آخر الأخبار

الأزهر.. أصل الحكاية!! (19)






 

نصر القفاص

 

فى أفكار الشيخ "محمد عبده" سحر.. فهو يكتب بصوت عال.. تسمعه بعد أكثر من مائة عام على رحيله.. قدم علمه بنعومة ورفق شديدين.. السر أنه يتعامل مع عقلك, ويذكرك دائما بأن الدين هو غذاء روحك.. ستجده يأخذك إلى حيث يجب أن تفهم.. لا إلى حيث يريد هو, وهنا يكمن الفارق الرهيب بينه وبين غيره من "شيوخ الأزهر" ربما لأنه أدرك أن الإسلام طاقة نور, وليس واجب عليك أن تنجزه لتفوز بالجنة أو تبتعد عن النار!!

 

الإيمان عند "محمد عبده" يقوم على العقل مع ضرورة وجود العاطفة.. هو كان يرى أن الأخلاق يحققها الدين ومصدرها عاطفى.. فانحياز الإنسان للحلال, ورفضه للحرام هو شىء فطرى.. والإسلام يؤكد ذلك.. هنا الكلمة للعقل وليست للسان.. الحقيقة إذن فعل وليست كلام!! لذلك حذر من خلط الدين بالخرافة أو العادات والتقاليد, وعندما يحدث ذلك يتجسد التخلف.. سنرى مسلمين بلا إسلام, بينما الغرب الذى حقق ذلك أصبح لديه إسلام بلا مسلمين.

إنتهى الشيخ "محمد عبده" إلى أن نهضة أوروبا تحققت بالعلم, وتحرير الفكر من النقل والتقليد.. وتلك جعلتهم يصلون إلى معنى التسامح.. أى أن العقل جعلهم يطبقون ما يهدف إليه الدين, وتحديدا الدين الإسلامى.. فهم يعتبرون "التكفير" جريمة ما بعدها جريمة, لأن الخالق الذى بعث بالرسل لا يجوز الاجتراء عليه بتصنيف هذا على أنه مؤمن أو ذاك بأنه غير مؤمن.. فالذى يملك ذلك هو الله وحده, والعقل يفرض عليك قبول هذه الحقيقة إذا كنت مؤمنا بالله.. وهنا لابد أن نعرف أنه لا سلطة لرجل دين مهما علا شأنه, وذلك وحده هو مفتاح الاجتهاد.. والاجتهاد حق لكل من يحاول أن يعلم ويتعلم.. وهنا ستجدنا مضطرون للعودة إلى إيمان "الشيخ" بأن "حرية الرأى" لا يمسها غير "المطهرون" وهو فسر المعنى بأنه يقصد بالمطهرون أصحاب المعرفة والباحثين عن العلم, وكل من ينفق وقتا أطول فى القراءة بحثا عن حقيقة.. وأكد على أن حوار العلماء والمجتهدين يحتاج إلى سعة صدر, إن كنا مسلمين حتى نتجنب الفتنة.. فالإسلام لا يأخذ مخالفيه بالشدة, بل يفرض "المودة مع المخالفين فى العقيدة" ويدعونا إلى الانفتاح على كافة الأديان السماوية.. وهذه مبادىء أكد أنها كانت أسس ازدهار الإسلام وقوته.. وغير ذلك هو ممارسة للسياسة.. لأن الدين الإسلامي قدم صحة الأبدان على صحة الأديان, على قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" ولو حدث اجتهاد متطرف يجب أن يقابله اجتهاد متسامح حتى تترسخ الثقافة والفكر الإيجابى – لاحظ أنه لم يقل الفكر الصحيح – فى المجتمع.. لأن الإسلام شوهت عقيدته الصافية عناصر خارجية لها علاقة بالعرق والثقافة, ولما حدث ذلك انقلب الدين فى عقول المسلمين, فتحولوا من قوة وفخار إلى ضعف وعار!! والسبب ما دخل على العقيدة من بدع وأكاذيب وتفسيرات ينقصها العلم والمعرفة, وكل ذلك أدى إلى جمود المسلمين لأنهم لم يميزوا بين القدسي والاجتماعي.

 

حتى لا نبتعد كثيرا فى مسائل فلسفية.. نتوقف عند رؤية "محمد عبده" وتفسير لمعنى: "وما أصابك من حسنة فمن الله, وما أصابك من سيئة فمن نفسك" فذهب إلى التأكيد على المعنى فى "العقل" فهذا العقل الذى يأخذك إلى طريق الله يمنحك الحسنة.. وإذا أخذك إلى السيئة, فأنت الذى وصل إليها.. أى أن الله أعطاك العقل الذى يجعلك تفوز بالحسنة, وتخسر السيئة.. وذهب إلى أبعد من ذلك بتفسير الفارق بين التوكل على الله حين تعمل, والتواكل إذا اخترت الكسل انتظارا لما يأتيك من الغيب.. وهذا يجعلنا نعتبر الكسل أكبر أعداء الإنسان, ولا يمكن تبريره بأنه إيمان بالقضاء والقدر.. ويوضح بأن عقيدة "القضاء والقدر" عقيدة صالحة, انقلبت فى نفس بعض المعتقدين إلى فساد.. وهنا ستجد أن العيب ليس فى العقيدة, لكنه فى ذهن من يتلقاها ويفسرها.

 

عبقرية الشيخ "محمد عبده" كانت فى غزارة علمه, لذلك قدمه ببساطة وأبدع فى تجديد احترامه وتقديره لعقل من يسمعه.. فالدين عنده حالة احترام وحب وتقدير, وليس تخويفا وإرهابا ولا منهج استثمار!! وذلك جعل المسافة بينه وبين أقرانه من "شيوخ الأزهر" تزداد بعدا واتساعا.. ستجد أن الأمر ذاته حدث بين "عمر مكرم" وبين "شيوخ الأزهر" وتكرر فى حالة الشيخ "حسن العطار" عندما أصبح شيخا للأزهر باعتباره كان مستنيرا وصادقا.. لذلك قدم "رفاعة الطهطاوى" وانحاز لاجتهاده وتفوقه وإبداعه.. كما كانت المسافة بعيدة بين "الطهطاوى" وبين "شيوخ الأزهر" حتى رحنا ندور داخل الدائرة ذاتها عندما ظهر "محمد عبده" والمؤسف أنه بعد سنوات.. عادت المسألة تفرض نفسها حين قاوم "شيوخ الأزهر" اجتهاد الشيخ "على عبد الرازق" و"طه حسين" ثم "خالد محمد خالد" وصولا إلى "فرج فودة" وآخرين.. لكن الخطير فى الأمر كان ظهور "جماعة الإخوان" لتفتح جبهة أخرى يتم القتال عليها بالسلاح.. حتى اتسع الخرق على الراتق بظهور "الجماعات المفقوسة عن الإخوان" لنصل إلى الجهاد والقاعدة وداعش وما بينهما وبعدهما.. وكان الأخطر أن "الأزهر" اختار موقف المراقب الذى يتابع الأحداث ويعلق عليها رفضا أو قبولا!!

 

تلك الرؤية يفسرها ويؤكدها الشيخ "محمد عبده" حين ذكر أن "عمر بن الخطاب" قرر الرجوع عن زيارة الشام بعد علمه بانتشار الطاعون.. فقيل له: أتفر من قدر الله.. فأجاب: نعم أفر من قدرالله بالذهاب, إلى قدر الله بعدم الذهاب!! فهو لو اتختار الذهاب لألقى بنفسه فى التهلكة.. وهنا تبرز أهمية وقيمة العقل الذى يحترمه الإسلام.. ويرى "الشيخ" أن "استعجام" الإسلام أدخل عليه الشقاق والنفاق.. وتفسيره لذلك أن بعضا من هؤلاء حاولوا خلق خصومة بين العلم والدين, لنصل إلى حالة مزرية.. فهو يؤكد أن ضعف العقل وقلة العلم حالة صنعها وسطاء فأبعدوا المسلمين عن صحيح الدين.. فالإسلام وصل بين العبد وربه, وحظر على الناس تنصيب بعضهم فى مراتب النبوة.. فعندما يرتقى العقل بالعلم تجد نفسك واقفا على أرض الإسلام المزدهرة والقوية.. فلا تقديس للعلماء.. لكن احترام وتقدير وسعى للإضافة إلى ما أنجزه.. ويبرهن على ذلك بما وصل إليه المسلمين الأوائل من قوة, لإيمانهم بقيمة العقل وأهمية العلم.

 

رغم أن بداية الشيخ "محمد عبده" فى رحاب المسجد "الأحمدى" فى "طنطا" إلا أنه حارب البدع والخرافات وحمل كثيرا على سلوك بعض المتصوفة الذين باعدوا بين الإنسان والعلم وحببوا الناس فى التواكل والكسل, بما أدى إلى رهنهم لعقولهم لدى نفر من الشيوخ!! وأصل المسألة فى قيمة الحرية أنها تأخذ الإنسان إلى التفكير, وذلك لا يتحقق دون سعى للعلم, والعلم لا يقدر عليه غير من يجهدون عقولهم.. وتلك المعادلة البسيطة هى أساس تصحيح الفكر, وهى التى تأخذنا إلى العمل وتجويده وتدفع بالموهوب إلى الواجهة والصدارة.. وذلك فى حد ذاته يفسر: "لا يستوى الذين يعملون مع الذين لا يعملون" وبما أن العمل لا يبدأ فى فراغ لينتهى إلى فراغ.. فالعمل يتطلب علم ومعرفة وجهد.

 

 

حين تقرأ للإمام الشيخ "محمد عبده" ستشعر أنه يحدثك.. يحرضك على التفكير.. فهو لم ينفق عمره ووقته فى الحكى واستدعاء سيرة من عاشوا زمنا مختلفا, ليسلب عقلك.. بل يدفعك إلى أن تحيا زمنك, وتسعى إلى المشاركة فى بناء مستقبل.. ولأن هذا المنهج تم تغييبه مع سبق "الإصرار والترصد" وافق "شيوخ الأزهر" على أن يتركوا لجماعة "الإخوان" والجماعات المفقوسة عنها الساحة ليعيثوا فى الأرض فسادا.. ثم وافق "شيوخ الأزهر" على إفساح المجال "للحكواتية" من الذين يسمون أنفسهم بالدعاة الجدد لكى يتكاثروا ويستثمروا الدين بصناعة ثروات وترويج آداء تمثيلى يجعلك تعتقد أنهم دارسوه فى معهد ما أو أجادوه فى جهة ما!! فكلهم يتنافسون على تلوين الصوت ومحاولة انتزاع الآهات ولا مانع من البكاء!! وكلهم يستندون على رجل أعمال أو عدة رجال أعمال أو هيئات ومؤسسات استثمارية.. وكلهم يتنافسون فى تقديم عروض أزياء لملابس غريبة يتم تسويقها وترويجها!! وهذا حدث تحت سمع وبصر الأزهر.. وحدث حينما تم استهداف ثقافة المجتمع.. وحدث بضرب الإعلام فى أساسه وتحويله إلى منصات إعلام رديئة.. وحدث بجعل التعليم مجرد شهادة بلا قيمة أو فائدة لصاحبها أو للمجتمع.. فكان طبيعيا أن يتم التعتيم على رواد التنوير, خاصة إذا علمنا أن الشيخ "محمد عبده" تناول تفصيلا إصلاح التعليم.. وتناول إصلاح القضاء.. وتناول تفصيلا إصلاح الأزهر.. وتناول إصلاح الأوقاف.. وقدم تفسيرا للقرآن الكريم.. وكل هذا ستجده مسجونا بإرادة فاعل.. أو قل فاعلين يعرفون أن جريمتهم يصعب كشفها, لغياب العقل والعلم والحرية..

 


الأزهر.. أصل الحكاية!! (18)


يتبع

 


إرسال تعليق

0 تعليقات