عز
الدين البغدادي
نموذج من الدولة
الصفوية
عندما قامت الدولة
الصفوية عملت على استقدام فقهاء الشيعة من العراق وجبل عامل، فاستجاب كثير منهم
لها ورفض آخرون. وكان من ابرز الفقهاء الذين ارتبطوا اسمهم بهذا الدولة هو المحقق
الكركي علي بن عبد العال الكركي المعروف بالمحقق الثاني صاحب كتاب "جامع
المقاصد" وهو فقيهٍ كبيرٍ وجليل القدر بلا شك، إلا أنَّ هـذا لا يمنع أنّ
نذكر أنّ هذا الرجل كان للاسف فقيه سلطان!!!!
ويمكن ان تنظر في
سيرته وأقوال العلماء فيه، حيث كان من أقربِ المقرّبين للشاه الصفويّ طهْماسب، حيث
أقام في البلاط ومنح لقب صَدرُ الصدور وخاتم المجتهدين ونظر إليه باعتباره نائبا
للإمام. كما ذكر ذلك من ترجم له، فقال الشيخ يوسف البحراني: وكان من علماء الشاه
طهماسب الصفويّ، وجعل أمور المملكة بيده، وكتب رُقماً إلى جميع الممالك بامتثال ما
يأمر بهِ الشيخُ المزبور.
وقال: ورأيت للشيخ
أحكاما ورسائل إلى المماليك الشامية إلى عمالها وأهل الاختيار فيها، تتضمن قوانين
العدل وكيفية سلوك العمال مع الرعية في أخذ الخراج وكميّته ومقدار مدّته، والأمر
لهم بإخراج العلماء من المخالفين لئلا يضلّوا الموافقين لهم والمخالفين، وأمر بأن
يقرِّر في كل بلد وقرية إماما يصلي بالناس، ويعلمهم شرائع الدين، والشاه يكتب إلى
أولئك العمال بامتثال أوامر الشيخ، وأنه الأصل في تلك الأوامر.
وقال الأفندي في "رياض
العلماء": وقد نصبهُ حاكِما في الأمور الشرعيّة بجميعِ بلادِ إيران، وأعطاهُ
في ذلك الباب حُكماً وكِتابا يقضي منهُ العجب لغايةِ مُراعاةِ ذلك السلطان لأدبهِ
في ذلك الكتاب.
ولا شكَّ أنَّ هذا
التقدير لم يكن بغير مقابل؛ بل إنَّ هذا الموقف من السلطان جعل أحد الفقهاء
المعروفين في ذلك العصر وهو القُطَيفيّ يتصدّى للكركيّ ويتهجّم عليه.
ولعل السجالات التي
حصلت بين الكركي والشيخ إبراهيم القطيفي (ت 950 ه) تعكس بعضاً من وجهات نظر
المتنازعين, وكانت قد بدأت هذه السجلات قبل قدوم الكركي إلى إيران, ولكنها زادت
وحمي وطيسها بعد استلام الكركي لمنصبه. وقد كان من أبرز مواضيعها: صلاة الجمعة
والتي قال فيها الكركي بالوجوب التخييري، بينما منعها القطيفي, ومسألة جواز قبول
الهدية من السلطان والتي أثارها القطيفي برفضه هدية أرسلها إليه الشاه طهماسب؛
واستنكر ذلك الكركي وحصل بينهما مساجلة، وهو ما جعل الفقهاء فيما بعد يهتمون بهذه
المسألة في أبحاثهم الفقهية.
وكذلك جواز السجود
على التربة المشوية والتي أفتى بها الكركي، وصنّف القطيفي في ردّ تلك الفتوى
وأنكرها.
وكذلك كان الخراج من
المسائل التي احتدم حولها الخلاف بينهما, فالكركي أجاز أخذ الخراج حال غيبة الإمام
وذلك في رسالته "قاطعة اللجاج في تحقيق حل الخراج"، بينما جعله القطيفي
من خصوصيات الإمام المعصوم والتي لا تجوز في زمن الغيبة، وحمل بشدة على الكركي
وقال بزيف جميع ما في رسالته ألّفها لذلك وسّماها: "السراج الوهّاج لدفع عجاج
قاطعة اللّجاج في حِلِّ الخراج".
وكان القطيفي ينطلق
في سجالاته من خلفية نافية لأي ولاية في غياب المعصوم, ومحرمة لإقامة أي سلطان غير
سلطان الإمام في عصر الغيبة.
بينما كان المحقق
الكركي يرتكز في مساجلاته وفي فتاواه إلى خلفية تقول بأن الفقيه المأمون الجامع
للشرائط منصوب من الإمام المهدي، وبالتالي فهو الذي يعطي للحاكم شرعية حكمه. وهناك
من يعتقد أنّ هذا هو ما جعل طهماسب يستعين به وينصّبه، ولعلّ الأدقّ هو العكس، بل
إنّه كتب ذلك تأييدا لطهماسب وهو ما جعل بالتأكيد طهماسب يختار المحقّق الكركي
ليستعين به ونصبه شيخ الإسلام.
هذا مع أنّ المحقّق
الكركي توقف في النيابة في أمور أخرى كالزكاة والجهاد مثلا مما يشير إلى عدم وجود
نظرية متكاملة، بل إنّ المحقّق كان يتعامل مع المسألة على أنّها تكتيك للدعوة هذه
الدولة التي يتّفق مع سلطانها في المذهب لاسيّما وأنّ الرجل من جبل عامل وهو الّذي
تحمّل كثيراً من الأذى والضغط من الحكام بسبب كون أهله من الشيعة.
لقد وقع المحقّق
الكركي في ذلك الفخّ، واستخدم في الحرب بين الصفويّين والعثمانيّين لتحشيد الناس
في بلاد العجم. لقد كان يصدر الفتاوى التي لم تُسبق من قبل، فالكركيّ هو أوّل من
أفتى بجواز السجود على التربةِ المشويّة. وهو من أفتى بجواز أخذ السلطانِ الخراج
على الأرض، ولم يكن أحدُ من فقهاء الإماميّة يفتي بذلك، بل لقد كان هذا أمراً
بعيداً عن طريقتهم.
كما كان للكركيّ دور
مهمّ في إثارة النعرات فقد ألّف كتابا سمّاهُ: "نفحات اللاهوت في لعن الجبت
والطاغوت"، يذكر فيه مشروعيّة لعنِ الشيخين، بل لقد روي عن هذا الرجل أنّه: وكان
لا يركب ولا يمضي إلى موضع الا والسابُّ بين يديهِ مُجاهِرا بلعن الشيخين ومن على
طريقتهما.
كما قرأت أنّه أمر
بإخراج العلماء من المخالفين لئلا يضلوا الموافقين لهم والمخالفين!!
وإذا كنتَ تظنُّ أنّ
ما صدر من الرجل لا يعدو أن يكون رأيا علميّاً قد أصاب أو أخطأ فيه، وأنّ ذلك لا
يدلُّ على إنَّ الرجل كان يعمل على أن يخدم السلطان بذلك، فأقول لك: هناك ما هو
أشدُّ من ذلك حيثُ أنَّ المحقّق الكركي أفتى بجواز السجود للشاه، نعم صدق أو لا
تصدق‼ وهذه فتوى لا أعلم أحداً من فقهاء الإسلام سبقه إليها. المرزا مخدوم وهو
عالم او فاضل شيعي تسنن وتهجم على الشيعة كتب كتابا سماه "نواقض الروافض"
وقد نسب إلى الكركيّ أنّه أفتى بذلك، وقد شككتُ في ذلك أولا؛ لأن الرَّجل -أي مرزا
مخدوم- ليس ممن يقبل قولهُ في مثل ذلك. إلا أنَّ التستري الذي كتب "مصائب
النواصب" في الردِّ على المرزا مخدوم دافع عن رأي المحقّق وأثبت ذلك، فقال:
.... أقولُ فيهِ نظر؛ لأنَّ سجدةُ التعظيمِ لِمن يستحقّهُ ثابتٌ في شرع من قبلِنا
كما في سجدةِ الملائكةِ لآدم، وفي سجدةِ أخوّةِ يوسف له، وهو حجّة عند بعضِ
الأصوليّين ما لم تُنسخ، والنسخُ فيما نحنُ فيهِ ليس بثابتٍ قطعاً فيمكن أن يذهب
ذاهبٌ إلى تجويزِه. ولو سلّم فنقول: إنَّ سجدةَ الناسِ للسلطانِ شاه إسماعيل
والسلطان شاه طهماسب – أنار الله بُرهانهما- لم يكُن على وجه التعظيمِ لهُما، بل
كان شُكراً لله تعالى عند حُصولِ المسرّة لهم من رؤيتهِما حيث كانا سُلطانين
شيعيّين اثنا عشريين.
وهذا ما يُظهر أن
السجود للشاه كان أمراً معروفا كمـا نصّت على ذلك بعض المصادر حتى كان هناك تشنيع
عليه بسبب ذلك، كما ذكر ذلك الخوانساريّ في ترجمة الدشتكي الشيرازي فقال: وإليهِ
أيضاً يُنسبُ أنّه كتب في جوابِ سلطانِ الرومِ لما كتبَ هو إلى حضرة الشاه طهماسب
المرحوم، معترضاً عليهِ بأنّكم كيف ....... تأذنونَ في أن يسجدَ إليكُم الناسُ مع
إنَّ السجود لغير الله تعالى كُفرٌ ليس به يُقاس؟ فأشار إليهِ حضرةُ الشاه المرتفع
الجناب بأن يكتب إليهِ الجواب: ........ وأما حكايةُ سُجود الرعيّةِ لنا فهي مثل
سجود الملائكة لجدِّنا آدم حين أوحى الأمر بذلك إليهم، إنّما يفعلونَ ذلك شُكراً
لله سبحانهُ وتعالى على ما أنعم بنا عليهِم وإظهاراً لكمالِ المسرّةِ على ما ظهرَ
مِنّا بإعانةِ الله وإمضاء الله من إعلاء كلمةِ الحقِّ وإطفاءِ كلمة نائرةِ الباطل
في بلادِ الله رغمَ أعداء الله.
وهذا يثبت أن المسألة
واقعيّة ولم تكن افتراء عليه، كما يبين لك الالتفاف الفقهي للوصول الى النتيجة وان
كانت مخالفة لما هو ثابت في كتب الفريقين ومخالفته لضروري من ضروريات الدين.
بأي حال علينا أن
نتذكّر ونحن ننتقد موقف المحقّق الكركي -غفر الله لنا وله- أنّ ما فعله الرجل لم
يكن يخرج في معظم الجزئيّات عمّا فعله علماء أجلاء من كلّ المذاهب كانوا يرون أنّ
أيّ خطأ يمكن أن يرتكبه السلطان أو الأمير مغفورٌ إذا كان ممن يروّج لمذهب هذا
الفقيه، وخير مثال على ذلك المتوكّل العبّاسي الّذي لقّب ناصر السنة وذكرت بعد
مقتله الرؤى التي ملأت بها الكتب وتتحدّث عن أنّ الرجل من أهل الجنّة رغم ما لا
يحصى من الموبقات التي فعلها.
الفقيه والسلطان : قانون "قتل الإخوة" (1)
0 تعليقات