د/ آلاء ياسين الجواهري
العلوم الحقیقیة عند الشیخ علي جمعة
تأکید الشیخ علی إعادة العلوم الحقیقیة من القرآن، هو استذکاره بأن
العلوم نشأت من القرآن و لابد من متابعتها مرة أخری وهنا یذکر کیفیة نشوء العلوم
من القرآن شیئاً فشیئاً ویستند بقول السیوطي في کتاب الإتقان في علوم القرآن
قائلاً:
کانت علوم الأقدمین من الصحابة والتابعین ملکات کامنة في نفوسهم، راسخة
فیها؛ لتمکن السلیقة العربیة منهم و التي کانت تغنیهم في فهم القرآن عن تحصیل آلة
عملیة یحللون بها النص، فقرأوا القرآن فاستخرجوا منه العلوم الکثیرة، ففي مدی
التاریخ إعتنی به قوم بضبط لغاته، وتحریر کلماته ومخارج حروفه و... فسُمُّوا
(القُرَّاء)؛ و اعتنی (النحاة) بالمعرب و المبنی من الأسماء و الأفعال و... حتی إن
بعضهم أعرب مشکله، و بعضهم أعربه کلمة کلمة؛ و أعتنی (المفسرون) بألفاظه، فوجدوا
منه لفظاً علی معنی واحد، و لفظا یدل علی معنیین و... و أعمل کل منهم فکره، بما
اقتضاه نظره؛ و اعتنی (الأصولیون) بما فیه من الأدلة العقلیة، و الشواهد الأصولیة،
و النظریة فاستخرجوا منه علم أصول الدین و علم أصول الفقه؛ و أحکمت طائفة صحیح
النظر، و صادق الفکر، فیما فیه من الحلال و الحرام و سائر الأحکام، و سموه بـ(علم
الفروع و الفقه)؛ و تلمحت طائفة ما فیه من قصص القرون السالفة، و الأمم الخالیة،
نقلوا أخبارهم، ودونوا آثارهم و وقائعهم، حتی ذکروا بدء الدنیا، و أول الأشیاء،
وسموا ذلک بـ (التاریخ)؛ و تنبَّه آخرون لما فیه من الحکم والأمثال و المواعظ التي
تقلقل قلوب الرجال، وتکاد تدکدک الجبال، فاستنبطوا مما فیه من الوعد والوعید
فصولاً من المواعظ وأصولاً من الزواجر؛ فسموا بذلک (الخطباء و الوعاظ)؛ و أخذ قومٌ
مما في آیه المواریث، من ذکر السهام و أربابها، و غیر ذلک: (علم الفرائض)، و
استنبطوا منها من ذکر النصف، و الثلث، و الربع، و السدس، و الثمن، حساب الفرائض،
ومسائل العول؛ ونظر قوم إلی ما فیه من الآیات الدالات علی الحکم الباهرة، في اللیل
و النهار، والشمس والقمر ومنازله و... فاستخرجوا منه: (علم المواقیت)؛ ونظر
(الکتّاب و الشعراء) إلی ما فیه من جزالة اللفظ و بدیع النظم و حسن السیاق و
المبادئ و... فاستنبطوا منه: (المعاني و البیان والبدیع)؛ ونظر فیه (أرباب
الإشارات، وأصحاب الحقیقة) فلاح لهم من ألفاظه معان ودقائق، جعلوا لها أعلاماً
اصطلحوا علیها، مثل: الفناء و البقاء، و الحضور، و الخوف والهیبة، والأنس و
الوحشة، والقبض والبسط، وما أشبه ذلک. و هذه هي الفنون التي أخذتها الملة
الإسلامیة منه.
وهذه عبارةٌ جیدةٌ في تصویر لمحات من النشاط العلمي الفائق، الذي
قامت به الأمة في خدمة النص القرآني الممجد، و کیف أنها استخرجت منه علوماً و
معارف بلغت الغایة في الکثرة و التنوع. و لذا فقد تغلغل القرآن الکریم في علوم
الأمة، و مناهجها، و مصادر معرفتها، و هویتها، و سلوکها و تاریخها، و أورث
المسلمین مناهج علمیة محررة، بنیت علی أصلین راسخین هما: الوحي، الذي هو القرآن و
ما نشأ علی ضفافه من علوم، و الواقع و ما إلتحق به من التجربة و الإستقرار و
التأمل، فأبرزت الأمة علومها المبنیة علی مصادرها و مناهجها و نظرتها للکون و
الحیاة، و ما استتبعه ذلک من تاریخ و تجربة بشریة راقیة.
فهذه حال ما مضی من علماءنا فیردُّ علی العلوم المستحدثة و أثرها
علی المسلمین بقوله:
و قد نشطت في ذلک أمم أخری، فأسست علوماً و معارف علی منهج مختلف،
ومصادر قاصرة، وفلسفة أخری، ورؤیة مغایرة للکون والحیاة، ثم وفدت علینا تلک العلوم
والمناهج في وقت لم تکن الأمة فیه في عافیتها وتمام قدرتها علی الاستيعاب
والانتقاء؛ فأحدثت إرتباکاً ما زلنا نعیش آثاره إلی یومنا هذا.
یحرض الأستاذ علي جمعة المسلمین لأسلمة العلوم و له کلام في غایة
الأهمیة في قضیة تولید العلوم و هي:« تولید العلوم فرض علی المسلمین» سواء العلوم
الإنسانیة أو غیرها و استدل في هذا المجال بأن:
تلک العلوم الوافدة، للقرآن فیها منهج ومسلک، وفلسفة و رؤیة؛ مما
یوجب إعادة بناء تلک العلوم بطریقة تناسب خصوصیتنا و مصادرنا و رؤیتنا. فإذا ما
أراد أحد أن یوجد علاقة بین تلک العلوم علی حالها و بین القرآن زاد الأمور
ارتباکاً.
أنواع العلوم وعلاقتها بالقرآن عند الشیخ علي جمعة
یصرّح الشیخ بأنّه لابدّ من اعتبار العلوم الموجودة وبتعبیره
الوافدة، لکي لانتنازع في أصولها أو فروعها، لکن نعید بناءها بطریقة متلائمة تناسب
القرآن و یمکن التمسک به؛ وعدم الإعتبار به یسبّب إزدیاد الإرتباک في الأمة و
دینها، ویستدلّ علی تبیین العلاقة بین تلک العلوم و القرآن مشاراً:
فالقرآن الکریم قد جاء ببعض العلوم صراحةً، و ببعضها ضمناً، و
ببعضها تلمیحاً أو إشارةً، و کفَّ عن البعض الآخر، أو نهی عنه لمنافاته لمقاصده،
فکان لابد من تفصیل دقیق في صور إرتباط العلوم بالقرآن، لأن نسبة العلوم إلی
القرآن متفاوتة، فبعضها مرتبط بالقرآن إرتباطاً صریحاً، و بعضها مرتبطٌ به
إرتباطاً غیر أصليٍّ و لا مباشر.
و بکلامه هذا نستطیع أن نقسِّم العلوم إلی قسمین: ما صرَّح به
القرآن (تصریحاً أو تلویحاً و تلمیحاً أو إشارة)، وما لایصرِّح به (کفّاً أو
نهیاً)؛ و بهذا یبیِّن لنا نسبة العلوم بالقرآن (ارتباط صریح أم إرتباط غیر أصلی و
غیر مباشر) و في تبیین هذا الموضوع یستفید من تقسیم طاهر بن عاشور في تفسیره
التحریر و التنویر للعلوم و یقول:
لا أجود و لا أتقن عندي من تعبیر العلامة الطاهر بن عاشور عن صور
تلک العلاقة، حیث قال: إن علاقة العلوم بالقرآن علی أربع مراتب:
الأولی: علوم تضمنها القرآن، کأخبار الأنبیاء و الأمم، و تهذیب الأخلاق،
والفقه والتشریع و الاعتقاد والأصول، والعربیة والبلاغة.
الثانیة: علوم تزید المفسر علماً، کالحکمة والهیئة وخواص المخلوقات.
الثالثة: علوم أشار إلیها أو جاءت مؤیدة له، کعلم طبقات الأرض، والطب،
والمنطق.
الرابعة: علوم لاعلاقة لها به، إما لبطلانها کالزجر والعیافة، و
المیثولوجیا و إما لأنها لاتعین علی خدمته کعلم العروض و القوافي.
العلوم المصرحة، صدام أو وئام عند الشیخ علي جمعة
یحاول الشیخ أن یستخرج العلوم الإنسانیة من خلال قصص القرآن؛ و یعتقد أنها جاءت
لصناعة أصول و أسس، یبنی علیها الحیاة و یلائم به بین العلم و الدین، و یراها من
القسم الأول الذي صرّح به القران تلویحاً، ففي مقدمة تفسیره یستند بآیات القرآن
خلال قصة نبي الله شعیب في مقابلة العلمانیة، قائلاً:
فکرة العلمانیة وفصل الدین عن مجالات الحیاة لیست حدیثة، أو ولیدة
عصور النهضة الأروبیة، بل هي منهج فکري بشري قدیم، برز عند شعیب علیه السلام، فقد
حکی القرآن عنهم، أنهم « قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ
نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ
إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ»، فهم یتعجبون بوجود علاقة بین الصلاة
وبین إدارة الأموال، و أوجه التعامل معها، فقد جاء قوم شعیب فوق الکفر ببلیة أخری،
و هي أنهم لایرون رابطاً بین التقوی والصلاة والصلاح وبین الشئون المالیة، وکأنهم
یقولون: لارابطة بین الدین وبین الإقتصاد؛ فإن قصة شعیب أرقی منهج نبوي قرآني ناقش
قضیة العلمانیة، و أبرز المحاور المهمة التي تفکک تلک الفکرة، وتبین فسادها و
ضررها، وتأتي بالبدیل الرباني، و التوجیه الإلهي في هذا الصدد، و بهذا یتسع لنا
مجال آخر في فهم أسباب إخیار سبحانه تعالی لقصص معینة من قصص الأنبیاء، حیث قال
تعالی:« وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا
عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ
بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ
وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ» و کأنّ تلک القصص المنتقاة، التي أوردها
القرآن، تناقش روؤس القضایا الإنسانیة، وأصول النظریات الفلسفیة، فیمکن الإکتفاء
بها.
وعدم الترکیز علی اللغة العربیة و بلاغة القرآن یدفعنا إلی التفکیر
الخاطئ والإستنتاج الخاطئ کما استنتج الدواعش؛ ویشرح الشیخ علي جمعة هذا الإستنتاج
الخاطئ في لقاء تلفزیوني قائلاً:
التعارض حدث بین الحقیقة العلمیة وبین الناظر، فیاتي الداعشي
–توجیهاً لأفعاله- ولأن له حاجة من الآیة، فیستند بها «قاتلوا في سبیل الله الذین
یقاتلونکم . ولا تعتدوا أن الله لایحب المعتدین» فأقول له:
أولاً قاتلوا و لم یقل أقتلوا و هناک فرق بینهما.
ثانیاً یقول في سبیل الله و لیس من قبلک و الآخر، قاتلوا الذین
یقاتلوکم ... یعني هذا دفاع و لیس عدوان وفي الآیة حقیقة لاتنسخ و لایمکن أن
لانلفت إلیه، و هو: «... ولاتعتدوا، إن الله لایحب المعتدین» ولایوجد مکان من
القرآن أن یذکر الله یحب المعتدین، بل أنت خالفت النص، قتلتَ المسیحي و ذبحت
الایزیدیة وأیضاً المسلمین، و أنت تدعي إنک ولد طیِّب، لکن أنت المشکلة، و فهمک للقرآن
هو المشکل، و حمله علی غیر ما هو له.
وفي الرد علی من یقدِّم الرجل علی المرأة ( کما کان في السابق) أو
تعزیز المرأة و أخذ حقوق المرأة بإسم بعتبر من سمات عصرنا الراهن، فیعتقد أن هذا
النزاع و الصدام ینشأ من عدم فهم السنن الإلهیة المذکوره في القرآن وما یطابق غایة
الخلق.
خلق الله سبحانه و تعالی الأکوان مختلفة في ظاهرها، ولکنها متحدة
في الهدف والغایة، فهذا الخلاف و الإختلاف إنما هو التنوع ولیس للتضاد، فاللیل
والنهار یشکلان یوماً واحداً، لکل منهما خصائص، و الذکر و الأنثی لکل منهما خصائص
ولکل منهما وظیفة، ...، وأغلب الثنائیات الخلقیة أو القدریة ...
وبعد ما یییّن الخلقیة و تمایزها بالقدریة وأدلة تسمیتها، فیعیّن
مجال الصراع قائلاً:
أن فهم سنة التکامل یجعل أصل الخلق عند المسلم هو التکامل و لیس
الصراع، ولذلک یفهم العلاقة بین الذکر و الأنثی علی أنها خلقت للتکامل، بخلاف
التوجه الذي یدعو إلی أن الأصل هو الصراع، و أنه یجب علی المرأة أن تصارع الرجل
لتحصل علی حقوقها، و أن الإنسان یجب أن یصارع الکون حتی یحصل منه منفعته، علی ما
إستقر في الفکر الإغریقي من فکرة صراع الآلهة وإنتصار الإنسان في النهایة علیها.
وفهم سنة التکامل لاینفي حدوث الصراع أو إمکانیة حدوثه و وقوعه،
ولکن هناک فرق بین أن نجعله أصلاً للخلیقة لا یمکن الفرار منه، وأن نجعله حالة
عارضة یجب أن نسعی لإنهائها حتی تستقر الأمور علی الوضع الأول الذي خلقه الله.
هذا التکامل هو الذي یفرق عند فهمه بین المعنی الروحي للجهاد في
سبیل الله و الحرب التي تشن هنا وهناک لأجل المصالح والهیمنة والإستعلاء في الأرض
والفساد فیها.
إن دراسة السنن الإلهیة أصبح واجباً یمکن أن یفید الإنسان و
الإنسانیة بنظرة جدیدة لمجموعة العلوم الإجتماعیة والإنسانیة، و یمکن بهذه النظرة
أن تتهیَّأ لتجدید واعٍ للخطاب الدیني.
إن تولید العلوم، و الذي توقف في القرن الرابع الهجري، وتولید
الحضارة منها علی مقتضیات العصر الذي نعیشه هو الأصل في تجدید الخطاب الدیني
بعیداً عن الجهالة وعن الأماني وعن الآمال التي قد تخطر ببالنا مع کسل مریع في
تحصیل العلم.
0 تعليقات