدل" وهذا يعنى أن العلم واجب على كل
مسلم.. وبما أن العلم لا يعرف تعصبا فهو يفرض التسامح, وهذا هو أساس الدين
الإسلامى.. ذلك وحده كفيل بتأكيد عمق العلاقة بين الدين والعلم.. فقد كانت الأمم
تطلب عقلا فى دين فوافاها الإسلام.. وتتطلع إلى عدل فآتاها الإسلام.. أى أن
الإسلام يبلغ قوته بالعقل والعدل, وكليهما سبيله العلم.. وبما أن العلم وظيفته حل
مشكلات المجتمع وإسعاده.. فالدين هو غايته وهدفه.. والأزمة أن المشتغلين بعلوم
الدين تنقصهم المعرفة العلمية, لذلك سنراهم يفسدون بأكثر مما يصلحون"!!
كان "محمد عبده"
يقول عن علماء الدين والفقهاء, أنهم لو خبروا الزمان وأهله لأمكنهم حماية الشرع.. فالعالم
لا يكون عالما دون معرفة.. والعارف وحده هو القادر على التوفيق بين الشرع وما ينفع
الناس فى كل زمان.. ويمكننا أن نحدد موطن الأزمة فى أن علماء الدين الذين لا
يعرفون حال العصر وأحكام الزمان, لا يجوز أن نصفهم بأنهم علماء.. بل هم متفننون.. أى
مقلدون يحفظون الكلام والسير والحكايات ويرددونها..
ولعلى هنا أخرج بفهمى
لمعنى كلام "محمد عبده" لأشير إلى أنه كان يسخر من هؤلاء "الحكواتية"
ويسمون أنفسهم دعاة.. وأعود إلى الإمام الذى يؤكد على أن الإسلام كشف عن العقل غمة
الوهم, فعلم الناس أن الفقر مرتبط بالإسراف.. والذل قرين الجبن.. وضياع السلطان
سببه الظلم.. وأن المكانة عند الناس يستحقها من يحرص على مصالحهم.. وكلها تبدو
كمعادلات رياضية واضحة!! ويتأكد ذلك بربط الأسباب بالمسببات حيث لا تكليف فى
الإسلام إلا باستطاعة – أى بتيسير الأسباب – وهنا دخل فى جدل مع علماء الكلام
ليؤكد لهم أن العقل البشرى هو القادر على تحقيق المعجزات, وذلك حدث ويحدث حولنا.. ويؤكد
أن الإسلام الذى خاطب هذا العقل احترمه وقدره وبدأ بدعوة الرسول صلى الله عليه
وسلم إلى أن "أقرأ".
ناقش الشيخ "محمد
عبده" من أكثر من قرن من الزمان قضايا وأمورا عدنا إليها لنختلف حولها, على
أرضية من الجهل ورفض العلم والعقل.. فكتب بوضوح أن الرسل حملوا رسائل روحية, وكل
ما يمس شئون الدنيا تركوه للعقل الإنساني.. لذلك قال الرسول: "أنتم أعلم
بشئون دنياكم" لأن الرسل ليسوا مدرسين يعلمون الناس التاريخ وطبيعة الكواكب
وطبقات الأرض وعلوم الجغرافيا والنبات والحيوان.. فهذه كلها أمور تركها الخالق
للبشر بما لديهم من فهم وإدراك وعلم.. فالأنبياء إذا أشاروا إلى أحوال الفلك وهيئة
الأرض, فهم يقصدون بيان الدلالة على حكمة الله وإبداعه مع توجيه الفكر لتعمق وبحث
من أجل فهم أسرار خافية..
وأوضح أن الدين لا يكون حاجزا بين الأرواح
والاستعداد للعلم بحقائق الدنيا والكائنات.. فكل ما يتعلق بشئون الدنيا المتغيرة
أوكلها الدين إلى عقول البشر يتصرفون فيها حسب ظروف الزمان والمكان.. وهذا يعنى
ويؤكد إطلاق حرية العقل للتفكير والعمل للمصلحة العامة.. كل هذا يؤكد تغليب العقل
على النقل.. لذلك أكد على أن: "الجمود يدفع العوام والحكام إلى ترك الأحكام
الشرعية واللجوء إلى غيرها"!!
إجتهاد الشيخ "محمد
عبده" قام على علم وفهم وتفكير, لرفضه مجرد "الحفظ والتلقين" وكان
ذلك سبب صدامه مع كثيرين من رجال الأزهر الذين اكتفوا بنقل ما حفظوه للناس, وفوق
ذلك حرموا عليهم التفكير والعلم.. وأدى ذلك إلى تكريس عادات وسلوكيات كان يرفضها, منها
زيارة الأضرحة وإقامة الموالد.. فإذا كان الله سبحانه وتعالى قال: "إياك نعبد
وإياك نستعين" فكيف يستقيم ذلك مع محاولة الاستعانة بأولياء الله الصالحين.. وإذا
كان الله سبحانه وتعالى قال: "إذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداعى
إذا دعان" فهذا ينفى التوسل إلى الله عبر غيره.. ثم يؤكد أن أفضل تعظيم
للأنبياء هو الوقوف عند ما جاءوا به وفعلوه وتجنب الزيادة عليه.. فالذى يحتاج إلى
الله يقدر أن يصل إليه بعبادته وتطبيق تعاليمه بعد تدبر معانيها.. ويستطيع أن يدعو
الله, وسيجده أقرب إليه من أولياء الله وأولئك الذين ينصبون أنفسهم وسطاء!!
لن تجد أحدا من أولئك
"الحكواتية" الذين يسمون أنفسهم "الدعاة الجدد" من يقدر على
ذكر اسم الشيخ "محمد عبده" أو يحاول مناقشة آرائه وأفكاره وكتبه
ومقالاته.. لأن علمه واجتهاده ينسف وظيفتهم ودورهم الذى يتكسبون منه, ويحققون به
شهرتهم وثرواتهم.. لن تجد هؤلاء "الحكواتية" يشيرون إلى علم وكتب وأفكار
ودور "رفاعة الطهطاوى" لأن حضوره يحولهم إلى "مسخ"!!
وهذا وحده يشير إلى خطأ الطريق الذى نبحث عنه
لتجديد الخطاب الدينى أو تطوير الخطاب الدينى – سمه ما شئت – فالطريق ليس عبر "الأزهر"
وحده.. بل يبدأ من التعليم – تربية وتعليم عالى – وعبر "الثقافة", وعبر "الإعلام"
الذى يملك القدرة على إعادة الاعتبار للعلماء والمجتهدين بتقديم ومناقشة أفكارهم..
وبما أن القائمين على
التربية والتعليم يتجنبون مسائل وعلوم الدين ويهمشونها, خوفا ورعبا من "الأزهر"..
كما أن القائمين على "الثقافة" و"الإعلام" ستجدهم فى حالة ذعر
من "الأزهر" و"السلطة" وذلك وحده كفيل بأن يبقى "الخطاب
الدينى" عبارة عن "لوغاريتمات" يصعب حلها..
وتحرير العقل هو
السبيل إلى تطوير لغة الخطاب الدينى, ولن يقدر على ذلك مسئولين لا يعرفون عن "رفاعة
الطهطاوى" و"محمد عبده" غير أسمائهم!!
ويدهشك أن الذين
يتحدثون عن الديمقراطية ويمارسونها عبر أحزاب ونقابات وما يسمى منظمات المجتمع
المدنى.. كلهم يرفضون العلم والمعرفة ويتعاملون معهما كما لو كانا رجس من عمل
الشيطان!!
0 تعليقات