آخر الأخبار

نهاية "مستنقع وطن"!! الحلقة الرابعة

 

 






نصر القفاص

 

قبل ساعات من الانتخابات صدر عن "الوفد" بيانا انتهى إلى مخاطبة الوزراء بقوله "يستحيل عليكم أن تكرموا فى أمة مهانة, وأن تتمتعوا بالحرية وأنتم فى شعب مستعبد, وأن تنفردوا بالعزة إذا ضربت على بلادكم المذلة"!!

 

وصرح "سعد زغلول" واصفا حزب "الاتحاد" بقوله: "هذا حزب هدفه تمزيق الأمة, وهو لن يعيش.. لأن الأحزاب التى لا تؤسس على مبادىء واضحة تنحاز للشعب, مصيرها الموت"!! وفى المقابل تحدث "إسماعيل صدقى" لجريدة "السياسة" فقال: "المحقق أن التأييد العظيم الذى لقيته وتلقاه الوزارة الحالية من الأمة, يرجع إلى ما أظهرته الحكومة من حزم وما قامت به من حماية الحريات.. وخلصت الناس من الغوغاء – يقصد الوفد – الذين كانوا يهيمنون على شئونها ويتصرفون فى أمورها – يقصد وزارة سعد – وما رأيته أثناء طوافى فى الأقاليم يجعلنى أقول أنهم لن يعودوا للحكم"!! وأصدر حزب "الأحرار الدستوريين" بيانا هاجم فيه "الوفد" بقسوة, وتناول "سعد زغلول" بأقسى الأوصاف التى بلغت حد السباب.. وأنهى البيان بقوله: "دقت ساعة الفصل بينكم وبين سعد.. فحدثوا العالم غدا بأنكم جادون, وأن سعدا وأصحابه هم الهازلون"!!

 

عشية الانتخابات صدق الملك "أحمد فؤاد" على قرار بتعيين ثلاثة رؤساء وزراء سابقين فى مجلس الشيوخ من الذين يناصبون "سعد زغلول" و"الوفد" العداء.. وهم "حسين رشدى" و"عدلى يكن" و"يحيى إبراهيم" وعلقت على الخبر جريدة "ديلى تلجراف" البريطانية بقولها: "إن تعيين رشدى باشا وعدلى باشا ويحيى باشا فى مجلس الشيوخ بمرسوم ملكى, يعزز جانب المعارضين للوفد فى مجلس الشيوخ" ونشرت جريدة "التايمز" تقريرا لمراسلها من القاهرة أكد فيه أن: "الأحزاب غير الوفدية متحدة اتحادا وثيقا.. ورغبتها واضحة فى منعه من العودة للحكم".

 

انتهى يوم 12 مارس عام 1925 والذى وصفته بعض الصحف, بأنه كان أطول أيام المصريين.. إحتشد الناس فى شوارع المدن, وشهد ميدان "العتبة" تجمعا غير عادى لمتابعة لوحة ضوئية علقها محل "المواردى" كانت تكتب أسماء الناجحين فى الدوائر أول بأول.. كانت المفاجأة أن البوليس داهم المحل, ومنع عرض النتائج وأطفأ اللوحة الضوئية!!

 

وعند منتصف الليل صدر بيان رسمى عن وزارة الداخلية جاء فيه: "نالت الحكومة الأغلبية فى الانتخابات, لذلك تقرر استمرارها فى الحكم"!! وبعيدا عن البيانات تم الترويج أن "الوفد" لم يحصل على غير 101 مقعد من أصل 226 مقعدا يمثلون كل أعضاء البرلمان.. وعندما جاء الصباح تبين أن "الوفد" حصل على 111 مقعدا قبل إعلان نتائج 16 دائرة.. وعرف الناس أن حزب "الأحرار الدستوريين" حصل على 37 مقعدا, والحزب "الوطنى المصرى" فاز بستة مقاعد.. واهتمت الصحف البريطانية بالنتائج, وذكرت صحيفة "وستمنستر" أنه لا يوجد أدنى شك فى أن الحكومة تخادع.. وأن السعديين – تقصد الوفد – حائزون على أكثرية يتفوقون بها على جميع الأحزاب مجتمعة.. ونشرت "المانشستر جارديان" تقريرا جاء فيه: "السعديون فازوا فوزا باهرا رغم التجاء الحكومة إلى وسائل الشدة ضدهم".. وذكرت الصحيفة أن هناك عشرون نائبا مستقلا لم يتضح اتجاه انحيازهم لأى من الكفتين.. ونشرت صحيفة "الديلى هيرالد" تقريرا ذكرت فيه: "النتائج التى ظهرت تدعو للجزع, فقد استخدمت الحكومة جميع ما لديها من وسائل الضغط.. وكانت كلها ثقة أنها ستفوز وتحطم الوفد وتخلع زغلول باشا من زعامة الشعب"!!

 

حدث ذلك قبل ما يقرب من مائة عام.. أثبت الشعب المصرى أنه جدير بالديمقراطية ويستحقها.. أكد الشعب المصرى رغم فقره وجهله ومرضه, أنه قادر على الفرز والتحدى للحكومة والملك والاستعمار إذا توفرت أبسط قواعد الحرية والنزاهة للانتخابات..

 

 أسقط الشعب رهان كل الذين وصموه بما يقلل من قيمته.. أعطى درسا قاسيا للذين اعتقدوا فى أنه يمكن أن يتناول "الطبخة المسمومة" وسخر من الذين مارسوا فعل سياسى فاضح فى الطريق العام.. أسقط "أولاد شوارع السياسة" عندما وجد زعيما يلتف حوله ويثق فيه.. ورغم أن هذا الدرس تكرر فيما بعد مع "عبد الناصر" وكذلك مع "السيسى" إلا أن "أولاد شوارع السياسة" لا يعدمون حيلا لإعادة منهج حزب "الاتحاد" بتقديم "مستنقع وطن" باهتا.. ولافتا.. ليتحول إلى نمر من ورق يثير سخرية الأغلبية الكاسحة بإبداع جديد, ظهر فى حالة "الصمت الصاخب" بالمقاطعة غير المسبوقة فى التاريخ للانتخابات التى أرادت "توريث الفساد" خلال انتخابات مجلس الشيوخ 2020.. والبقية تأتى!!

 

لم تنته الدروس.. دارت معركة أخرى تحت قبة البرلمان, وشهدت درسا أكثر قسوة قدمه هذه المرة نواب الشعب.. ففى صباح يوم 13 مارس إجتمع مجلس الوزراء برئاسة "أحمد زيوار" ودرس نتائج الانتخابات, ثم اتخذ قرارا برفع استقالة الوزارة لجلالة الملك ليتم تشكيل وزارة جديدة وفقا للدسنور.. ثم أعلن "زيوار باشا" بعد ساعات أنه تلقى أوامر جلالة الملك بإعادة تشكيل الوزارة.. كان مدهشا أن يتوالى إعلان نص الاستقالة, ثم قرار التكليف بتشكيل الوزارة فى اليوم نفسه.. بل وفى اليوم نفسه يتم إعلان تشكيل وزارة جديدة برئاسة "أحمد زيوار" ضمت "يحيى ابراهيم" وزيرا للمالية و"إسماعيل صدقى" وزيرا للداخلية.. ثم "موسى فؤاد" وزيرا للحربية.. و"عبد العزيز فهمى" وزيرا للحقانية – العدل – و"توفيق دوس" وزيرا للزراعة.. و"إسماعيل سرى" للأشغال العمومية.. و"يوسف قطاوى" وزيرا للمواصلات.. و"على ماهر" وزيرا للمعارف – التعليم – و"محمد على" وزيرا للأوقاف.. واحتفظ رئيس الوزراء لنفسه بوزارة الخارجية.. ولعلنا نلاحظ أن "موسى فؤاد" الذى أصبح وزيرا للحربية, هو صاحب بيان تأسيس حزب "الاتحاد" وأن "يوسف قطاوى" كان يهوديا صهيونيا, وأن "على ماهر" هو أول رئيس وزراء – فيما بعد – عندما قامت ثورة 23 يوليو, وقد كان من مؤسسى حزب "الاتحاد"!! وتعليقا على هذه الأخبار المتلاحقة.. أو قل تعليقا على هذا التحدى لإرادة الأمة, وذلك الاعتداء الواضح على الدستور.. صرح "سعد زغلول" بقوله: "مستحيل أن نؤيد وزارة لم يؤخذ رأينا فيها, مهما كان لونها السياسى"!!

 

بقيت المعركة مستمرة.. فما حدث تم الترويج إلى أنه استند إلى فوز "تحالف القصد الجنائى" بقيادة حزب "الاتحاد" بالأكثرية!! وراحوا يتحدثون عن أن النواب المستقلين هم الذين يملكون الحسم والقول الفصل.. وراحت صحف التحالف الوزارى تجدد حملات الهجوم والسباب ضد "سعد زغلول" وتحذر من خطورة عدم منح الثقة للوزارة الجديدة.. ونشرت صحيفة "السياسة" مقالا جاء فيه: "أيها الحائرون المترددون.. عليكم وحدكم تقع تبعية مصير هذا الوطن.. فإما أن تنحازوا إلى جانب الكفاءات المشهورة التى أتاحتها الانتخابات الجديدة للبلاد, فتعينوا الحق على الباطل والدستور على الفوضى.. وإما أن يستهويكم الشيطان فينال سعد فى المجلس الجديد كثرة لن تمكنه من الحكم.. لكنها قد تقضى على الدستور وتفسد على البلاد ما جاهدت من أجله".

 

الذين حاولوا خداع الشعب وأهانوه يتحدثون عن الحق والدستور ومستقبل البلاد.. ويحذرون من اختارهم الشعب ونالوا ثقته بأنهم الشياطين.. ويهددون نواب الأمة ويمارسون ضدهم الابتزاز والإرهاب.. ثم يحدثونك عن الديمقراطية.. هم يقصدون ما يقولون.. فالديمقراطية التى أعدها وأرادها لنا الاستعمار, هى الديمقراطية المزيفة بمنهج حزب "الاتحاد" الذى يطبقه "مستنقع وطن" مع إضافة رداءة بخلق "تنظيم سرى" مواز للحزب يتجمع فيه كثير من الانتهازيين السذج!! وكم كان مدهشا.. مفزعا.. أن تنشر جريدة "الاتحاد" مقالا جاء فيه: "إلى أين يريد سعد باشا وعصبته أن يسيروا بنا.. لابد أن يتولى الحكم, وإلا فلا بديل سوى نشر الفوضى وإثارة الاضطراب وهدم البلاد على رأس أبنائها وإفساد مساعيها وإحباط جهودها"!! وزعمت جريدة "الأخبار" أن "سعد زغلول" يمارس إرهابا على النواب المستقلين.. المترددين.. لكى ينضموا إليه.. وبدأت صحف تقول أن للوفد 101 مقعد بينما للتحالف 105 مقعد, والباقى هم المستقلين الذين سيمنحون ثقتهم للحكومة.. وردا على كل ذلك خرج "سعد زغلول" على جمع من طلاب الجامعات ذهبوا إلى بيته لتهنئته.. فحدثهم ساخرا من خصومه, واستهل كلامه بسؤالهم.. هل أتيتم للتهنئة أو للتعزية؟! إننى أعتبركم معزين إذا صدقتم بيانات ونتائج الحكومة.. قاطعوه.. لا.. لا.. فأجابهم.. أما إذا كنتم أخذتم الحقيقة واعتبرتم أن الوفد فاز, فإننى أعتبركم مهنئين, وأتقبل تهنئتكم بالشكر الجميل.. وبشرهم بأن الوفد فاز بعدد 116 مقعدا, وأن "تحالف القصد الجنائى" حصل على 105 مقعدا.. ويبقى المستقلين الذين يملكون ترجيح إحدى الكفتين!! وبعد هذا اللقاء زار بيت "سعد زغلول" وفد من وزارة الداخلية, وأبلغه أن البوليس تلقى تقاريرا تشير إلى عقد اجتماعات فى بيته يتم إلقاء الخطب خلالها وينادى المشاركين فيها بسقوط الحكومة.. وقالوا له أن هذا يمنعه القانون!! وللتغطية على هذه الحالة تحدث "زيوار باشا" لجريدة "الديلى اكسبريس" البريطانية فقال: "تمكنا من تأليف وزارة هى الأقوى فى تاريخ مصر"!! وتحدث "يحيى ابراهيم" لجريدة "التايمز" ليقول: "رئاستى لحزب الاتحاد هدفها إيجاد صداقة حقيقية بين مصر وانجلترا"!! ونقلت "التايمز" على لسان "حافظ رمضان" رئيس الحزب "الوطنى المصرى" قوله: "الحزب الوطنى لن ينسى المظالم التى قاستها الأمة تحت حكم الوزارة الزغلولية"!!

 

يوم 23 مارس.. إنعقد البرلمان الجديد وكان آخر من حضر الجلسة "سعد زغلول" فى تمام التاسعة صباحا.. وصل بعدها الملك "فؤاد" الذى سلم خطاب العرش إلى "أحمد زيوار" ليلقيه ثم غادر المجلس, وتم رفع الجلسة على أن تعود للانعقاد فى تمام الحادية عشرة.. تولى "أحمد مظلوم" أكبر الأعضاء سنا رئاسة الجلسة.. تم فتح باب التصويت على رئاسة المجلس.. تقدم "سعد زغلول" كمرشح ينافس "عبد الخالق ثروت" وبالفرز تم إعلان فوز "سعد زغلول" الذى حصل على 123 صوتا مقابل 85 صوتا لمنافسه.. وتولى "سعد" رئاسة الجلسة.. ألقى كلمة قصيرة, وأعلن العودة للانعقاد فى الخامسة بعد الظهر.. إنعقدت الجلسة المسائية لتشهد انتخاب الوكيلين وهيئة المكتب.. هنا دخل رئيس الوزراء "أحمد زيوار" وطلب الكلمة ليقرأ المرسوم الملكى بحل مجلس النواب وإجراء انتخابات جديدة يوم 23 مايو القادم.. ليتأكد السقوط فى "مستنقع وطن"!!

 

هكذا كانت مصر فى العشرينات!!..

 


نهاية "مستنقع وطن"!! الحلقة الثالثة

يتبع

 

إرسال تعليق

0 تعليقات