محمود جابر
لم تُذكر لفظة «آشور» في خطابات «تل العمارنة» إلا مرتين في
الخطابين الخامس عشر، والسادس عشر، ولكن مما يؤسف له أن كلمة «آشور» وُجدت مهمشة
بعض الشيء في كلا الخطابين، ويُلاحظ أن سلسلة النسب في ملوك «آشور» حتى عهد الملك
«آشور وبالليت الأول» وهو الذي يُنسب إليه هذان الخطابان، لا يمكن تنسيقها على وجه
التأكيد لما يعترض المؤرخ فيها من عقبات، وتدل شواهد الأحوال على أن بلاد «آشور»
منذ عهد «تحتمس الثالث» كانت على أية حال ترسل الجزية إلى مصر باسم رئيس «آشور»،
ومن المحتمل أنه الملك «آشور رابي الأول»، وقبل ذلك نعلم أن الملك «بوزور – أشير
الرابع» قد عقد معاهدة مع الملك «بورابورياش الأول» عاهل «بابل» .
ومنذ عهد الملك «شوشتار»
ملك «متني» حوالي عام ١٤٣٠ق.م، وهو الذي غزا بلاد «آشور» في عهد الملك «آشير – بل
نششي» وفتح مدينة «آشور» حتى عصر الملك «دوشرتا» (حوالي عام ١٣٩٠–١٣٧٠ق.م) كانت
بلاد «آشور» تابعة لدولة «متني».
ولما ارتقى عرش الملك «آشور – بالليت الأول» ملك «آشور» المقدام،
وهو الذي كان معاصرًا لعاهل «بابل» «بورابورياش الثاني» وفرعون مصر «أمنحتب
الرابع»، خلع عن بلاده نير الحكم «المتني»، وكذلك أوعز لملك «بابل» أن بلاد «آشور»
قد صممت على أن تقف وحدها محافظة على استقلال عرشها.
والواقع أن «آشورو- بالليت» كان أول أولئك الرجال العظام الذين أسسوا الإمبراطورية
الآشورية، وكانت آشور عند توليه عرش الملك تشمل مساحة قليلة حوالي بلدة «آشور»،
ولكن عند وفاته كانت قد أصبحت «آشور» تُعَدُّ ضمن ممالك الشرق العظمى، وكان من أول
أعماله أنه عقد تحالفًا مع «آلاشيا» (قبرص)، ثم أخضع بلاد «متني» وبقيت تحت سلطانه
إلى أن جاءت بلاد «خيتا» وخلصتها من نيرها، ووضعت على عرشها ابن الملك المسمى
«ماتيو وازا».
و خلال عهد الملك «آشورو بالليت» أصبحت «نينوى» التي كانت في قبضة
بلاد «متني» آشورية ثانية، وقد ذكرها من قبل أنه في عهد «أمنحتب الثالث» قد أرسل
«دوشرتا» الإلهة «عشتار» ربة «نينوى» إلى مصر لشفاء هذا الفرعون، وكذلك لما رجعت
الإلهة «عشتار» إلى حظيرتها الأصلية احتفل الآشوريون بعودتها احتفالًا عظيمًا؛
وذلك بإقامة معبدها من جديد بعد أن كان قد أخنت عليه الأيام.
أما الخطابات التي تشير إلى «آشور» في رسائل «تل العمارنة» فإنا
نشاهد فيها عظمة ملكها، فقد سمى نفسه «آشورو- بالليت» ملك آشور الملك العظيم، وكان
يعمل على مساواته تمام المساواة مع ملك مصر، ولذلك كان يخاطبه بلفظة «أخي». ونراه
كذلك يذكر أن «أمنحتب الرابع» عندما أرسل جده «آشور – نادين أخي» إلى مصر، فإن
الفرعون أهداه ٢٠ تلنتًا من الذهب، ولذلك فهو لا يرى بأسًا من طلب مثلها هدية له
أيضًا، وقد احتج الملك «بورابورياش الثاني» وقتئذٍ على البلاط الفرعوني، على وضع
الآشوريين في تلك المنزلة مع أنهم من أتباعه وتحت سلطانه، غير أن فرعون مصر لم يعر
هذا الاحتجاج أي التفات.
ولكن نرى فيما بعد أن الملك «آشورو- بالليت» قد انتقم لنفسه، وذلك
بأن أرغم «كاراينداش الثاني» خلف «بورابورياش الثاني» على الزواج من ابنة «آشورو- بالليت»
كما جعله فضلًا عن ذلك يخضع لقبول طائفة جديدة من الأنظمة الخاصة بالحدود بين
البلدين، وبعد ذلك بزمن قصير كانت الجيوش الآشورية من القوة بحيث ترك لها الخيار
في وضع رجل على عرش «بابل» وهو الملك «كوريجالزو الثالث» (١٣٤٤–١٣٢١ق.م)، وقد أرسل
«آشورو–بالليت» رسلًا إلى فرعون مصر معهم العربات وجيادها وكذلك من اللازورد.
وقد رد الفرعون التحية
بأقل منها؛ إذ أرسل بعثة للملك «آشورو-بالليت» ببعض هدايا لم ترق في عينه، وطلب
إلى الفرعون أن يغدق عليه بأحسن منها.
مملكة «متني» في خطابات تل العمارنة:
منذ عهد الفرعون «تحتمس الثالث» نصادف في المتون المصرية اسم
«مِتن»، وقد ذكر لنا «ملر» أنها على نهر الفرات، والظاهر أن مملكة «متني» قبل
الفتح الذي قام به «تحتمس الأول» ومن بعده «تحتمس الثالث» كانت تقع على الضفة
الشرقية من نهر الفرات وقد وحدت ببلاد «نهرين» ، ومن المحتمل أن بلاد «متني» يرجع
أصل نشأتها إلى مدينة واحدة وهي «متن» أن قوم «متني» هم أقدم عنصر في شعوب «خيتا»
وعلى أية حال يظهر أنهم في الأصل فرع من جنس «خيتا» ولكن في عهد «تل العمارنة» نجد
أنهم كانوا يتميزون عن «خيتا» الذين كانوا غالبًا معهم في مخاصمات وحروب، وأن لغة
«متني» من أصل قوقازي، وتشبه في تركيبها لغة الأم القوقازية، وأحدث الآراء على أية
حال ترى في اللغة المتنية أنها أقدم لغة في البلاد، وأنها تشبه كثيرًا اللغة
الخيتية، على أن أسماء الأعلام التي حُفظت لنا في اللغة المتنية يظهر عليها الصبغة
الآرية.
أن قوم «متني» كانوا في
«بابل» منذ عهد أسرة «حمورابي» وكذلك كانوا هم المؤسسين لمدينة «آشور». هذا إلى
أنهم أقدم سكان استوطنوا بلاد «آشور». غير أنه مما يؤسف له توجد فجوة عظيمة في
معلوماتنا عن بلاد «متني» تمتد منذ تلك الأزمان الغابرة حتى حوالي ١٤٣٠ق.م، وذلك
عندما فتح «شاوشتار» مدينة «آشور»، ومن المحتمل أن الملك «شاوشتار» كان معاصرًا
للفرعون «أمنحتب الثاني» (حوالي ١٤٤٨–١٤٢٠ق.م). ومنذ تلك الفترة حتى حكم الملك
«دوشرتا» كانت بلاد «متني» خاضعة لسلطان بلاد «آشور»، وقد خلف «شاوشتار» «أرتاتاما
الأول». وقد جاء اسمه في المتون المصرية أنه زوَّج ابنته للفرعون «تحتمس الرابع».
أما الملك الثاني فهو «شوتارنا» وقد زوَّج ابنته من «أمنحتب
الثالث». ومن المحتمل أنه قد خلفه ابن له يُدعى (أرتاشومارا)، ولكن لا نعرف عنه
شيئًا.
أما الملك «دوشرتا» الذي
خلفه فهو ابن «شوتانا»، ويُعد أحسن ملك معروف لنا من بين ملوك «متني». فلدينا غير
قوائم الهدايا التي نجدها في خطابات «تل العمارنة» سبعة رسائل كتبها «لأمنحتب
الثالث»، وخطاب بعث به لأرملة
هذا الفرعون، هذا إلى ثلاثة خطابات للفرعون «إخناتون». وكذلك نعلم من وثائق
«تل العمارنة» أن رجلًا يُدعى «توخي» كان وصيًّا على الملك «دوشرتا» عندما لم يكن
قد بلغ سن الحلم، وأنه لسبب ما قد قتله «دوشرتا» فيما بعد. وهذا الملك كان في
الواقع على جانب عظيم من النشاط، فقد شنَّ حربًا على بلاد «خيتا». ولكن قبل نهاية
حكمه انتشرت الفوضى في بلاده مما أدى إلى انفصال «آشور» عن بلاده، وخلع النير الذي
ظل يثقل عاتقها مدة طويلة، وقد زاد الأحوال تعقدًا إعلان أخيه «أرتاتاما» العصيان،
وانضمامه إلى جانب «خيتا» كما فعل حفيده «شوتارنا»، ونعلم كذلك أن الملك «دوشرتا»
قد زوَّج ابنته «تدوخيبا» من «أمنحتب
الثالث»، ثم بعد وفاته زوَّجها من ابنه «أمنحتب الرابع». والظاهر أن
«دوشرتا» قد قضى عليه بمؤامرة في البلاط أعقبتها فوضى في بلاد «متني» وكذلك سنحت
الفرصة للملك «شوبيليوليوما» عاهل «خيتا» للتدخل في شئون بلاد «متني»، فوضع
«ماتيووازَّا» أحد إخوة «دوشرتا» المنفيين على عرش ملك «متني» وزوَّجه من ابنته،
وجعل نفسه ملكًا على هذه البلاد.
وكان عهد حكم «ماتيووازا» عهد فوضى، وقد استمرت الحال كذلك حتى عهد
«أرتاتاما الثاني» أحد إخوة «دوشرتا»، وقد خلفه ابنه «شوتارنا الثاني»، ويحتمل أن
الملك الذي خلفه «أتيوجاما»، غير أننا لا نعرف شيئًا قط، وكما ذكرنا نعلم من
المصادر المصرية أن «تحتمس الأول» و«تحتمس الثالث» و«أمنحتب الثاني» قد شنوا
حروبًا مظفرة على «نهرين» أي (بلاد «متني»).
ومن أعظم الشخصيات في التاريخ المصري في عهد «العمارنة» الملكة
«تي» زوج «أمنحتب الثالث» والدة «إخناتون»، وكانت صاحبة قدم راسخة في أحوال البلاد
السياسية من رسائل «تل العمارنة». وقد تراسلت مع «دوشرتا» لمصلحة ابنها «إخناتون»،
وكذلك كان لها أثر في توجيه سياسة كل من زوجها وابنها. وقد أرسل لها الملك
«دوشرتا» هدايا خاصة باسمها وأرسل لها التحيات في مناسبات عدة في مكاتباته مع
ابنها وزوجها.
هذا ويتناول الخطاب الثامن عشر العلاقات الطيبة بين مصر و«متني»،
ويتميز الخطاب التاسع عشر من هذه الرسائل بما أظهره «دوشرتا» بحبه المفرط للذهب
المصري، وهذا نفس ما نراه في الخطاب العشرين بالإضافة إلى أن هذه الرسالة الأخيرة
تلقي كثيرًا من الضوء على الطريقة التي كان يتبادل بها ملك «متني» الأميرات في
مقابل الذهب المصري. ونلحظ هذه التجارة الفريدة في بابها كذلك في الخطاب الواحد
والعشرين، كما نجد في الخطاب الثاني والعشرين قائمة بالهدايا التي أرسلها الفرعون
صداقًا للأميرة «تدوخيبا». أما الرسالة الثالثة والعشرون فتحدثنا عن كيفية عزم
الإلهة «عشتار» إلهة «نَيْنَوى» على زيارة مصر، وأن ملك «متني» نصح للفرعون أن
يحسن وفادتها ويقابها بما يليق بها من تجلة وتكريم.
ومما يلفت النظر في هذه الخطابات الرسالة الرابعة والعشرون؛ إذ قد
كُتبت بالخط المسماري، ومع ذلك فإن ألفاظها باللغة المتنية. والظاهر أنها تبحث في
موضوع مدينتين وهما «خارواخا» و«ماشرينا»، وقد جرت المفاوضات على أن تُعطى مصر
الأولى والملك «دوشرتا» الأخرى. والخطاب الخامس والعشرون يُعد قائمة بما أرسله
«دوشرتا» للفرعون «أمنحتب الرابع» من هدايا متنية جميلة تكشف لنا عن مقدار ما كانت
عليه هذه البلاد من حضارة، وصناعات راقية، وبخاصة في اللازورد الذي كان فيها
كثيرًا. وكل هذه الهدايا كانت مهرًا لابنته التي تزوجها هذا الفرعون.
أما الخطاب السادس والعشرون فعلى جانب من الأهمية؛ إذ نجد فيه أن
الملكة «تي» تلعب فيه دور الوسيط بين مصر و«متني» وتعمل على توطيد أواصر المصادقة
والمهادنة بين البلدين، وقد كانت «دوشرتا» يرى أن كل هذا لا يتأتى إلا إذا أرسلت
له مصر الهدايا العظيمة من الذهب المصري البراق؛ ولذلك نجد أن كثيرًا من الخطابات
تضرب على هذه النغمة.
ولدينا خطاب غريب في بابه قد يُعد «جواز سفر» يُحتمل أن كاتبه هو
ملك «متني» لملوك «كنعان»، وقد حثَّ فيه كاتبه ملوك «كنعان» على السماح لرسوله
المسمى «أكيا» ليذهب إلى أخيه ملك مصر ليواسيه.
وقد جاء ذكر «متني» كذلك في خطابات أخرى من رسائل «تل العمارنة»؛
ففي الخطاب الثامن والخمسين مثلًا نجد أن أحد الأمراء يكتب لفرعون مصر أن ملك
«متني» قد شنَّ عليه غارة، ويحتمل أن هذا الخطاب كان موجهًا للفرعون «أمنحتب
الثالث».
ويشير الخطاب الخامس والسبعون إلى تقرير كتبه «ريبادي» إلى ملك مصر
يخبره فيه أن الخيتيين قد فتحوا بلاد «متني».
ولدينا عدة خطابات نلحظ منها تدخل بلاد «متني» في «فلسطين»
والإغارة عليها، فمنها الخطاب الخامس والثمانون الذي نفهم منه أن ملك «متني» قد
زحف بجيشه في بلاد «فلسطين» حتى وصل «سو مورا»، وقد كان على وشك الاستيلاء على
«جبيل» نفسها لولا أن قلة الماء قد عاقته فقفل راجعًا إلى بلاده، وكذلك نجد في بعض
الخطابات أن ملك «متني» كان يساعد «عبدي أشرتا» وقوم ساجاز (خبيري) على «ريبادي»،
كما نلحظ أنه كان يريد أن يتولى على بلاد «آمور». والظاهر أن «جبيل» بعد أن أعيتها
الحيل في وصول النجدة من الفرعون اضطر أميرها لدفع جزية لدولة «متني».
والظاهر أن أطماع بلاد
«متني» وعداءها لمصر كان من قديم الزمن؛ إذ نجد في الخطاب التاسع بعد المائة أن
«ريبادي» يكتب إلى الفرعون يذكره بهذا العداء الذي كان بين «متني» وبين آبائه، وأن
آباءه لم يتخلوا عن صداقة أجداده؛ ولذلك لا ندهش إذا وجدنا عدة إشارات على حسب ما
ذكره «ريبادي» نفهم منها أن ملك «متني» كان على أهبة الاستعداد للزحف على أملاك
مصر في الخارج عندما كانت تسنح له الفرصة، حتى إن «ريبادي» جعل هذه البلاد هي
وبلاد «بابل» وبلاد «خيتا» مضرب الأمثال عنده للدول القوية التي كان يمكنها أن
تغير على أملاك مصر، وتستولي عليها كما جاء في بعض خطاباته، فقد جرى على لسانه
عندما كان يتحدث عن «عبدي أشرتا» عدوه الألد فيقول: «من هو «عبدي أشرتا» الكلب
الذي يجري وراء الاستيلاء على كل المدن؟ هل هو ملك «متني» أو ملك كاشي (بابل) حتى
يعمل على الاستيلاء على أرض الفرعون لنفسه؟»
0 تعليقات