محمود جابر
فى هذه الحلقة من إبطال دعوى الإبراهيمية ومحاولة التمدد، أو
الانطلاق من العراق باعتبارها مسقط رأس وموطن النبى إبراهيم وهو الأمر الذى سوف
ندحضه فى هذه الحلقة موضحين بما لا يدع مجالا للشك الموطن الحقيقى لإبراهيم الخليل
عليه السلام.. وفقا للتوراة ووفقا لقراءة النصوص ووفقا للآثار ... وكما تم تلفيق
مسقط رأس إيراهيم تم تلفيق نسب ( النمروذ) باعتباره كنعانيا، والحقيقة انه خلاف
ذلك فكيف يكون النمروذ كنعانيا ويكون ملكا على العراق؟!
إشكالية الوطن ( من آور إلى حور)
إن اشكالية موطن إبراهيم كانت وما تزال معلقة بين «أور
الكلدانيين»، أم «حاران»، أم «أرام النهرين» أم «فدان أرام»؟
وهل كان في أقصى جنوب العراق على الحدود العربية؟ أم في أقصى
الشمال داخل الحدود الأرمينية؟
تأتينا الرواية القرآنية بمزيدٌ من الأَخبارِ عن النبي إبراهيم
عليه السلام، لم تعرفها التوراة بالمرة، لعل أهمها أن إبراهيم عليه السلام كان
موحِّدًا، بينما كان أبوه عابدًا للأوثان صانعًا لها.
هذا إضافة إلى قصةِ تكسير إبراهيم عليه السلام لأصنام قومه، وما
ترتَّبَ على ذلك من حدثِ إلقائه في النار، ونجاته منها بأمر الله بلطف منه.
وما دار بينه وبين «نمروذ» من جدَلٍ حول صحيح العقيدة .
وأول ما يلفت النظر في روايات الإخباريين، هو اسم الطاغية الذي
ادعى الإلوهية، وهو«نمروذ بن كنعان»، ولم يرد في قوائم ملوك العراق القديم!!
أما الأهم فهو كونه «ابن كنعان».
وهنا نرى أن الإخباريون المسلمون هنا أكثر مجاملة للعبريين من
التوراة، التي قسمت شعوب الأرض عبر نسل النبي نوح بعد الطُّوفان، فقالت: إنه أنجب
«سام» الذي جاء من نسله الشعب العبري، و«حام» وأبناء حام هم: «كوش» الذي أنسل
الأحباش وسمر البشرة عمومًا،
و«مصرايم» الذي أنجب المصريين، و«كنعان» الذي أنجب الكنعانيين، ثم
تقول: «وكوش ولد نمروذ الذي ابتدأ يكون جبَّارًا في الأرض، وكان ابتداء مملكته
بابل وأورك وأكد وكلنة في أرض شنعار» تكوين ١٠: ٦–١٠.
والمعلوم أن التوراةَ تصب لعنتَها فوق رءوس أبناء حام عمومًا، من
مصريين وكنعانيين (فلسطينيين)، لكنها عادة تخص «كنعان» باللعنة باعتبار الكنعانيين
هم سكان فلسطين الأصليون، والمطلوب إبادتهم لصالح النسل العبراني من أبناء سام.
ومن هنا نعرف سر البركات التي تواتر استنزالها بالتوراة على رءوس
النسل السامي، لكنها هنا تقول: إن نمروذ الجبار هو من أبناء كوش، ويبدو أن
الإخباريين المسلمين لكثرة الاعتياد على سبِّ كنعان، رأوا من جانبهم أن يكون نمروذ
الكافر الجبار ابنًا لكنعان بالمرة، طالما قد تمَّ اختياره كمَصبٍّ لكل اللعنات،
دون إدراك حقيقي لما يترتب على ذلك من فهم في ذهن المسلم العربي!
وهكذا يكون عدو النبي إبراهيم اللدود هو ابن كنعان، وكفى بذلك
مبرِّرًا للاستيلاء على أرض كنعان من قبل العبريين، ولا ملامة.
بل إنهم بذلك ضامنون لتعاطف كل المؤمنين مع النبي إبراهيم، ضد مدعي
الإلوهية ابن كنعان الكافر ابن الكافر! أو التعاطف مع النَّسل العِبراني ضدَّ أهل
البلاد،
والعجيبُ أن يكون ابن كنعان ملكًا في العراق، ويهجر النبي بلاده
ليلجأ إلى بلاد أبيه كنعان في فلسطين!
وهنا نبدأ فى فك لعنة كنعان وأصلها تقول التوراة :
إنه بعد هبوط النبي نوح وأبنائه من الفلك.
ابتدأ نوح يكون فلاحًا، وغرس كرمًا وشرب من الخمر وتعرَّى داخل
خبائه فأبصر حام عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجًا، فأخذ سام ويافت الرِّداء ووضعاه
على أكتافهما ومشيًا إلى الوراء وسترًا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم
يُبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خَمره، علم ما فعَلَ به ابنه الصغير،
فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله سام وليكن كنعان
عبدًا لهم. تكوين ٩: ٢٠–٢٦
واستنزلوا اللعنات صبًّا على رأس كنعان بن حام، رغم أن الآثم في
القصة (إذا كان فيها إثم) هو حام الأب، وليس كنعان الابن!
وعودا على رحلة خروج ابراهيم
الركب الإبراهيمي المهاجر قد خرج من «أور الكلدانيين» على الشاطئ
الجنوبي لنهر الفرات، يقصد أرض كنعان الفلسطينية، مما يشير إلى أن الجزء الجنوبي
من العراق القديم كان هو موطن النبي إبراهيم.
والمفروض أن كنعان هي فلسطين الحالية، وهي بذلك تقع إلى الغرب من
«أور»، تفصلهما مسافة من بادية الشام الأردنية.
لكن الركب — دونما سبب واضح — يتحوَّل شمالًا، ويستمرُّ يضرب
مسافات وبلدانًا ومواطن، ويتجاوزها جميعًا دون توقُّف، حتى يصلَ إلى ما تسميه
التوراة «حاران»، وقد حدَّد الباحثون في التوراة موضع «حاران» المقصودة في أقصى
الشمال، داخل الحدود الأرمينية التركية القديمة.
وهنا لا مندوحةَ عن التساؤل:
لماذا التحول من الطريق المباشر والقصير إلى كنعان، وتجشُّمُ
مصاعبَ مضاعفة عدة أضعاف للوصول إليها عن طريق حاران؟
ناهيك عن أن هذه الرحلة التي ما كانت تستغرق على ظهور الحيوانات
أكثر من عشرين يومًا مع التلكُّؤ الشديد، قد استغرقت عن طريق حاران خمسة عشر
عامًا، أو أن هذه المدة — بالتدقيق التوراتي — هي الزمن الذي انصرَم، ما بين خروج
الركب من «أور» إلى أن وصل «كنعان»!
والأهم أن «حاران» تبدو في رواية التوراة، كما لو كانت محطة
ترانزيت معروفة، على الطريق من «أور» و«كنعان»، بينما الحقيقةُ أنها تقع إلى
الشَّمَال السورى ، بعيدًا عن الطريق بمسافاتٍ شاسِعة.
ثم ماذا تقصد التوراة بهذا الإرباك؟
الذي تضاعفه بالإشارة إلى مواطنَ أخرى للعشيرة الإبراهيمية، فتقول:
إن إبراهيم بعد استقرارِه في كنعان طلب من رئيس عبيده أن يأتيه
بزوجةٍ لولده إسحاق، من بين أهل موطنه وعشيرته، فما كان من العبد إلا أن ذهبَ من
فوره إلى «مدينة ناحور» (تكوين ٢٤)، وناحور جد إبراهيم، ونُفاجأ أن «مدينة ناحور»
لا هي «أور»، ولا هي «حاران»، إنما هي
«أرام النهرين»!
وإحباطًا للباحِث، فإن التوراة تقصُّ علينا رواية أخرى، فقد سار
إسحاق على الوفاء الإبراهيمي للأهل والعشيرة، إضافة للحفاظ على نقاء الدم العبري،
لذلك أمر ابنَه يعقوب بمغادرة كنعان، ليأتي لنفسه بزوجةٍ من بلاد الأجداد، أو كما
تقول التوراة: «فدعا إسحاق يعقوب وباركه وأوصاه، وقال له: لا تأخذ زوجة من بنات
الكنعانيين قم واذهب إلى «فدان أرام»، وخذ لنفسك زوجة من هناك، وإن يعقوب سمع
لكلام أبيه وأمه، وذهب إلى فدان أرام، فخرج يعقوب من بئر سبع وذهب إلى «حاران» (تكوين
٢٧: ١، ٢، ٧، ١٠).
فهل ثمة إرباك أكثر من ذلك؟
الإرباك سيد الموقف حتى الآن
بذهاب يعقوب الى موطن الأجدادِ للحصول على زوجة، بناء على نصيحة
أبيه والمفروض أن هذا الموطن هو «أور الكلدانيين»، لكن هذا الموطن يصبح في حديث
إسحاق «فدان أرام»،
ويسمع الابن المطيع نصيحة الوالدين طلبًا للرضى، وإخلاصًا للعرقية،
وحفاظًا على نقاء الدم العبري، فتؤكد التوراة أنه «ذهب إلى فدان أرام»،
لكن وبذات الإصحاح تؤكد أيضًا أنه «خرج … من بئر سبع وذهب إلى
حاران»،
هذا إضافة للموطن الذي ذهَب إليه إبراهيم من قبلُ للحصول على زوجة
لإسحاق، وهو «أرام النهرين بلد الجد ناحور» ونجد أنفسنا مع التوراة في متاهة من
الدروب، كل منها يؤدي إلى موطن محتمل للقبيلة الإبراهيمية:
«أور الكلدانيين» و«حاران» و«أرام النهرين» و«فدان أرام».
والغريب في أمر التوراة أنها بعد أن ذكرت «أور الكلدانيين» كمنطلق
للهجرة، «نسيتها تمامًا»، بينما استمرت تضرب على تأكيد الأصل الحاراني مرة،
والآرامي مرة أخرى.
أما الجملة التي لم تملَّ تأكيدَها فهي: أن إبراهيم كان «آراميا
تائهًا» (التثنية ٢٦: ٥).
إن حل مسألة «حاراني»، «أرامي» تكمن فى الحيثيين..
والحيثيون شعب قديم عاش في أواسط بلاد الترك القديمة، وقد تمكن من
إقامة دولة كبيرة شمالي بلاد الشام، بعد أن تمكَّن من القضاء على دولة كانت قائمة
في المنطقة كانت تُعرف باسم دولة «الحوريين» وحمل شعبها اسم الشعب الحوري، أما
الأرض نفسها التي قامت فيها الدولة الحيثية الطالعة، فكانت تعرف باسم بلاد الحور
ومن هنا يكمن الحل ....
فإذا كانت الدويلات الآرامية قد تناثرت بطول الحزام الشمالي الذي
عُرف ببلاد الحور، فإن ذلك يفسِّر لنا إصرار التوراة على القول بالأصل الحوري
والآرامي معًا للقبيلة الإبراهيمية، وعليه لا أعتقد أني أجافي الصواب إذا افترضت
أن حاران التوراتية، لم يقصد بها مدينة محددة بعينها (تلك التي تقع شمالي بلاد
الشام داخل الحدود الأرمينية، التركية القديمة).
قدر ما قُصِد بها في التوراة منطقة واسعة شاسعة، تضم مجموعة
الدويلات الآرامية (أرام صوبة، آرام النهرين، أرام معكة، فدان آرام، آرام بيت رحوب
… إلخ). تلك الدويلات التي ضمتها بلاد الحور، أو الحوريون.
وإن هذا الفرضَ يفسِّر لنا بوضوحٍ كاشفٍ ومضيء قول التوراة: إن
يعقوب خرج يقصد «فدان آرام» ليأتي لنفسه بزوجة، فذهب إلى «حاران»، ولا يبقى هناك
تضارب، فقد ذهب يعقوب إلى مدينة «فدان آرام» الواقعة في بلاد «حاران» أو بلاد
«الحور».
يتبع
0 تعليقات