نصر القفاص
كانت معركة "شيوخ
الأزهر" ضد الشيخ "على عبد الرازق" تجسيدا شديد الوضوح لأزمة
الأزهر, وبقيت صفحاتها وتفاصيلها مصدر خجل لكل من ينتسبون للأزهر..
فهذه معركة كانت
تعريف لمعنى "محاكم التفتيش" فى العقل والفكر والضمير, وهذا ليس إدانة
بقدر ما هو توصيف للحالة.. لكى نفهم الموضوع نبدأ بشرح مبسط لأسباب المعركة
وتفاصيلها ونتائجها, خاصة وأنها شغلت مصر من رأس الحكم فيها وكان الملك "أحمد
فؤاد".. وشغلت الشعب كله بمثقفيه والعامة..
كما أدت إلى أزمة
سياسية عاصفة, هزت الحكومة وتسببت فى هدم أركان ائتلاف حزبى كان يحكم.. وكانت
الموضوع الرئيسي لصحف هذا الزمان.. وانتهت إلى اغتيال معنوى للشيخ "على عبد
الرازق" وكذلك اغتيال مادى بحرمانه من وظيفته ومرتبه.. لكنها فى الوقت نفسه
نسفت محاولة إحياء ما يسمى بالخلافة الإسلامية, وتفجير حلم الملك "فؤاد"
بأن يكون "خليفة المسلمين" بعد انهيار الدولة العثمانية.
تفجرت المعركة بمجرد
طبع وتوزيع كتاب "الإسلام وأصول الحكم" عام 1925, والذى انتهى الشيخ "على
عبد الرازق" من تأليفه فى إبريل من العام نفسه.. والكتاب هو دراسة أنفق مؤلفه
عشر سنوات من عمره فى البحث والدراسة, وصفها بكل تواضع فى المقدمة بأنها: "تلك
الورقات هى ثمرة عمل, بذلت له أقصى ما أملك من جهد.. وأنفقت فيه سنين كثيرة العدد"..
والمؤلف هو واحد من رجال الأزهر, وعلم من أعلامه وعلمائه وكان يعمل لسنوات قاضيا
شرعيا لمحكمة المنصورة.. ولك أن تعرف عن الرجل أنه كان صاحب مكانة رفيعة فى
المجتمع المصرى كمفكر ومثقف.. فضلا عن مكانته الاجتماعية لانتسابه لأسرة عريقة فى
محافظة المنيا.
الكتاب – الإسلام
وأصول الحكم – الذى فجر مأساة قبل أن تكون عاصفة, يستحق أن نمر عليه ونقلب صفحاته..
فهو دراسة علمية رصينة مكتملة الأركان, استندت إلى القرآن والسنة وفهم عميق للفقه
والسيرة.. كما اعتمدت على علم الاجتماع وعلم السياسة وفق منهج دقيق.. لذلك لم يقو "شيوخ
الأزهر" على مناقشة الكتاب وصاحبه, وذهبوا بقيادة "شيخ الأزهر" إلى
إصدار حكمهم بحالة عصبية تكشفها تفاصيل الأحداث.. وكان غريبا ومريبا ومذهلا, أن
الحكم ذهب إلى إعلان سحب شهادة العالمية التى يحملها المؤلف من الأزهر.. كما ذهب
حكم "شيوخ الأزهر" إلى التوصية بضرورة فصله من وظيفته.. ولأننا كنا فى
القرن العشرين, لم يحكم "شيوخ الأزهر" على المؤلف بالإعدام شنقا أو حرقا!!
حدث ذلك قبل ما يقرب
من قرن من الزمان.. ولأن الكتاب تم التعتيم عليه, وحكايته تم طمسها.. ويجوز القول
تم مسحها من ذاكرة الأمة.. فقد عاد المستفيدون من "مرض الأزهر العضال" إلى
طرح "مسألة الخلافة" وشرعوا فى إعادة إحيائها عبر "جماعة الإخوان"
التى أسستها سلطة الاحتلال الانجليزي, فى أعقاب أزمة الكتاب لتكون ذراع الاستعمار
الطولى لهدم المجتمع المصرى وتقسيم وتفتيت العالم الإسلامي.. صحيح أن الاستعمار
ترك بلادنا.. وصحيح أن "شيوخ الأزهر" الذين تصدوا للشيخ "على عبد
الرازق" وكتابه قد رحلوا.. وصحيح – أيضا – أن الملك "فؤاد" ورجال
السياسة الذين خاضوا المعركة ضد الكتاب, قد أصبحوا فى ذمة الله والتاريخ.. لكن
الكتاب بقى يشكو لأجيال متعاقبة, أن الأمة التى لا تتعلم من ماضيها.. تستحق أن
تعيش حاضرا بائسا, ولا تستحق أن يكون لها مستقبل.
لأن الكتاب نسف – علميا
وفقهيا – فكرة "الخلافة الإسلامية" استحق أن يحاربه تجار الدين
ومستثمريه.. فهو يبدأ بالتأكيد على لسان "أبو بكر" أول الخلفاء الراشدين
أنه خليفة رسول الله وليس خليفة الله.. وقدم شرحا لهذا المعنى من زوايا متعددة.. وتوقف
عند ما يطرحه القائلون بحتمية وجود خليفة للمسلمين.. فأوضح أن هناك مذهبين.. أولهما
يقوم على أن الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله سبحانه وتعالى وقوته من قوته.. أى
أن أصحاب هذا المذهب يرون أن الخليفة هو ظل الله على الأرض, ورد على أصحاب هذا
الاتجاه بالحجة والبرهان.. ثم فند ما يذهب إليه أصحاب المذهب الثانى, وهؤلاء يرون
أن الخليفة يستمد سلطانه من الأمة باعتبارها مصدر قوته.. وهى التى تختاره لهذا
المقام.. ويلتف أولئك على المعانى حين يقولون عن الخلافة أنها: "رئاسة عامة
فى الدين والدنيا وخلافة عن النبى صلى الله عليه وسلم"!!
وشرح المؤلف فى كتابه
ما يعتقده الذين يرون بنظام الخلافة فى الحكم.. فأكد على أن أولئك لا يملكون أى
دليل فى كتاب الله على صحة كلامهم, ولو أنهم امتلكوا حتى ما يمكن اعتباره إشارة
لما ترددوا فى تقديمه.. لذلك سنجدهم عاجزين عن تقديم أى دليل من القرآن على مسألة
الخلافة.. وهذا يجعلهم يهربون إلى ما يرونه إجماع أو اجتهاد السلف الصالح.. وقطع
المؤلف فى كتابه – دراسته – الطريق على المتاجرين بما يسمونه "الخلافة" ليؤكد
على أنه ليس القرآن وحده الذى لم يذكرها أو يشر إليها, بل أنه لا يوجد حديث واحد
يشير إلى مسألة الخلافة.. ونسف المؤلف – علميا وفقهيا – مسألة إجماع الفقهاء
والأمة مؤكدا: "من ادعى الإجماع فهو كاذب"!!
وأوضح أن تاريخ
الحركة العلمية عن المسلمين, يؤكد على أن حظ علوم السياسة كان ضعيفا.. فلا يوجد
مؤلف لهم فى السياسة, وليس لديهم بحث فى أنظمة الحكم.. وكان واضحا حين ذكر: "لا
يذكر التاريخ لنا خليفة.. إلا اقترن فى أذهاننا بتلك الرهبة المسلحة التى تحوطه"!!
وأسهب فى الشرح وتقديم الأمثلة التى تؤكد ذلك.. وضمن
أمثلته قال: "أفهل غير حب الخلافة والغيرة عليها, ووفرة القوة دفعت يزيد بن
معاوية إلى استباحة ذلك الدم الزكى الشريف.. دم الحسين ابن فاطمة بنت رسول الله.. وسلطت
الخلافة يزيد بن معاوية على عاصمة الخلافة الأولى, فراح ينتهك حرمتها وهى مدينة
رسول الله..
وهل استحل عبد الملك
بن مروان بيت الله الحرام, إلا حبا فى الخلافة وغيرة عليها مع توافر القوة لها"!!
وقدم نماذج عديدة تؤكد المعنى ذاته بما فيها الحرب بين الأخ وأخيه بسبب الخلافة.. ووضح
ذلك فى: "حارب الصالح نجم الدين الأيوبي أخاه العادل أبا بكر بن الكامل فخلعه
وسجنه" وتكرر الأمر فى دولة المماليك ودولة بنى عثمان – العثمانية – وكتب
بوضوح قائلا: "الغيرة على الملك تحمل الملك على أن يصون عرشه من كل شىء يزلزل
أركانه أو ينقص من حرمته أو يقلل من قدسيته.. لذلك كان طبيعيا أن يتحول الملك إلى
وحش سفاح, وشيطان مارد إذا ظفرت يداه بمن يحاول الخروج عن طاعته وتقويض كرسيه"!!
كتاب "الإسلام
وأصول الحكم" كان عملا علميا جادا لنفى علاقة الدين بالسياسة.. لذلك قال
مؤلفه: "إن علم السياسة هو من أخطر العلوم على الملك, بما يكشف من أنواع
الحكم وخصائصه وأنظمته.. لذلك كان حتما على الملوك أن يعادوه وأن يسدوا سبيله على
الناس"!! وقدم نماذج من مراحل مختلفة تؤكد هذه الحقيقة.. بداية من قصة فرض "يزيد
بن معاوية" وانتزاع البيعة له بحد السيف.. وصولا إلى حكاية "فيصل بن
حسين بن على" وكان أبوه "حسين بن على" أميرا عربيا انحاز فى الحرب
العالمية الأولى – العظمى – إلى جانب الحلفاء خروجا على الأتراك وعلى سلطانهم – خليفة
المسلمين – فقام أولاده مناصرين جيوش الحلفاء.. وتميز "فيصل" بالزلفى – النفاق
– للانجليز وإخلاصه فى خدمتهم, فعينوه ملكا على الشام.. ولما هاجمت جيوش فرنسا
مملكته, هرب تاركا عرشه الي انجلترا.. ومن هناك حمله الانجليز إلى بلاد العراق
ونصبوه ملكا عليهم, وزعموا أن أهل الحل والعقد من أمة العراق انتخبوه ملكا
بالإجماع"!!
انتهى الشيخ "على
عبد الرازق" إلى أنه: "قد تختلف أشكال الحكومة وأوصافها بين دستورية
واستبدادية.. وبين جمهورية وبلشفية.. قد يتنازع علماء السياسة فى تفضيل نوع من
الحكومة على نوع آخر.. لكننا لا نعرف لأحد منهم نزاعا فى أن كل أمة لابد ولها نوع
من أنواع الحكم" وحسم القضية حين ذهب إلى نتيجة تقول: "ليس بنا حاجة إلى
تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا.. ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك.. فإنما
كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام والمسلمين, وينبوع شر وفساد"!!
يستحق الكتاب ومؤلفه
أن نتوقف أمامهما ومعهما, لأن ذلك سيكشف سر الزلزال الذى ترتب عليه والمعارك التى
اندلعت بسببه.. كما أن الكتاب ورصانة المؤلف فى دراسته الجامعة والمانعة, جعلت "شيوخ
الأزهر" يحاربونهما على مدى أكثر من قرن.. فالحرب على الكتاب بالتعتيم عليه
مازالت مستمرة.. والمؤسف أن ذلك يخدم الاستعمار وأذرعه من جماعات ودول!!
وما يثير الحزن
والأسى أننا بحاجة إلى علم الرجل الذى رحل عن دنيانا, وبقى علمه ودراسته سلاحا.. لكنه
سلاح لا يقوى على إشهاره غير المثقفين والذين يجيدون القراءة, أما أولئك الذين
يتصدرون واجهة المجتمع من السفهاء والجهلة فهم لا يملكون غير "الثرثرة" و"النفاق
الرخيص" ولو أنهم أرادوا أن يكونوا "منافقين محترمين" لذهبوا
للقراءة والعرض!!
لكن قدرنا أن الذين
يواجهون أعداء مصر – سياسيا وفكريا – هم أقزامها فى الوقت الصعب!! وتبقى قراءتنا
للكتاب مستمرة..
يتبع
0 تعليقات