نصر القفاص
انتهى إعداد "الطبخة
المسمومة" فى معامل الأجهزة البريطانية, وتسلمها "حسن نشأت" رئيس
الديوان الملكي لتقديمها فى مصر.. قامت "الطبخة" على أن يتولى رئاسة
الوزراء "أحمد زيوار" باعتباره من أصدقاء رجال الحكم فى
"لندن" ويضم فريقه الحكومى مجموعة من اللون نفسه على أن يبقى رئيس
الوزراء بصفة مستقل.. كان ضروريا أن يكون إلى جانبه "إسماعيل صدقى"
باعتباره من رفاق "سعد زغلول" الذى انقلب إلى خصم له وللوفد, فتولى
وزارة الداخلية.. يتم تشكيل حزب "الاتحاد" وتقديمه للأمة على أن حزب
القصر الرسمي يرضى به وعنه الملك "فؤاد" ويتجمع داخله كل باحث عن فرصة
ثراء أو نفوذ ووجاهة.. وينضم إليه "كبار – صغار" المسئولين, مع عدد من
الأثرياء كرجال مال يقومون على تمويل "المسخ السياسي" الجديد!!
وتم اختيار يوم 10 يناير من عام 1925
لتدشين إطلاق هذا المنهج.. وضح الحرص على أن تكون البداية "باهتة" شريطة
أن تكون "لافتة" وذلك يحققه "يحيى إبراهيم" رئيس الوزراء
الأسبق برئاسته للحزب.. فالرجل أدار انتخابات ديمقراطية نزيهة بعد إقرار دستور
1923, وانتهت إلى فوز كاسح للوفد.. والمثير أنه هو نفسه سقط فى الانتخابات التى
أدارها كرئيس وزراء, وذلك يكفى للفت الأنظار.. وفرضت "الطبخة" أن يكون
للحزب الجديد أذرعه الإعلامية, فتم إصدار جريدة يومية باللغة العربية.. إلى جانب
شراء جريدة ناطقة بالفرنسية.. وينطلق العبث بجداول الناخبين وتعديل الدوائر, ولا
مانع من تعديل قانون الانتخابات نفسه.
إعتبارا من تأسيس هذا المنهج, وضح أن
الاستعمار البريطانى يريد لمصر ممارسة ديمقراطية وفق مواصفات محددة وسابقة التجهيز..
ديمقراطية لها شكل الديمقراطية, على أن تكون دكتاتورية تضمن تمكن المقربين من
الاستعمار وتحكمهم فى السلطة!! ويوازى ذلك عمليات إغارة ضد الزعامة الشعبية,
والكيان الذى تلتف حوله الجماهير.. وبارك "المندوب السامى" إمساك
"حسن نشأت" بخيوط اللعبة من مكتب داخل القصر الملكى, ليطمئن قلب الرجل
الذى يملك ما يسمونه بالشرعية!! ودارت عجلة الأحداث ببطء, ليتم تجاوز المدى الزمنى
الذى حدده الدستور, لإعادة "مجلس النواب" بهدف محدد.. أن يتعود المصريين
على أن الدستور مجرد وثيقة لا تلزم حاكما ولا تنصف محكوما!! كما الديمقراطية تكون
إجراءات وتصويت سابق الهندسة بأيدى عابثين يعشقون السلطة!! وتنفيذا للمخطط اجتمع
مجلس الوزراء أول فبراير, وقرر تعديل تقسيم الدوائر فى 106 دائرة من أصل 214
دائرة.. وصدر مرسوم فتح باب الترشيح يوم 4 فبراير, على أن يتم تحديد يوم الانتخاب
فيما بعد!! شهدت الكواليس عقد "اتفاق قصد جنائى" بين
"الاتحاد" و"الأحرار الدستوريين" وتم السماح للحزب
"الوطنى المصرى" أن يكون شريكا دون إلزامه بالتوقيع, إحتراما لموقف الحزب
الرافض لكل أشكال التعاون مع الاستعمار الانجليزى والمقربين منه!! وكان هناك سبب
آخر هو إعطائه عدد أكبر من مقاعد "مجلس النواب" بما يجعله يهدأ قليلا أو
كثيرا تجاه الوجود الاستعمارى على أرض مصر.. تم السماح – أيضا – لحزب
"الاتحاد" أن يعلو صوته ويكرر دائما أغنية الإخلاص للعرش, مع إعفاء
"الأحرار الدستوريين" من هذه النغمة ليكون ندا للوفد الذى لا يفرط فى
ترديد هذه النغمة!!
وتولى "إسماعيل صدقى" ترويج
ما وصفه بأنها قناعته التى تميل إلى "أننى رجل عملى فى السياسة" وهذا
يعنى أنه لا يتشدد تجاه سلطة الاحتلال.. وتحت هذه "اللافتة" تجمع حوله
من رفضوا الانضمام لحزب "الاتحاد" خشية رفضهم جماهيريا, وكذلك الذين لا
يفضلون أن يتركوا "الوفد" وينضموا "للأحرار الدستوريين".
تم الإعلان عن 12 مارس كموعد لإجراء
الانتخابات, ورافق ذلك فتح "مزاد العطايا" والوعود لإفساد ناخب تحدى
الدنيا وصوت للوفد فى أول انتخابات!! وبالتأكيد سنلاحظ أن كل هذه الأمراض توطنت فى
مصر.. وعندما لاحت فرصة العلاج منها أطل علينا "مستنقع وطن" لتكريسها,
وجمع حوله أحزابا تمثل غطاء يستره أمام الشعب!! حدث ذلك حين رفع راية الدفاع عن
التعديلات الدستورية.. ثم عقد صفقة "مجلس الشيوخ" ليضمن لكل المرفوضين
شعبيا مقاعد بهذا المجلس, عبر أبنائهم مع التزام بتكرار التجربة خلال انتخابات
مجلس النواب.
ما شهدته انتخابات عام 1925 كانت نقطة
البداية لطريق طويل من الفساد السياسى استمر لما يقرب من مائة.. لكن فى حينه كان
رهان "سعد زغلول" على الضمير الوطنى.. وعبر عن ذلك بحديث أدلى به لجريدة
"البلاغ" تم نشره يوم 25 فبراير, قال فيه" "إن ضميرى مطمئن
جدا وأثق فى المستقبل.. فافتراءات خصومى فى خارج البلاد وداخلها, ومكائدهم لن تمنع
البذرة الصالحة التى بذرتها من أن تنمو.. وستحصل مصر على مطالبها وتصل إلى
الاستقلال عاجلا أو آجلا.. ومهما نقضت انجلترا وعودها لتحقيق أطماعها الاستعمارية,
فلا يمكن أن توقف سير شعبنا فى طريق الحرية" وكان بما قاله يرد على حملات
تشنها ضده صحف بريطانيا.. بينها أن تنشر "التايمز" يوم 21 فبراير:
"لقد أظهرت وزارة زيوار باشا فطنة وشجاعة فى التدبير التى اتخذتها لتجريد
الوفد من سلاحه"!! وكانت تقصد الالتفاف الشعبى.. وأضافت الجريدة تقول:
"الأكثرية العظمى من سكان مصر لا تعنيهم السياسة, لأنهم فلاحين كل همهم توفير
المياة للزراعة وترك الأمور العليا لزعيمهم زغلول باشا ورجاله" وهنا يجب أن
نضع خطوطا إلى فطنة الاستعمار "لسلاح المياة" من زمن طويل..
ونعود إلى رؤية الجريدة نفسها –
وقاحتها – التى جاء فيها: "المصريون لا يتوقعون انتخابات بالأساليب الدستورية
المألوفة فى الغرب.. كل ما يريدونه حكم صالح بدرجة معقولة, وهم يعجبهم الحزم فى
الحكم حتى ولو قام على تحكم!! ويجب أن نعلم أن نجاح وزارة زيوار باشا يتوقف على أن
يقدم لها المصريون كل ما يسمح به جبنهم الوراثى من التأييد"!! ولعلى أتوقف
أمام هذه المعلومات والحقائق فى حينه, لأوضح أن حاضرنا فى ممارسة العمل السياسى له
جذور.. ولنعرف أن الفساد السياسى لا يحدث بالصدفة ولا عابرا.. فهذا منهج اعتمد
عليه "الحزب الوطني الديمقراطى" منذ أسسه "أنور السادات"
وطبقته "جماعة الإخوان" حين أطلت علينا بحزبها – الحرية والعدالة – ثم
تبنى المنهج ذاته برداءة أكثر "مستنقع وطن" لمحدودية كفاءة القائمين على
أمره, باعتباره حزب لا قيادة له!!
لكن عاملا مهما كان قائما آنذاك, يتمثل
فى وجود صحف تتمتع بقدرة مهنية وقدر من الحرية والشجاعة, جعل "البلاغ"
تتصدى "للتايمز" يوم 25 فبراير وتذكر: "إنهم يتحدثون عن الشعب
المصرى بصفات لا تتوفر سوى فى أمة من العبيد الأذلاء.. أمة فقدت الشعور بكل نزعة
شريفة وكرامة قومية.. ثم تجعل من الوزارة الحالية حاكما خليقا بهذا الشعب"
وضمن تحليلها فندت ما نشرته الجريدة البريطانية, وأنهته بأن الشعب سيرد عليكم يوم
الانتخابات.. وقد حدث فعلا.
وتحدث "سعد زغلول" أمام وفد
كان يزوره فى بيته, ونشرت كلامه الصحف قبل ساعات من انطلاق التصويت فى الانتخابات,
فقال: "الاجتماعات للوفديين عليها تضييق, وهذا لا يؤثر فينا لعلمنا أن الأمة
تلتف حولنا.. أما الذين يكثرون من الاجتماعات وإلقاء الخطب وتعليق اللافتات,
فالأمة كلها تعلم أنهم لا يقولون غير كذب صراح بواح"!! وعلقت جريدة
"الأخبار" على كلام "سعد زغلول" لتقول: "عاد سعد باشا
إلى الكلام, وقد عرفناه من زمن بعيد غير موفق فى كلامه.. وغير موفق فى صمته.. فهو
ليس رجل مبادىء, ولا حاكم سياسى.. وهو ليس الزعيم الصالح, وإنما هو رجل الظروف
والمصادفات"!! ومضت الجريدة لتكيل الاتهامات وتطلق السباب فى وجه "سعد
زغلول" لدرجة أنها قالت: "إنه يخترع طريقة جديدة للتضليل وما أبرعه فى
ذلك.. وأضف إلى ذلك أن سعد باشا فر من ميدان السياسة فرارا مخزيا أمام الانجليز,
وظل معتصما بالصمت خوفا وفزعا من بطش الانجليز"!! أما جريدة
"السياسة" فكتبت: "أى ممثل أكثر مهارة من سعد زغلول؟! هو فى فن
التمثيل فتى ليس له ند.. لكن عزيمة الممثل ضعفت وتداعت قوته, ولم يبق سوى أن يقدم
سفسطة مفضوحة"!!
التفاصيل كثرة ومهمة.. تحفظها ذاكرة
التاريخ فى كتب ووثائق وصحف.. كلها تؤكد أن الذين يشوهون زعماء مصر يطبقون منهجا
انجليزيا.. الذين يشوهون الشعب ويسيئون إليه يطبقون منهجا استعماريا مدروسا..
الذين يمارسون الفساد والإفساد السياسى, يعلمون أبعاد دورهم المرسوم بحرفية!! وكل
الذين راهنوا على أن أدوارهم يصعب كشفها, تفاجئهم دائما عظمة وإبداع المصريين
بتنويع أساليب الرد.. سواء كان الرد عاصفا, أو قاسيا فى نعومته!! ودائما ما تنتهى
تلك المعارك لصالح الأمة المصرية التى يستحق تاريخها أن نعود لنقرأه باعتزاز
وفخر..
ويجب أن نعترف بحقيقة تقول أن العبث
بالذاكرة الوطنية, وتشويه حقائق التاريخ يصادفها نجاحا حين يتمكن
"الهاموش" من مقدرات الإعلام والثقافة ومنابر المساجد.. وعندما يجلس
الصغار على مقاعد الكبار!!
على خلفية هذه الأحداث كانت بريطانيا
تنهى الوجود المصرى فى السودان, وهو الذى حدث على مراحل بدأت من نهاية القرن
التاسع عشر – 1899 – وذلك جعل جريدة "البلاغ" تنشر مقالا تقول فيه:
"إن الوزارة المصرية القائمة, لو كانت انجليزية من أبناء الانجليز الصميمين
لما استطاعت أن تصنع فى خدمة هذه السياسة الاستعمارية أكثر مما صنعته فى الأشهر
القليلة التى تولت فيها أمور البلاد"!! واستعرضت الجريدة أعمال الوزارة
واتفاقها مع سلطة الاحتلال على طرد الجيش المصرى من السودان.. وقبولها بعدم ذكر
اسم جلالته فى خطبة الجمعة.. ثم إبعاد الموظفين المصريين وعدم اشتراك الحكومة فى
أى أعمال للفصل بين شمال الوادى وجنوبه!!
التاريخ يعلمنا.. القراءة تنير طريقنا
وعقولنا.. ذلك هو السبيل للخروج من "مستنقع وطن" الذى وصلنا إليه..
وتبقى تفاصيل الانتخابات ونتائجها وما ترتب عليها, فيها ما يجعلك تنحنى تقديرا
للشعب المصرى..
يتبع
0 تعليقات