نصر القفاص
يعتقد "أطفال شوارع السياسة" أن التاريخ مات, لفرط
سذاجتهم.. ولأنهم يختالون علينا بجهلهم!!
لذلك أطلوا علينا بما أسموه "مستقبل وطن" وهو نفسه
"مستنقع وطن" سبق أن عاشته مصر قبل نحو مائة عام.. فقد سبق تقديم منهج
حزب "الاتحاد" طبخة مسمومة هدفها ضرب "اسفين" بين الملك وزعيم
الشعب, والهدف الأسمى لهم كان خدمة الاستعمار!!
وضح أن "سعد زغلول" استوعب المؤامرة وفهمها, فلم يتحرج
فى الرد على سؤال لجريدة "الريفورم" التى تصدر بالفرنسية من القاهرة حول
استقالات بعض النواب من "الوفد" فأجاب بقوة قائلا: "هؤلاء لم
يكونوا أعضاء فى الوفد حتى يقال أن عقده ينفرط.. فالذين استقالوا كانوا مجرد أعضاء
فى البرلمان رشحهم الوفد.. وهذه "النمر" – يقصد الأرقام – لم نعول عليهم
فى أى وقت.. وهؤلاء لا يتبعون أى حزب من الأحزاب, وليس لهم أى مبدأ ولا تجمعهم
جامعة غرض معين أو برنامج محدد أو غرض سام.. كل منهم يعمل لحساب نفسه"!!
أكدت جريدة "ليبرتيه" التى كانت تصدر بالفرنسية من
"بورسعيد" المعنى ذاته فى مقال جاء فيه: "يجب ألا ننسى حالة مصر من
الوجهة الدستورية.. فإذا كان مرشحو الوفد قد أحرزوا فوزا باهرا فى الانتخابات
الماضية.. فإن ذلك لم يكن تقديرا لمزاياهم الشخصية.. بل كان سببه الوحيد أنهم
يمثلون الوفد.. فالناخب المصرى يضع صوته فى صندوق الانتخابات على أنه يعطى صوته لزغلول
باشا, لذلك نرى أن الاستقالات التى كثر اللغط حولها لن يكون له أي تأثير لدى
الناخبين"!!
ويبدو أن "طباخ السم" خاف من اكتشاف أمر طبخته, فتم
الترويج لتهمة جديدة ضد الوفد وزعيمه.. زعموا أن "سعد زغلول" أرسل وسيطا
من جانبه للمندوب السامى البريطانى, يرجوا عدم حل البرلمان حتى يتمكن من العودة
بقوة الأغلبية التى يملكها الوفد فى مجلس النواب.. وأضافوا لذلك زعما بأن
"سعد زغلول" كان يجهز لاستعادة الوزارة عبر "محمد سعيد باشا"
ليقود وزارة وفدية تشرع فى التفاوض مع الانجليز لإبرام تحالف بين انجلترا ومصر
يقبل بقاء حاميات فى قناة السويس وأبى قير والعباسية.. ويقبل بسيطرة الانجليز على
السودان.. وزعموا أن "ليون كاسترو" صاحب جريدة "ليبراتيه" كان
رسول الوفد إلى دار المندوب السامى البريطانى.. وتسرب كل ذلك من داخل حزب
"الأحرار الدستوريين" وعبر رجاله.. هنا خرج من روجوا أنه كان وسيط
"سعد زغلول" ونشر قسما بأن هذا لم يحدث ولا أساس له من الصحة, وأن ذلك
محض خيال.. فنشرت جريدة "السياسة" لسان حال حزب "الأحرار
الدستوريين" أن وسيط "سعد زغلول" كان "عبد الفتاح رجائى"
عضو مجلس الشيوخ.. لترد جريدة "البلاغ" الوفدية وتنشر أن الوسيط الذى
ذهب إلى دار "المندوب السامى البريطانى" هو "حسن نشأت" رئيس
الديوان الملكي!! للسخرية من الواقعة بأكملها.. وهنا ساد صمت رهيب.. فالأحداث تمضى
بسرعة ورائحة "الطبخة" بدأت تفوح.. كل هذا قبل فتح ملفات منهج حزب
"الاتحاد" الذى تم إعداده فى القصر الملكى, ولم يكن أحدا يعلم عنه
شيئا.. وتحرك "أطفال شوارع السياسة" القدامى لتجميع كل من يخرج على
الوفد أو يعاديه.. وكل طامع فى منصب أو باحث عن فرصة تحقق له ثراء غير مشروع..
شارك فى ذلك عدد كبير من المسئولين, روجوا أن هذه غاية ورغبة العرش الذى يتجه إلى
تأليف حزب جديد.. قالوا أن المرحلة القادمة تحتاج إلى الالتفاف حول الملك.. وتتطلب
التعاضد والتكاتف.. أى أن "الاتحاد" أصبح ضرورة!!
ومن هنا ظهر اسم حزب ومنهج "الاتحاد".. لم تمض أيام
بعدها.. حتى تم الإعلان عن عقد اجتماع سياسى فى فندق "سميراميس" يوم 10
يناير عام 1925, شارك فيه عدد من الوجهاء لتدشين مشروع سياسى جديد.. وظهر فى
الواجهة اللواء "موسى فؤاد باشا" الذى ألقى كلمة افتتاح المؤتمر ليقول
للحاضرين: "إن أشرف أغراض الدعوة إلى الاتحاد, هو توحيد صفوف الأمة وجمع
كلمتها" ثم تحدث "خيرت راضى بك" المحامى ليقول: "إن هذا الحزب
هو الذى سيعمل لتحقيق مدلول لفظ الاتحاد"!!
هل سمعت هذا الكلام عند ولادة كيان حمل اسم "مستقبل وطن"
ومعه على التوازى كيان آخر اسمه "من أجل مصر"؟! الإجابة متروكة لك.
نعود إلى باقى كلمة "خيرت راضى بك" الذى أوضح قائلا:
"تم تأليف هذا الحزب ليخرج بالأمة من المأزق الذى ارتطمت به, وبعد أن أحسسنا
أن عرى الاتحاد كادت تنفصم.. وأن الخطر يتهددنا فى أمانينا, وأن الأخلاق حتى
الدينية أعملنا فيها معاول الهدم بدون شفقة ولا رحمة"!! قيل هذا الكلام فى
مطلع عام 1925.. وقيل أيضا على لسان المتحدث نفسه: "هدفنا أن نعيد إلى أبناء
الشعب ثقة بعضهم ببعض.. نريد أن نقيم فى الأذهان أن الإخلاص والوطنية ليسا احتكارا
لأحد.. وأن ليس لمصرى على مصرى فضل سوى ما تقدم يداه لهذا الوطن من خير
ونفع"!! وبعده تحدث "عبد العليم البيلى افندى" المحامى فقال:
"قاست البلاد كثيرا من جراء الانقسامات وتحكم الإغراض الحزبية التى آلت إليها
أحوالنا" ثم قرأ أسماء أعضاء اللجنة التحضيرية, ليتم انتخاب مجلس إدارة للحزب
من بينهم فيما بعد.. وهتف الحضور لجلالة الملك وولى عهده ولمصر!!
ساعات قليلة حتى تم الإعلان عن إصدار جريدة "الاتحاد"
كناطق رسمى باسم الحزب, كما تم الإعلان عن شراء جريدة "ليبرتيه" الناطقة
بالفرنسية من مالكها "ليون كاسترو" وتلا ذلك إعلان برنامج الحزب.. رحبت
بالحزب الجديد جريدة "السياسة" لسان حال "الأحرار الدستوريين"
رغم أن الرأى العام استقبل الحدث بفتور.. لكن جريدة "اللواء المصرى"
قالت: "ترددت الشائعات وكثرت الأقوال حول تأليف حزب جديد.. لا ندرى على أى
مبدأ أنشىء, ولا لأى غرض تأسس.. فلا رجاله معروفون.. ولا مبادئه أعلن عنها.. لا
ندرى ما الحكمة من إنشائه والبلد لا تحتاجه.. البلاد يحتلها غاصب والكل يسعى
لإخراج الانجليز من مصر.. فلماذا هذا التشعب؟!" وأضافت الجريدة: "شعورنا
قبل أن نطلع على خطته أنه قصير العمر.. سريع الزوال"!!.. وتناولت جريدة
"الأخبار" التى كانت تعبر عن الحزب "الوطنى المصرى" برنامج
الحزب الجديد, فقالت: "أول ما يلفت الأنظار أن برنامج الحزب الجديد, لم يوضح
سياسته حيال الانجليز.. بل قصر كلامه على الشئون الداخلية" ثم أشارت الجريدة
إلى غموض مبادىء الحزب.
اختارت صحيفة "كوكب الشرق" وهى مؤيدة للوفد أن تختصر
الطريق فقالت: "إن دعوة الناس للاندماج فى هذا الحزب عن طريق القول بأنه حزب
العرش, سيجعل الناس ينفرون منه.. لأن الأمة بكل أحزابها هى حزب العرش.. والذين
يسلكون هذا السبيل يسيئون للوطن من حيث يشعرون أو لا يشعرون.. فعندما يقال أن
للعرش حزب, فهذا يعنى أنه هناك أحزاب أخرى ضده وهذا يضرب الأمة فى وحدتها"..
وقالت جريدة "البلاغ" التى تؤيد "الوفد" فى مقال نشرته:
"قام حزب الاتحاد ليحل بديلا عن محاولة إنشاء حزب مصر المستقل لصرف المصريين
عن الوفد, وجمعهم حول عدلى يكن.. وهى المحاولة التى لم تنجح.. لذلك نرى أن حزب
الاتحاد سيلحق بتلك المحاولة, لأن نباته غريب عن تربة مصر ولا يمكن أن ينمو
فيها"!!.. ونشرت "الأهرام" فى افتتاحيتها: "إن هذه الفرق
والأحزاب لا تضع نصب عينيها سوى غرض واحد.. هو التغلب على الوفد فى الانتخابات
القادمة" ووصفت الثائرين على "الوفد" بأنهم "ناموس
الثورة"!!.. ونشرت جريدة "مانشستر جارديان" الانجليزية نقلا عن
مراسلها, تصريحا أدلى به "سعد زغلول" تعليقا على قيام حزب
"الاتحاد" قال فيه: "هذا حزب ألفته الحكومة بعد أن عرفت أن الأحرار
الدستوريين ليس له مكان فى قلوب المصريين.. هم صنعوا هذا الحزب لأغراض انتخابية..
ولا أعرف لماذا تسألنى؟! مع أن الإجابة يعرفها كل مواطن فى البلاد"!!
عندما اختار الذين هندسوا طبخة "مستقبل وطن" منهج حزب
"الاتحاد" فى عشرينات القرن الماضى, وهو المنهج الذى استمر فى ثلاثينات
القرن نفسه باسم حزب "الشعب" راهنوا على أن التاريخ لقى مصرعه فى ظروف
معلومة.. ومات.. لكن التاريخ لا يموت.. والحقائق لا يمكن تزييفها.. والدليل على
ذلك أن الشعب أنهى "الطبخة" بوصفه للكيان السياسى "المسخ" أنه
"مستنقع وطن" واختار التعبير عن رفضه لتلك الألاعيب بمقاطعته رغم اتفاقه
جنائيا مع عشرة أحزاب, إضافة إلى تنظيمه السرى!!
يراهن البعض على أن الذاكرة المصرية ضعيفة.. يروجون لتلك الفكرة,
إستنادا لجملة حملتها رواية كتبها "نجيب محفوظ" تقول: "آفة حارتنا
النسيان" وهؤلاء من منتحلى صفة "مثقف" بعد محاولة اغتيال الثقافة..
ومن "أطفال شوارع السياسة" بعد اعتقادهم أن السياسة خرجت ولم تعد.. لا
يعلمون أن المصريين حفروا تاريخهم على الحجارة ليبقى خالدا فى ذاكرة الإنسانية!!
أراهن على ثقة لا متناهية فى ذكاء ووعى "الشعب المصرى
الشقيق" دون أدنى شك مع رفض للتشكيك فى ذلك.. وأراهن على "الجالية
المصرية فى القاهرة" التى تحتمى بنفسها داخل شرنقة التاريخ والمعرفة, قبل أن
تفجر مفاجآتها.. هذه حقيقة يؤكدها أن "سعد زغلول" عاش داخل
"الشرنقة" فى زمن "الخديوى اسماعيل" فى كنف الشيخ "محمد
عبده" وغادرها عندما أصبح وزيرا وقت أن كان يحكم "الخديوى عباس"
وفقد البوصلة لحظة اهتزاز الكرة الأرضية عندما اشتعلت الحرب العالمية الأولى..
لكنه استعاد الوعى, وأعاد للأمة وعيها بتفجير ثورة 1919.. وإذا كان "مستنقع وطن"
قد فرض نفسه فى آواخر أيامه.. فقد جاء "جمال عبد الناصر" ورحل..
وانتظرنا حتى أطل "عبد الفتاح السيسى" الذى يحاول "أطفال شوارع
السياسة" أن يجرفوه إلى "مستنقع وطن" ويبقى أن أستمر فى قراءة منهج
حزب "الاتحاد"!!..
يتبع
0 تعليقات