أحمد مبلغي
نظرية التقديس الكاذب في الاستنباط (٩)
[[تحدثنا في المنشور السابق عن التأثير السلبي الثاني للتقديس الكاذب على الاجتهاد، ونتحدث الآن أن شاء
الله عن التأثير السلبي الثالث له عليه]]
٣. إيقاف عجلة
الاجتهاد في سياق المجتمعات:
إن أحد انعكاسات
وعواقب ممارسة التقديس الزائف، هو أنه يمنع الفقه من التحرك جنبا الى جنب مع الزمن
ومع قضايا العصر، وهذا خطر كبير.
بعبارة أخرى، إحدى
المشاكل التي يسببها التقديس الكاذب ويثيرها وينشرها في ساحة الاستنباط، أنه يمنع
الفقيه من أن يكون قادراً على التحرك في فقهه واستنباطه مع حركة الزمن ويحرمه من إمكانية
السعى لاستجابة ظروف وتلبية احتياجات الإنسان المعاصر، وفي الواقع يخلق جمودا يجعل
هذا التحرك والسعي غير ممكنين، ومثل هذا الفقيه لا يمكن أن يكون فقيهًا معاصرًا،
بل حتى يمكننا أن نذهب أبعد من ذلك، ونقول: هذا الفقيه لأنه يسير في اتجاه واحد
ويتحرك في إطار متجمد، لذا فإن دخوله في قضايا جديدة ليس مفيدًا.
ذلك أن الفلسفة
الوجودية للاجتهاد، هي التعرف على القدرات والإمكانيات والطاقات المخبأة والمكثفة
في الشريعة ومحاولة التقاطها، بهدف صبها في الظروف الزمنية، ونشرها في المجتمعات
البشرية، حتى يكون قادرا على أساس الدين على الاستجابة لتحول وتجدد حياة الإنسان.
أما إذا جاء الفقيه
ويبنى ملاذات ومقدسات مزيفة بجوار المقدسات الدينية الحقيقية، ويغلق يديه وقدميه،
فهو لا يستطيع التفكير عن اجتهاد بجد ، ومثل ذلك ضد فلسفة الوجود للاجتهاد.
المثير للاهتمام أن
الشهيد الصدر طرح مشكلة "قضية التقديس الزائف" عند بحثه عن العدالة
الاقتصادية، والسؤال الذي يطرح نفسه، هو لماذا أثار الشهيد الصدر قضية التقديس
الزائف في بحثه عن العدالة؟ وببيان آخر، ما علاقة هذه القضية بالعدالة؟
والجواب أنه عرض هذه
القضية ( التقديس الكاذب) كمشكلة أساسية تمنع الاستنباط الدقيق والفهم الدقيق
للعدالة من منظور الإسلام (ولِما الى ذلك من قضايا أخرى مهمة).
لكي يتضح ذلك بشكل
جيد، أذكر بعض النقاط:
١. إن العدالة هي
القضية الأكثر أهمية للإنسان في العلاقات الاجتماعية، إنها في طليعة الجهود المهمة
التي كانت للأنبياء، حيث كانوا يركزون عليها، أشد التركيز. في الواقع، العدل رغبة
وأمل الإنسان في جميع الأعصار، وإنه قام على قمة القضايا الإنسانية والتطلعات
الإنسانية، وقد تحركت العدالة منذ العصور القديمة مع الحركة الإنسانية، وتجددت
فكرتها مع تجديد القضايا الاجتماعية، فالعدالة من منظور الدين، اهم وأوسع مشروع لا
يمكن للمجتمع أن يدوم ويستقر ويسير في الطريق الصحيح والصحة والدقة والديناميكية
بدونه.
٢. لذلك إن العدالة
ليست شيئًا نضعه في القفص بحجة أن لدينا فكرة عنه، بل هي بما أنها مطلوبة لجميع
البشر في جميع الظروف، فيجب أن يكون لدينا تعريف دقيق لأبعادها ومصاديقها، وإنه
يجب على الفقيه إدارة استنباطاته في القضايا الاجتهادية على أساس إحضارها كمؤشرة
موجودة دائمًا أمام عينيه.
٣. ان الشهيد الصدر
من منطلق وجهة نظره حول العدالة، عندما يناقش الاقتصاد من منظور الشريعة، يركز
بشكل خاص على العدالة الاقتصادية ويذهب إلى بعض الروايات ويستنطقها بحيث يستنبط
منها وجهة النظر المرنة المطعّمة في الشريعة حول هذه العدالة.
ببيان آخر، يرى أنه
يجب أن نستكشف من الروايات، الزوايا المرنة للملكية (تلك الروايات التي تضع حدودًا
وقيودًا للملكية لصالح العدالة)، حتى يمكن التنظير حول العدالة الاقتصادية بهدف
الاستجابة للاحتياجات البشرية المعاصرة من منظور الدين.
وفي هذا الصدد، كانت
نظرته في الحقيقة ناجحة ومثيرة للاهتمام عندما يعطي صورة عن الملكية ومناقشتها،
على أساس الروايات.
وقد أشار إلى مشكلة
التقديس الكاذب في سياق النظر إلى العدالة ومحاولته التنظيرية للتحرك نحو العدالة
الاقتصادية من منظور الشريعة.
جوهر كلام الشهيد
الصدر هنا، هو أن الفقيه الذي يعاني من إطار تقديس كاذب لمفهوم الملكية وينظر إليه
بعين مغلقة، لا يستطيع أن يرى الزوايا المرنة والمبدئية والإنسانية المطعمة في
الملكية التي كان الإسلام شرعها ونظمها، بل مثله هو أسير للأفكار التي صنعها عقله،
والتي هي على حساب الواقع والمجتمع والدين.
0 تعليقات