نصر القفاص
يروى "لامبسون" فى مذكراته عما حدث يوم 28 يناير عام
1943 فيقول: "إتصل بى النحاس فى السابعة مساء, فدعوته لمقابلة رئيس الوزراء –
تشرشل – وحضر بالفعل.. بدأ ونستون حديثه بالإعراب عن امتنانه لموقف مصر والنحاس
خاصة خلال الأيام العصيبة فى الصيف الماضى.. وتطرق رئيس الوزراء – تشرشل – لمسألة
الإمدادات مؤكدا الأهمية الحيوية لحصولنا على احتياجاتنا من مصر.. وهذا ما جعل
النحاس يعمد إلى أن يتحدث بإسهاب عن المصاعب الداخلية, وبوجه خاص كيف نتوقع الحصول
على ما نريد من مصر من الحبوب وغيرها.. إذا لم نقم بإمدادها باحتياجاتها من
الأسمدة.. بيد أن هذه التفاصيل لم تكن تعنى تشرشل.. تدخلت فى الحديث قائلا: إننى
والباشا سوف نناقش كافة التفاصيل التى نريدها.. فقال تشرشل: لا يعنينى سوى الحبوب,
ويتعين توفيرها على وجه السرعة باعتبارها عاملا أساسيا للمجهود الحربى"!!
مذكرات السفير البريطانى ليست مادة للتسلية.. لأنها عبارة عن وثاق
يحفظها أرشيف الخارجية البريطانية.. تم الإفراج عنها وأصبحت متاحة لمن يريد أن
يعرف ويفهم.. فما ذكره السفير عن لقاء "تشرشل" مع "النحاس"
واضح, ولا يحتمل تأويلا أو توضيحا.. فرئيس الوزراء البريطانى يطلب فى صيغة الأمر
"الحبوب" لصالح المجهود الحربى.. وسفيره لم يسمح باسترسال رئيس وزراء
مصر لكى يطلب الأسمدة!! وكان رد "تشرشل" هو التأكيد على أن ما يعنيه هو
الحبوب على وجه السرعة.. هل هذا رجاء أم طلب شراء؟! ذلك مجرد عنوان على أن بريطانيا
كانت تتعامل مع مصر على أنها بقرتها الحلوب!! وهو ما أكده "عبد الجليل
العمرى" أستاذ الاقتصاد المرموق قبل الثورة, والذى أصبح وزيرا بعدها حين قال:
"كان الاقتصاد المصرى بقرة يتم حلبها فى بريطانيا لصالحهم"!! وله فى ذلك
دراسات منشورة تم طمسها كغيرها, حتى يتيسر "لخدم الملكيه والاستعمار" أن
يسترسلوا فى الحديث عن قيمة الجنيه المصرى مقابل الاسترلينى والدولار.. وأن مصر
كانت تداين بريطانيا بما تملكه من ثروات.. والحقيقة الثابتة هى ثروات مصر.. كما أن
الحقيقة الثابتة – أيضا أن هذه الثروات كان يتقاسمها الاستعمار والملك وخدمهم فقط!!
لعلنا نتساءل.. لماذا يتم إخفاء كل هذه الحقائق والوثائق؟! وهذا
السؤال وحده كفيل بأن يعيد "الهرم المقلوب" إلى وضعه الصحيح.. فالإجابة
على السؤال تضفى تقديرا واحتراما مع كل الاعتزاز بثورة 23 يوليو وزعيمها "عبد
الناصر" وذلك ما يسعى "خدم الملكية والاستعمار" إلى محوه من الذاكرة
الوطنية.
يصل "لامبسون" فى صفحة من صفحات مذكراته إلى التأكيد يوم
23 يونيو عام 1944 خلال حديث له مع وزير الحرب البريطانى "لويس جريج"
لكى يقول: "إننى من المحتمل أن أكون قد أخطأت عندما لم أقم بإقصاء الملك تحت
ضغط الدبابات التى كانت تحاصر القصر, على نحو كان يكفينا مزيد من الأحاديث"!!
ثم يؤكد أن قادة بلاده كانوا يؤيدون ما يفعله فى مصر وبها!! حين يسجل عن يوم 26
نوفمبر 1943 أنه سمع من "تشرشل" قوله له: "لم أشعر بالقلق خلال
قراءة برقياتك التى كنت تبعث بها, لعلمى بأنك تحكم قبضتك على مقاليد الأمور..
وأشار إلى المصاعب التى صادفتنى فى الربيع الماضى من جانب كبار القادة, ووصف
موقفهم بأنه لم يكن محتمل على الإطلاق".
يعود بعد ذلك "لامبسون" للتأكيد على أنه أخطأ بعدم خلع
الملك عن العرش يوم 4 فبراير عام 1942 حين سجل فى مذكراته عن يوم 3 يناير عام 1944
واقعة أخرى يقول فبها: "حضر إلنا الأمير محمد على – ولى العهد – فى الثانية
عشرة ظهرا.. راح يحدثنى عن الملك الشاب ووصفه بأنه شخص حاقد.. غريب الأطوار.. وراح
يبرهن على ذلك بما حدث فى حفل أقامته الأميرة شويكار زوجة والده الملك فؤاد..
فعندما قام الأمير عبد المنعم بتهنئة الملك فاروق على شفائه بعد الحادث الذى تعرض
له فى القصاصين فما كان من الملك إلا أن قال أنه خاب أمله فى بعض من القوم, وأنه
سوف يثأر لنفسه منهم.. كان غريبا أن يقول لى الأمير محمد على على ذلك الكلام الذى
يفتقر للباقة والتعقل.. ذلك جعل جاكلين – زوجة السفير – تقول أنها على ثقة من أن
الملك الشاب سىء فعلا.. وذلك جعلنى أزداد شعورا بأن الحكمة كانت تقتضى منا التخلص
منه وتنحيته عن الحكم.. وأعتقد أنه كان يتعين علينا بالفعل إقصائه".
سيرة الملك "فاروق" تناولها عشرات من الساسة والمؤرخين..
كلهم أجمعوا على فساده وسطحيته وأن استمراره فى الحكم كلف مصر الكثير.. لكن
"خدم الاستعمار والملكية" يتجاهلون كل ذلك.. هم يعلمونه.. لكنهم يعرفون
أن دورهم هو قلب الحقائق, وهم يمارسونه بنشاط شديد!
يشرح "لامبسون" فى مذكراته أن حادث 4 فبراير عام 1942
كاد أن يتكرر خلال شهر ابريل عام 1944 عندما أراد الملك "فاروق" إقالة
وزارة "النحاس" وتناول تفاصيل تحذيراته له وأن قرار مثل هذا سيكلفه ثمنا
فادحا.. وتناول اتصالاته مع "لندن" حول الموضوع.. ثم يؤكد أن الملك
استمر مترددا فى اتخاذ القرار رغم مناوراته أملا فى أن يتمكن من إبعاد
"النحاس" عن الحكم.. حتى حدثت واقعة مدهشة.. فقد كان الملك
"فاروق" فى طريقه لآداء صلاة الجمعة, فشاهد لافتات تحمل عبارة
"يحيا الملك ويحيا النحاس" فى الشوارع التى كان يمر بها.. أصدر الملك
أمرا إلى حكمدار القاهرة بإزالة اللافتات.. نفذ الحكمدار الأمر.. تدخل فؤاد
"سراج الدين" وكان وزيرا للداخلية بأمر عكسى, وأوقف إزالة اللافتات..
إستشاط الملك غضبا واعتبر ذلك قمة الإهانة.. أعلن أنه سيقيل "النحاس"
مهما كان الثمن.. قدم "النحاس" استقالة وزارته, وتم الإعلان عن تكليف
"أحمد ماهر" بتشكيل وزارة ائتلافية صباح 9 اكتوبر عام 1944.. حدث ذلك
وقت غياب "لامبسون" عن البلاد.. كان قد غادر فى رحلة مع زوجته إلى
"جنوب إفريقيا" يوم 12 سبتمبر.. وتطورت الأحداث فى غيابه, وتم إعلان
تشكيل وزارة "أحمد ماهر" قبل وصوله إلى القاهرة.
أصل إلى ورقة شديدة الأهمية والوضوح فى مذكرات "لامبسون"
وتلك التى كتبها عما حدث يوم 17 فبراير عام 1945.. شهد هذا اليوم اجتماعا فى مقر
إقامة وزير الدولة البريطانى المقيم بالقاهرة.. حضره "ونستون تشرشل"
و"أنتونى إيدن" والسفير "لامبسون" مع الملك "فاروق"
وخلاله تحفظ "تشرشل" على الذهاب إلى محاكمة رئيس الوزراء "مصطفى
النحاس" بسبب ماورد فى "الكتاب الأسود" الذى أصدره "مكرم باشا
عبيد" وآخرين بعد خلافهم مع "النحاس" الذى فصلهم من
"الوفد" ويقول "لامبسون" عن ذلك: "تحدث فاروق ليقول أن
النحاس قد يكون تورط فى جرائم كبيرة.. إلا أنه لن يشجع على ذهابه لمحاكمة.. إنتقل
تشرشل بالحديث لكى يطلب من فاروق نهجا حاسما لتحسين الأوضاع الاجتماعية فى مصر..
وعمد إلى التأكيد على أنه ليس هناك مكان فى العالم يجمع التناقض بين الثروات
الهائلة والفقر الحاد على النحو الظاهر هنا فى مصر.. وأن الفرصة قد أصبحت مواتية
للملك الشاب لكى يهتم برفع مستوى المعيشة لشعبه!! فلماذا لا يأخذ جانبا من ثروات
الباشوات الأثرياء لتحسين مستوى المعيشة للفلاحين.. فرد الملك فاروق بأن ذلك ما
كان يفكر فيه بالفعل"
إستمر "الولد" يفكر ويفكر.. لأكثر من سبع سنوات!!
هذا رئيس وزراء بريطانيا يشير عليه أن يأخذ من الباشوات والأثرياء
لتحسين أحوال الفلاحين.. يحدثه عن التناقض بين الغنى الفاحش والفقر الحاد.. وعندما
حدث وفعلته ثورة 23 يوليو بزعامة "عبد الناصر" راحوا يقولون أنه خرب
البلاد, ويطلقون كذبة ساذجة بأنه بقانون الإصلاح الزراعى فتت الأرض الزراعية.. هم
يعلمون أن الأرقام هى الحقيقة بعينها.. تقول الأرقام أن "61" مالكا فقط
كان يملك كل منهم أكثر من ألفى فدان بينهم الملك "فاروق" نفسه!! وكان
هناك "28" يملك كل منهم أكثر من 1500 فدان.. وكان هناك "99"
مالكا لدى كل منهم ألف فدان.. و"92" مالك لدى كل منهم 800 فدان.. أى أن
"280" مالك كان بحوزتهم "583,400" خمسمائة ثلاثة وثمانين الف
واربعمائة فدان!! والملكيات التى تزيد عن 200 فدان كانت فى يد 2115 مالكا ومساحتها
1,3 مليون فدان.. بينما يوجد 2 مليون و309 ألف يملك كل منهم أكثر من فدان بمساحة
مليون و230 ألف فدان.
بالتأكيد "خدم الملكية والاستعمار" تزعجهم هذه الحقائق..
تكشفهم هذه المعلومات.. تخرسهم هذه المستندات والوثائق.. لكنهم يصمون آذانهم
ويرفعون الصوت بامتلاكهم ماكينات شائعات ودعاية عملاقة, لا تكف عن العمل لكى تحدثك
عن "زمن الليبرالية" الزاهر.. المزدهر.. والذى جعل "تشرشل"
رئيس وزراء بريطانيا نفسه ينفيه فى جلسة مباحثات رسمية مع "الولد الذى حكم
مصر" ويسجله سفير بلاده فى مذكراته وبرقياته المحفوظة فى أرشيف وزارة
الخارجية الانجليزية.. والمتاحة لمن شاء الاطلاع عليها!
الحقائق الصامتة كثيرة.. وكثيرة جدا.. والأكاذيب الصارخة تحولت من
تلال إلى جبال.. لذلك يجب أن نواصل قراءة بعضا من المعلومات والشهادات حول مصر فى
الثلاثينات والأربعينات..
يتبع
0 تعليقات