آخر الأخبار

"محمد نجيب" الذى لا يعرفه المصريون!! (3)

 





 

نصر القفاص

 

 

ترك "محمد نجيب" الجيش إلى البوليس لما يقرب من عام ونصف.. وهو يسمى الواقعة التى جعلته يقرر العودة للجيش بأنها "قصة مسلية" لكننى أراها "قصة مريبة"!!

 

دعك من رؤيتى.. تعالى نركز فى نص قصته المسلية.. هو يقول: "كنت أقوم بمرور فى دائرة قسم مصر القديمة.. فوجئت بولد يصرخ ويبكى ويقول.. سرقونى.. سألته: ماذا حدث؟! قال: الحرامية اعتدوا على وسرقوا طاقيتى وبها 6 قروش.. على الفور فتحت له محضر, واعتبرت ما حدث جناية سرقة بالإكراه.. هنا صاح أومباشى الدورية: هل هذا كلام يا فندم.. محضر وجناية ونيابة علشان 6 قروش؟! وجدت أن عنده حق.. قطعت المحضر من دفتر الأحوال, وعندما عرف المأمور ما حدث.. طلبنى فى الثالثة صباحا وقال لى: إن تمزيق دفتر الأحوال جناية.. هكذا أردت أن أخرج من حفرة.. فإذا بى أحفر لنفسى حفرة أكبر منها.. تركت البوليس, وعدت مع الأورطة 13 السودانية"!!

 

بهذه البساطة كان يمكن للرئيس الأسبق التنقل بين الجيش والبوليس.. وبهذه البساطة إرتكب خطأ بديهى فى عمله فى البوليس.. لدرجة أن "أومباشى" الدورية كان يفهمه.. ثم ببساطة يتراجع ويمزق المحضر, وتلك جريمة.. لكنه ببساطة أيضا عاد للجيش, ومن مصر إلى السودان.. هناك كانت له واقعة نضال وطنى ضد الانجليز.. كتبها هكذا: "أردت الانضمام إلى وحدة مدافع الماكينة, لأحصل على فرقة استخدام الأسلحة الأوتوماتيكية.. إعترض ناب بك قائد الوحدة بقوله: نحن لا نقبل المصريين.. قلت له: هذا كلام فارغ.. إنت ضابط مثلى فى الجيش المصرى, حتى لو كنت إنجليزيا.. إذا رفضت قبولى, سأرسل برقية إلى الملك.. فلا فرق بين الضباط من مصر أو السودان.. فقال: يقبل استثنائيا.. وطلعت الأول"!!

 

لاحظ أنه يؤكد دائما على أنه متفوق.. ربما كان الأمر كذلك.. لكنه بعد هذه الفرقة على حد حكيه فى مذكراته: "جاء تلغراف لى يبلغنى أننى تم نقلى إلى الحرس الملكى فى القاهرة.. كان الملك هو فؤاد الأول"!!

 

كل ما أذكره هو نقل حرفى مما كتبه الرئيس "محمد نجيب" ليكشف الكثير مما لم يتم التحقيق فيه بعد عزله, وانتهاء دوره كجملة عابرة فى ثورة 23 يوليو.. فالرجل يعود للجيش فى السودان لعدة أشهر, ثم يتم اختياره للحرس الملكى.. والرجل كان يملك القدرة على تهديد قائد انجليزى ما لم يتم قبوله فى الفرقة!! ونسى أن مدرسيه جلدوه ثلاث مرات من قبل, فما بالنا بما يحدث فى الجيش الذى قال بنفسه أنه كان يستخدمهم كعمال فى الحفر والردم.. لكننا يجب أن نتوقف أمام هذه المحطات, لكى نتعرف على أول رئيس لمصر وشخصيته من خلال أوراقه ومذكراته المنشورة.. ولعلى أتجاوز عن حكايات وتفاصيل بعينها, حتى لا أسقط فى بئر السخرية وأفجر الضحكات.. ومن أراد ذلك عليه بقراءتها فى الكتاب الذى لا ينفذ من المكتبات!!

 

يقول "محمد نجيب" أنه خلال فترة خدمته فى الحرس الملكى.. وقعت جريمة السير "لى ستاك" الذى تم اغتياله فى القاهرة عام 1924, والتى أصدرت سلطات الاحتلال بعدها بيانا طالبت فيه باعتذار حكومة مصر وكان يترأسها "سعد زغلول".. وأعلنت فرض غرامة مالية قيمتها 50 الف جنيه تدفعها مصر.. وطلبت منع المظاهرات, والإبقاء على المستشارين الانجليز الذين كانت حكومة "سعد زغلول" قد قررت الاستغناء عنهم.. وفى السودان أسرع الجيش الانجليزى بمحاصرة القوات المصرية التى كانت هناك, وتقرر إعادتهم إلى القاهرة!! وهنا يجب أن ألتزم بالنص الذى قال فيه: "كأغلب المصريين.. أحسست بالندم على اغتيال السردار, وكنت من المؤيدين لعقاب أى شخص ساهم فى ارتكاب هذه الجريمة.. لكننى فى نفس الوقت حقدت على اللنبى – المندوب السامى – لأنه نفذ كل ما أراد"!! ثم يكشف سبب طرده من الحرس الملكى بعدها, فيقول: "ذهبت إلى سجن الاستئناف بباب الخلق, لزيارة أصدقاء سودانيين تم اعتقالهم بسبب الاغتيال.. ولأننى كنت أرتدى الزى الرسمى للحرس الملكى, رفض صفوت بك مدير السجن أن يسمح لى بزيارة متهمين بالتمرد والشغب.. إنتظرتهم على الباب حتى خرجوا, ودعوتهم لتناول الطعام معى فى مقر الحرس الملكى داخل قصر عابدين"!!

 

تخيلوا معى أنه يمكن لضابط بالحرس الملكى, أن يدعو مفرج عنهم فى قضية سياسية إلى القصر الملكى.. وتخيلوا أن "محمد نجيب" ذكر تلك القصة التى لا يصدقها عقل, ليضيفها إلى نضاله الوطنى فى شبابه!! ولم يترك صاحب كتاب "كنت رئيسا لمصر" هذه الفترة فى حياته دون أن يحدثنا عنها, فيقول: "أيام الحرس الملكى جعلتنى أقترب من فساد الحكم فى مصر, وأسعى بكل قوتى للتخلص منه" أى أنه قرر السعى للتخلص من الحكم الذى وصفه بالفاسد, إعتبارا من عام 1924 وقت أن كان "فؤاد الأول" يجلس على العرش!! ويذكر: "عرفت أن الملك فؤاد كان قبل توليه العرش لا هم له غير إنفاق الأموال واصطياد النساء.. وبعد أن ارتقى للعرش كان يجمع المال بكل الطرق!! وهو لم يكن ملكا بمعنى الكلمة.. وكان يوحى للآخرين بأنه يفعل كل شىء فى الدولة.. وهو الذى أعلن نفسه ملكا على السودان وهذا أزعج الانجليز الذين جعلوه أول ملك فى تاريخ مصر الحديثة.. أما الملكة نازلى فكانت طيبة, رغم نزواتها التى اشتهرت بها"!!

 

لماذا وصف "محمد نجيب" الملكة "نازلى" بأنها طيبة؟!

 

هو يكشف السر فى مذكراته فيقول: "كانت أمى وأختى مدعوتين فى حفل شاى لأسر ضباط الحرس, بمناسبة افتتاح البرلمان فى قصر عابدين.. لكن بدلا من أن تدخلا مقر الحرس.. دخلتا الحرملك.. وجدتا نفسيهما داخل جناح الملكة والأميرات.. إستقبلهما أحد الأغوات وأوصلهما إلى الملكة, بعد أن تصور أنهما جاءتا للسلام عليها!! قدمت أمى لها كارت يحمل اسمى كنت قد أعطيته لها ليسمح لها بدخول القصر.. إستقبلت الملكة أمى وأختى, وفهمت الكارت خطأ.. لم تتصور أن محمد نجيب ضابط فى الحرس.. تصورت أنه باشا من باشوات مصر.. وفى هذه الليلة بكت أمى على الخطأ الذى وقعت فيه, وتصورت أنهم سيعاقبوننى.. أما أنا فقد كنت مكسوفا أن تاتى الملكة إلى بيتنا المتواضع جدا"!!

 

تلك القصة نقلتها من مذكرات "أول ريس لمصر" ولا أظنها تحتاج إلى تعليق.. ولعلك تريد أن تعرف كيف خرج من المأزق؟!

 

هو حكى – أيضا – بقية التفاصيل, فقال: "بعد عدة أيام جاء ضابط بوليس إلى بيتنا, وأعلن وصول بعض الوصيفات كمقدمة لوصول الملكة.. هنا شرحت للضابط الخطأ الذى وقع فيه, وطلبت منه أن يعتذر للملكة ويشرح لها بطريقة مهذبة ما حدث.. ولم تأت الملكة, ولم يعاقبنى أحد"!! لك بعد ذلك أن تضحك.. تندهش.. لا تصدق.. هذا شأنك.. لكنها مكتوبة فى مذكراته, وتكشف لك الشخصية وسرها فى شبابه.. وستجد فى المذكرات ما هو أكثر من ذلك.. ومطلوب منك أن تعتبر كل ذلك نضالا وطنيا, وفكرا سياسيا عميقا.. إضافة إلى خبرات عسكرية متأصلة, جعلته يقود الثورة ويستحق أن يكون أول رئيس بعد سقوط الملكية!!

 

بعد طرده من الحرس الملكى.. يقول: "واصلت دراستى وحصلت على ليسانس الحقوق فى مايو 1927, وتزوجت لأول مرة.. ثم قررت أن أحصل على الدكتوراة.. بدأت بدبلومة فى الاقتصاد السياسى عام 1929, ثم دبلومة فى القانون الخاص عام 1931.. ثم بدأت فى تحضير الدكتوراة عن العنصر الإنسانى فى الجيش" – لاحظ أن موضوعه للدكتوراة كان سيقدمه لكلية الحقوق – لكن انشغل, ولا يفوته أن يتذكر: "وقت دراستى كان نجيب الهلالى يجلس إلى جوارى.. تعرفت عليه.. لم أتصور أن يكون رئيسا للحكومة التى كانت يوم 23 يوليو 1952 تحكم مصر – الحقيقة أن الهلالى كان مكلفا بتشكيل الحكومة – والتى كان على إسقاطها"!!

 

كان عليه إسقاطها!! هو يقول ذلك بالنص

وإذا كان ما سبق من قصص وحكايات قد ذكرها "محمد نجيب" فى مذكراته, فما سيذكره بعد ذلك يفوق قدرة أى قارىء على استيعابه.. لكننى أعتقد فى ضرورة قراءة مذكراته ودراستها, حتى لا تتفاقم حالة "الرئيس المظلوم" التى تم رسمها بعناية, وجرى ترويجها حتى وصلنا إلى مرحلة وضعه فى مكانة قائد الثورة!! والحقيقة التى كتبها بيده تنفى ذلك, نفيا قاطعا.. كل ضباط يوليو كانوا يعرفون ويعلمون أنه مجرد "جملة عابرة".. وكل من كتب مذكراته وقال شهادته أكد ذلك.. لكن منهج صناعة "رجل مفترى عليه" إستمر متجاهلا الحقيقة.. متجاهلا حتى مذكراته التى تثير المئات من علامات الاستفهام حول شخصيته وسرها.. فإذا كان الرجل الذى كتب بيديه كل هذه القصص المسلية – وفق تعبيره – هو قائد ثورة 23 يوليو.. فذلك يعنى أن ما حدث كان فعلا بسيطا وساذجا!!

 

تؤكد ذلك حكاية تعرفه على "مصطفى النحاس" كما رواها فى مذكراته.. فهو يقول: "عندما قام الملك فؤاد بحل البرلمان, ومنع مجلس النواب من الانعقاد لمجرد أن أغلبيته للوفد.. قررت الذهاب إلى مصطفى النحاس, لأقول له أن الجيش وراءك.. رحت إلى بيته.. كان محاصرا بالبوليس والمخبرين.. لبست جلبابا سودانيا فوق البدلة العسكرية.. جاء البواب.. قلت له: تلغراف.. سألنى: فين التلغراف؟.. قلت: مافيش تلغراف وأريد مقابلة النحاس باشا.. قال لى: ياعم صلى على النبى.. إنت بتضحك على.. لم يوافق على دخولى.. رحت للبيت المجاور, وكان بيت حمد الباسل.. نطيت على بيت النحاس, فإذا بكلب وولف شرس يهجم على.. كاد أن يمزقنى, لولا أن أنقذنى البواب الذى اضطر لأن يوصلنى للنحاس.. طلعت على سلم خشبى إلى الدور العلوى.. وجدت النحاس باشا ومعه مكرم عبيد ومحمود فهمى النقراشى.. قلت لهم: أحمل لكم رسالة من الجيش.. الجيش مستعد لأى أمر توجهونه له.. سنكون أسرع من عود الكبريت فى الاشتعال.. سألنى النحاس: كيف؟! قلت: تريدون أن تقتحموا البرلمان وتدخلوا بالقوة.. قال مكرم عبيد: كيف؟! قلت: الأورطة التى تحرس مجلس الشيوخ, والأورطة التى تحرس مجلس النواب لن يتعرض أفرادها لكم.. بل أنهم مستعدون يفتحوا لكم الأبواب ويحلوا السلاسل.. فقال النحاس: أفضل أن يكون الجيش بعيدا عن السياسة, وأن تكون الأمة مصدر السلطات.. كانت مقابلة مثيرة ومرحة.. ولبست الجلباب مرة أخرى, وبمجرد أن خرجت للشارع.. كان مخبر سرى ورائى.. ظل يترصدنى حتى الثالثة صباحا.. ركبت حنطور حتى الجيزة, وقلت للعربجى بعد أن أعطيته جنيه: إمشى بهدوء لأنى هانط.. ومرت عربة المخبر دون أن ترانى.. رحت وحدتى"!!

 

لك أن تتخيل أن تلك القصة بالنص من مذكرات الرئيس "محمد نجيب" الرجل الذى ظلمته الثورة!! وتستمر قراءتى لمذكراته وحكاياته, لتعلم حجم الظلم الذى وقع على "أول رئيس لمصر"!!

يتبع

 

 "محمد نجيب" الذى لا يعرفه المصريون!! (2)

إرسال تعليق

0 تعليقات