نصر القفاص
قبل ساعات من تحرك "الضباط الأحرار" فى مصر, كانت صفارات
وزارة الخارجية البريطانية تدق بخبر عاجل.. تعيين الدكتور "محمد مصدق"
رئيسا للوزراء فى إيران, بضغط من القوى الوطنية, ليذعن الشاه!! وبمجرد إعلان بيان
"الحركة المباركة" صباح 23 يوليو, عادت صفارات الخارجية فى
"لندن" لتدق بخبر أقرب للزلزال فى مصر.. كان البيان باسم لواء أركان حرب
"محمد نجيب" الذى ذكر أنه "القائد العام للقوات المسلحة"!
فى بريطانيا يعلمون تفاصيل ما يجرى فى إيران وتطورات الأحداث.
لكنهم لا يعلمون شيئا عما حدث فى مصر.. كانوا يعرفون فقط اسم
"محمد نجيب", ويعرفون عنه أنه الرجل الهادئ.. البشوش.. الذى لم تظهر
عليه من قبل أعراض الاتجاهات الثورية.. ذلك فرض سؤالا عن هؤلاء الذين حوله!! وعلى
ضفاف هذا السؤال, كان هناك سؤال أهم.. من هو "الرجل القوى" وراء هذا
التحرك.. التفاصيل كتبها "محمد حسنين هيكل" فى كتابه "ملفات
السويس" أما كتاب "كنت رئيسا لمصر" فهو لا يذكر أية تفاصيل جادة عن
الأحداث, ولم يلتفت كاتبه سوى للثأر من "عبد الناصر" أولا ثم "ثورة
23 يوليو" بأكملها, ورفع رايات الحزن والأسى على ضياع الديمقراطية التى يعتبر
نفسه رسولها مع "جماعة الإخوان" و"حزب الوفد"!
يحكى "محمد نجيب" فى مذكراته ليقول: "اتصل بى فريد
زعلوك.. سألنى: ما هى مطالب الجيش؟.. قلت له: نحن نطالب بتكليف على ماهر بتشكيل
الوزارة, وبتعيينى قائدا عاما للقوات المسلحة.. ونطالب بطرد محمد حسن – شماشرجى
الملك – وحلمى حسين – السائق الذى أصبح أميرالاى ومليونير – وأنطوان بولى – مدير
الشئون الخاصة للملك -.. وقدمت هذه الطلبات لجس نبضه واختبار قوته, فلو قبلها عرفت
أنه فى مركز ضعيف وأنه لا يستند إلى قوات انجلترا فى مصر كما سمعت".
هكذا نرى من حكاية "محمد نجيب" قيامه بجولة فى سيارة
مكشوفة, إلى مطالبه التى هى مطالب الجيش.. وبالتأكيد فإن الأحداث لم تمض بهذه
الخفة.. لكنه يرويها على هذا النحو.. وأعترف بأننى تدخلت فى النص الذى كتبه,
لتحديد صفات الأشخاص الذين قال أنه طالب بطردهم, لأنه ذكر أسماءهم فقط!! والمدهش
قوله أن ضمن المطالب تعيينه قائدا عاما للقوات المسلحة, وفات عليه أن البيان الأول
للانقلاب أو الحركة التى أصبحت "ثورة" كان موقعا منه بصفته قائدا عاما!!
الحقيقة أن اللواء أركان حرب "محمد نجيب" عندما حضر لمقر
القيادة العامة للقوات المسلحة, كان من يدير المشهد والذين حوله مشغولين فى كل
ثانية.. وهو كانت سعادته بالغة بهذا الانتصار.. كان ممنوعا الدخول فى أى حوار أو
مناقشة أى أمر دون العودة إلى "جمال عبد الناصر" الذى أراد تأكيد
السيطرة, بتجهيز موكب للقائد العام – محمد نجيب – ليقوم بجولة فى العاصمة عند
العاشرة والنصف, وأن يصحبه فى جولته الأميرالاى "أحمد شوقى" الذى أصبح
قائدا للمنطقة المركزية منذ فجر اليوم.. دفع ذلك عيون السفارة البريطانية إلى الشك
فى أن "أحمد شوقى" قد يكون هو الرجل القوى بين الذين تحركوا.. ابتعدت
أعينهم من على "أنور السادات" الذى أذاع البيان الأول, وكانوا يعرفونه
منذ اتهامه فى قضية اغتيال "أمين عثمان".. ثم تحولت المسألة إلى لغز
بظهور آخرين على المسرح خلال ساعات.. بينهم أسماء: "زكريا محيى الدين",
و"عبد الحكيم عامر", و"حسين الشافعى", و"كمال الدين
حسين", وغيرهم.
لكن واحدا فقط.. لم يظهر باسمه أو صورته.. هو "جمال عبد
الناصر".
بسرعة كتب "جولبرن" الملحق العسكرى البريطانى فى القاهرة
إلى وزارة الحربية فى "لندن" برقية, قال فيها: "القيادة الحقيقية
فى يد مجموعة من الضباط الوطنيين المهتمين بالإصلاح الداخلى فى مصر.. وكلهم فى سن
الشباب وتنقصهم الخبرة والتجربة".. ومن السفارة البريطانية صدرت برقية كتبها
"كريسول" القائم بالأعمال إلى وزارة خارجية بلاده.. ذكر فيها:
"إنهم مجموعة من الشباب ومعظمهم من البلطجية المتأثرين بالشيوعيين والإخوان
المسلمين, ولابد أن نكون على حذر من تصرفاتهم فى الأيام القادمة"!!
تلك وثائق أصبحت متاحة للاطلاع, وتناولتها كتب ودراسات عديدة.. ولم
يظهر فيها أى مسئول عسكرى أو بريطانى ذكر شىء عن أسماء القائمين على هذا
"الانقلاب" أو "الحركة" رغم تصدر اسم "محمد نجيب"
للواجهة وصدور البيان الأول باسمه كقائد عام للقوات المسلحة!
بسرعة وخفة شديدتين سنجد أن "أول رئيس لمصر" كتب فى
مذكراته ليقول للقارىء أنه كان هو القائد وصاحب الأمر والنهى.. بل والفكر أيضا..
فيذكر: "شرحت مطالب الجيش لعلى ماهر.. سألنى: إنتو ناويين توصلوها لغاية
فين؟!.. قلت له مداعبا: إلى حد أن تصبح أول رئيس جمهورية لمصر!!.. وفى الساعة
الثانية والنصف تم الإعلان عن قبول استقالة نجيب الهلالى بعد يوم واحد فى الحكم..
وبعد ثوان اتصل بى على ماهر وقال: الملك كلفنى بتشكيل الوزارة.. ثم طلب منى أن
أزوره فى بيته.. ذهبت إليه بعد أقل من ساعة مع ستة من ضباط القيادة فى موكب تسير
أمامه وخلفه سيارات الحراسة"!!
لك أن تتخيل لو أن شابا أو ساذجا قرأ التاريخ على هذا النحو.. بغض
النظر عن مدى مصداقيته.. الكارثة أن "خدم الاستعمار والملكية" لا
يستندون إلى غير هذه الحكايات الساذجة, فكاتبها هو "أول رئيس لمصر"!!
فإذا كان "محمد نجيب" هو الذى يحرك الأحداث ويحدد المسارات.. لماذا تحرك
معه ستة من ضباط القيادة؟! طبعا "كاتب المذكرات" لم يذكرهم.. وما هو
دورهم؟! بالتأكيد أيضا أن "كاتب المذكرات" لم يوضح.. وربما ترك ذلك
لفطنة القارىء, بأنهم رافقوه لحراسته!!
التاريخ لا يمكن أن يكون مجموعة حكايات ساذجة, يرويها بلهاء
يتمتعون برعاية وحصانة لغرض فى نفس من يريد!! فكل دقيقة.. ساعة.. يوم.. شهر..
سنة.. سبق "ثورة 23 يوليو" أصبح محفوظا بتفاصيله فى وثائق ومستندات
ثابتة ودامغة داخل وخارج مصر.. وإذا كان "جمال عبد الناصر" لم يكتب
مذكراته, فهو تكلم كثيرا فى خطابات للجماهير وخلال حوارات صحفية.. وكل من حوله
كتبوا شهادتهم – مذكراتهم – وبالتالى أصبحت عمليات تزوير التاريخ وتشويه الحقائق
تعكس حالة سطحية للذين يمارسونها.. وشاء القدر أن تتفرغ إبنة "جمال عبد
الناصر" الدكتور "هدى" لجمع كل ذلك.. حتى قصاصات الورق التى كان
يكتبها وتم نشرها فعلا.. وبقى أن يتم إزاحة الستار عن الحقائق.. وليس تخصيص مسرح الإعلام
لعروض "البورنو السياسى" التى يقدمها "خدم الاستعمار
والملكية"!!
إذا كنت قد رأيت عرض كتاب "كنت رئيسا لمصر" فقط..
فالحقيقة أننى لا أحتمل المشاركة فى الجريمة لأن "ناقل الجهل جاهل"
و"ناقل الكذب كاذب"!! لذلك أتدخل لضبط "الهزل" الذى قدمه رجل
كان – وسيبقى – "جملة عابرة" فى تاريخ مصر!!
نستأنف حكايات "محمد نجيب" التى يذكر فيها: "قال لى
على ماهر سوف أشكل وزارتى من نفس الوزراء الذين كانوا معى بعد حريق
القاهرة".. وفى السطر التالى مباشرة يضيف: "فى صباح اليوم التالى – 24
يوليو – خرجت من مقر القيادة الذى قضيت فيه ليلتى فى السادسة والنصف.. كان معى
جمال عبد الناصر واسماعيل فريد لنلحق على ماهر فى بيته فى الجيزة, قبل أن يسافر
إلى الإسكندرية ليقابل الملك.. قابلت على ماهر وأخذته إلى المحطة.. ودعته هناك
وعند عودتى للقيادة, ذهبت لزيارة كبار الضباط المقبوض عليهم فى معتقل الكلية
الحربية.. وعدتهم بالإفراج عنهم فى أقرب وقت.. وفعلا فى اليوم نفسه قررنا الإفراج
عنهم جميعا, ما عدا 34 شخصا من بين 236 سجينا كانوا من ذوى الميول الشيوعية"!
فى الحكاية ستجد أن "كاتب المذكرات" تحرك مع "جمال
عبد الناصر" للجيزة للقاء "على ماهر", دون أن يذكر أى شىء عما تم
فى اللقاء.. بعدها أخذ "على ماهر" إلى المحطة.. سقط منه "جمال عبد
الناصر" خلال اللقاء, وبعده إلى المحطة.. ثم عند ذهابه لزيارة كبار الضباط!!
ثم يقول: "قررنا الإفراج عنهم"!! وهذا نهج مذكراته التى يقول فيها:
"فى العصر.. عقدت مؤتمرا صحفيا لوكالات الأنباء العالمية – لم يتحدث عن
تفاصيله – وبعد العشاء أذعت أول بيان بصوتى"!
الحقيقة.. أول بيان تمت إذاعته بصوت "قائد الحركة" فى
مساء يوم 24 يوليو.. الحقيقة – أيضا – أنه كان بيانا قصيرا ومدروسا بعناية, وتكشف
لغته أنه مكتوب بأسلوب استمرت عليه كل ما بعده من بيانات.. وكان البيان الأول بصوت
"محمد نجيب" يركز على المعانى التى حملها البيان الأول, والذى تمت
إذاعته بصوت "أنور السادات" فى اليوم السابق.. ويطلب من الناس عدم تصديق
الشائعات ويطمئن الشعب وفيه: "بنى وطنى.. إن كل شىء يسير على ما يرام, وقد
أعددنا لكل شىء عدته.. فاطمئنوا إلى نجاح حركتنا المباركة.. لا تنصتوا إلى الشائعات..
واتجهوا بقلوبكم إلى الله العلى القدير, وسيروا خلفنا إلى الأمام.. إلى رفعة الجيش
وعزة البلاد.. والله نسأل أن يسدد خطانا وأن يطهر نفوسنا.. وأنتهز الفرصة لأؤكد
لكم أن كل شىء يسير على ما يرام مرة أخرى.. والسلام عليكم".
أول بيان تمت إذاعته بصوت "محمد نجيب" كان يتحدث عن
"نجاح حركتنا المباركة" وهكذا شاء "الضباط الأحرار" وصف
حركتهم.. فلم يأت ذكر كلمة "انقلاب" ولا كلمة "ثورة".. وفى
البيان جملة مهمة "إلى رفعة الجيش.. وعزة البلاد".. وإشارتى أعتبرها
كشافا عند قراءة البيانات التالية, ولغتها المدروسة.. فضلا عن أن "جمال عبد
الناصر" عاش رافعا راية "العزة والكرامة" والتف حوله الشعب
لأجلهما.. دفع معه الشعب راضيا ثمنها.. كما يجب أن أوضح أننى لم أتدخل فيما كان
يحكيه "أول رئيس لمصر" عن نفسه.. أما منذ أن ذهب إلى تزوير فاضح
للتاريخ, قررت أن أقدم بعضا من الحقائق أملا فى أن أفتح نوافذ القراءة للذى يحترم
التاريخ ويدرك قيمته.. أما الموظفين فى "مشروع تزوير التاريخ" فلا أملك
غير السخرية مما يقبضونه والدعاء لله أن يحرمنا من هكذا وظيفة!..
يتبع
0 تعليقات