محمود جابر
فى هذه الحلقة الأخيرة، من يطالعها سيجد انه يقرأ عن حياة الإسرائيليين
او اليهود فى كل عصر وكل تاريخ، جماعة لا تمت بصلة لاى أرض ولا تملك اى انتماء؛
ومن خلال الرعى تنتقل من بلد الى بلد على الحدود والصحارى والقفار، يقطعون الطرق،
وينقلون الأخبار، ويتعاملون فى كل ما يثير الأمن والاستقرار، يسرقون التجار
ويبيعون بضائعهم، واذا أقفرت البوادى والصحارى نزلوا الى المدن يعملون فى البناء
أو فى جنى الثمار، ثم ما يلبسون الا ان يثيرون الفتن والبغضاء والتشاحن ويشيعون
الفوضى، فإذا شاعت الفوضى قامت الحروب وهنا يعملون كجند مرتزقة بالأجر كما كانوا
يعملون وقت السلم بالأجر، ومن خلال الحرب يستولون على السلع ويتاجرون فيها كتجار
حروب وتلك كانت سيرة جماعة الخابيرو طوال تاريخهم والتى لم تتغير جوهرا حتى الآن .
الخابيرو وتأثرهم على منطقة الشرق الأدنى
طوال قرابة خمسمائة سنة من نشاط الخابيرو ما بين 1500- 1020ق م اتضح فيها
أثر هذه الجماعات
بشكل واضح في منطقة الشرق الأدنى القديم، إذ
امتازت بالاضطراب السياسية
والعسكرية والحروب والنزاعات، ولاسيما في بلاد النيل على أثر خروج الهكسوس منها، وملاحقة المصريين
لهم في بلاد الشام، فضلا عن بلاد الشام نفسها
التي شهدت
اضطرابات على أثر خروج اغلب ممالكها من السيطرة
المصرية، ووقوع البعض الآخر من المدن والحصون
تحت السيطرة الحثية، مما أثار قلق وفوضى في المنطقة
ككل، في الوقت الذي نشط وظهر فيه نشاط جماعات (الخابيرو)
بشكل واضح. وكانت نصوص ومدونات حضارة بلاد الرافدين من بين النصوص التي
أشارت إلى نشاط تحركات تلك الجماعات، ولا سيما نصوص مدينة
نوزي مركز الحوريين إبان فترة القرن الخامس عشر قبل الميلادي، ورغم أن
هذه النصوص تحدثت عن جماعات أشداء وأحيانا ( الخابيرو) التى تصفهم بالجند المرتزقة
الذين ينثلون مصدر قلق بالغ فى المنطقة ويعملون لصالح الحثيين ويتدخلون فى شؤون
بلاد وممالك الشام .
في رسالة من الملك الكاشي بورنا بورياش (1379- 1276 ق م) إلى
الفرعون المصري أمنحوتب الرابع – اخناتون (1375-
1358 ق م) يخبره فيها عن سرقة وقتل تجار من بالد الرافدين في
فلسطين القديمة على يد عصابة تعود إلى جماعات )الخابيرو)،
وهذا نموذج الرسائل أخرى اتضح فيها قلق بعض الحكام في
بلاد الرافدين وطلبهم العون والمساعدة من اخناتون أن يضع حدا لهم ويقف تحديهم
لسلطة الفرعون وتخريب أراضيه.
وتعتبر رسائل تل العمارنة مصدرا تاريخيا مهما، أعطى صورة كاملة عن أحوال المنطقة
إبان تلك الفترة، وما لحق بها من فوضى ومصائب وتنشر الرعب
والخوف بين الناس وخوف الحكام أنفسهم من
أثر تنامي في نشاط وتحركات جماعات (الخابيرو(، ويظهر (الخابيرو) في النصوص
المصرية منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ففي نص
للفرعون أمنحوتب الثاني (1436- 1415 ق م) يصف عودته من حملته على سوريا
وهو مكلالً بالنصر والغنائم حيث تقرأ "عاد جلالته إلى منفس، وقد شفى
غليله من بلاد الأعداء التي داسها بنعليه، وجاء
منها بالغنائم: 700 من أمراء رينينو (سورية( ومن الذين ظاهروهم جاء بـ870
من العابيرو و3611 من الشاسو (البدو(، و5011 من الخارو (الحوريين(،
و36111 من
النيجيين (مملكة نوخاشي الواقعة بين مملكتي حماة وحلب)،
وجاء معهم بمواشيهم وفضتهم وذهبهم وأسلحتهم .
ويتضح من خلال هذا النص أن (الخابيرو (ومعهم بدو الشاسو كانوا يعملون
كمرتزقة إلى جانب ملوك وأمراء الممالك
السورية ( الحيثيين/ الحوريين) الذين
كانوا يشكلون أحلافا
مؤقتة ضد المطامع المصرية في سورية.
اثر هذه الجماعات امتد فى كل سوريا وصور وصيدا وعكا وبيروت
واورشاليم وبيت لحم، وهددوا كل الممالك التى كانت تحت رعاية الدولة المصرية .
وفي أواسط القرن الرابع عشر قبل الميلاد،
دخلت بلاد الشام
مرحلة من الفوضى، والاضطرابات بسبب تراخي قبضة أمنحوتب الرابع
(اخناتون) على الممالك السورية، فنقطع حبل الأمن، وتعطلت طرق التجارة، ودخل ملوك الدويلات في الجنوب
السوري، وفلسطين، والساحل الكنعاني في حروب ونزاعات،
وصراعات، وقام الحثيون الذين يسيطرون على مناطق شمال بلاد
الشام بتشجيع هذه الفتن، والاضطرابات من أجل
توسيع نفوذهم على حساب مصر، وقد أفادت جماعات (الخابيرو) من
هذه الأوضاع وشكلت فرق عسكرية من المرتزقة
تؤجر خدماتها
لهذا الطرف أو ذاك، وتقرأ في أحد الرسائل التي تمثل خير
نموذج على هذا الموضع: يقول الأمير (شوارداتا)
حاكم مدينة )حبرون – الخليل) في رسالة له:
"إلى موالي الملك الشمس، هكذا يقول
شوارداتا، خادمك والتراب الذي تحت قدميك عند
قدمي الملك اسجد سبع مرات، وسبعاً اخرى
منبطحاً بلا حراك، ليعلم موالي الملك ان
زعيم العابيرو وقد هاجم الأراضي التي اعطاني
اياها الإله موالي الملك، ولكن تمكنت من
صدهم، وليعلم موالي ان كل أصدقائي من حكم المدن
قد تخلوا عني، ولم يقف معي في مواجهة العابيرو إلا (عبد خيبا) حاكم اورشليم
لقد هب لمساعدتي اولا (زو ارتا) أمير
عكا و(واندراواتا)
بخمسين عربة بعد ان تعرضت لغارات العابيرو،
ولكنهم انقلبوا ضدي بعد ذلك، اتمنى على موالي الملك
ان يوعز للقائد (بنهامو) بالوقوف الى
جانبي لنشن حملة
نسترجع أراضي الملك إلى حدودها السابقة
وهناك ستة رسائل أخرى من حاكم أورشليم )القدس) المدعو (عبد – هيبا)
موجهة إلى حاكم مصر (اخناتون) بقول في احدها: "الى الملك موالي هكذا يقول (عبد – هيبا( خادمك عند قدم الملك موالي
اسجد سبع مرات وسبعاً أخرى، انظر إلى مافعله)ملكيلو( و)شوارداتا( بأراضي موالي الملك،
لقد دفعا بقوات
من جازر وهي مملكة تقع شمال شرق فلسطين، ومن جث ومن
كيال، واستولوا على أراضي (روبوتو)، وصارت املاك
موالي بيدي العابيرو، كما أن بلدة بيت لخمي (بيت لحم) الواقعة في
أراضي اورشليم، قد أعطيت إلى كيال، فليصغي ملكي
إلى خادمه، ويرسل قوات تعيد تلك الأراضي المسلوبة إلى موالي الملك، وتنجدنى قواتكم
فإن أملاك موالي الملك هنا ستصبح كلها تحت سيطرة العابيرو.
وفي رسالة أخرى من (عبد – هيبا) إلى )اخناتون) حاكم مصر تشير تلك
الرسالة إلى أن جماعات (الخابيرو) أخذو ينشرون
القلق والفزع في
فلسطين القديمة إذ تقرأ: "أن الخابيرو أخذوا يدمرون كل بلاد
الملك) .
وانصاعت بلاد الملك إلى الخابيرو ..."
. وفي رسالة
ثالثة (لعبد – هيبا) يؤكد فيها خطورة جماعات (الخابيرو) ويخبر
حاكم مصر (اخناتون) أنه "إن موالي الملك ان ارسل
خمسين جندياً، فإنه سوف يتمكن من إيقاف زحف الخابيرو، ويدحرهم ..." . كما اشتكى حاكم مدينة خاصور )صور( إلى حاكم مصر أيضاً عارضاً عليه ما
تتعرض له مدينته من مصائب وخوف وقلق نتيجة نشاط
جماعة الخابيرو.
يتضح لنا من خلال رسائل حاكم أورشليم أن حاكم مصر الملك (اخناتون)
إن حاكم مدينة )بيت لخمي) بيت لحم، قد انضم إلى
حالة الفوضى جماعات
(الخابيرو)، وبدأت الفوضى تعم كل دويلات
وممالك بلاد الشام، في الوقت الذي كانت تلك
الجماعات تمارس نشاطها بكل حرية بعد أن بدت علامات العجز
على حاكم مصر في مقاومتها، أو حتى الوقوف بوجه نشاطها مما
أثار ذلك الفوضى في كل منطقة الشرق الأدنى القديم.
ولدينا رسالتين تعودان بتاريخهما إلى عصر
العمارنة موجهتان
من أحد حكام مصر )بسبب حالة الرقيم لم تتمكن من معرفة أسم الفرعون)
تم العثور عليهما مع عدد من الرقم المسمارية التي اكتشفت في موقع (عامر اللوز)
في جنوب لبنان، توضحان الطرق التي تعامل بها فراعنة مصر مع
جماعات )الخابيرو) في بلاد الشام، ففي الرسالة
الأولى الموجهة
إلى ملك دمشق المدعو )زالي) يطلب فيها إرسال دفعة من جماعات )الخابيرو)
من أجل تسكينهم في منطقة النوبة الجنوبية، وهذا هو الجزء الذي
يعنينا من المقطع: "ثم أني أطلب منك أن ترسل لي الخابيرو
الذي كتبت لك بشأنهم، ألني سوف اسكنهم (كوشا) ليحلوا محل
أولئك الذين قمنا بتهجيرهم منها ..."، أما
الرسالة الثانية فموجهة إلى حاكم مدينة شامية
أخرى يدعى )عبدي – ملكي) وتنتهي الأمور أيضا
بإرسال مجموعة من
الخابيرو إلى مصر .
إن ما نفهمه من مضمون هاتين الرسالتين هو أن حاكم
مصر كان يحاول ترتيب الأوضاع السياسية في
النوبة (كوشا)
بعد التمرد الذي حصل فيها، عن طريق إجلاء ونفى عدد كبير من السكان
المتورطين فى التمرد، أدى إلى
إفراغ قرى كثيرة
من أهلها، وهذا الإجراء الذي اتخذه الفرعون كان ذا هدف
مزدوج، فهو يساعد الحاكم على حل مشكلة الفراغ السكاني
في منطقة ذات أهمية اقتصادية لمصر، كما يساعده في التخلص من
شغب بعض الجماعات ( الخابرو) السوريين عن طريق إعطاءهم مناطق يستقرون فيها حيث يكونون
تحت رقابة السلطة المصرية والاستفادة من مهاراتهم المتنوعة.
وبعد انتهاء عصر أمنحوتب الرابع(اخناتون)
وعودة الاستقرار إلى الممالك السورية، وصعود الأسرة
التاسعة عشر )1295-
1186ق م ) إلى السلطة في مصر قلت إلى حد كبير
من دور (الخابيرو)
في المسرح السياسي والعسكري، ولكن بقيت بعض
الجماعات منهم تمثل مصدر إزعاج للسلطات المصرية،
فبعد انقضاء نصف قرن على مراسلات تل العمارنة، يطالعنا
نص مصري يخبرنا عن اضطرابات محلية مصدرها تلك الجماعات،
فقد ورد في نص تذكاري للفرعون المصري (مرنبتاح) في
منطقة بيت شان (بيسان) يصف فيه حملته على فلسطين في حدود جاء
فيها: "في ذلك اليوم جاء من أخبر جلالته بأن (العابيرو)
في جبل )يارموتو) قد شنوا ويلي ذلك قيام الفرعون بحملة تأديبية ضدهم
واسر عدد منهم .
ثم تأتينا شواهد من عصر رعمسيس الثاني على ان
جماعات من (الخابيرو) قد رحلت إلى مصر من أجل العمل المأجور
في مشاريع بمنطقة الدلتا حيث قام الملك ببناء
عاصمة جديدة له تحمل اسم )بر- رعمسو (.
الشواهد عديدة على عمل هؤلاء العابيرو
كأيد عاملة نظير الأجر، وقد دخلت جماعات منهم بطلب من الفرعون
نفسه من أجل ان يقوموا بنقل الحجارة من المقالع إلى مواقع
البناء فى مقابل حصولهم
على الأجر ومناطق للسكن.
الخاتمة
من خلال ما سبق نستطيع أن قول وفقا للمصادر التاريخية المتعددة أن الخابيرو
ليس اسما لعرق بعينه ولكنه صفة لجماعات متعددة، وان العبرانيين أو الإسرائيليين
جزء منهم، رغم ان تم اختزال الكل – الخابيرو- فى الجزء – العبرانيين – بعد ذلك،
كما جرى اختزال العبرانيين فى الإسرائيليين .
الدلالات الكثيرة تشير الى أن الخابيرو كانوا يمثلون خطرا بالغا
على شعوب المنطقة وخاصة فى فترات الاضطرابات والفوضى.
كانت الممالك السورية لملوك الحيثيين أكثر المستفيدين من جماعات
الخابيرو، وقد اتفقنا فى أبحاث سابقة انهم نفس العرق ونفس المنبت ولهذا كان
الخابيرو يساعدون تلك الممالك على تمدد نفوذهم على حساب النفوذ المصري والعراقي .
توزع دور الخابيرو فى المنطقة بين العمل فى الأرض والبناء والرعى
والتجارة والنهب والسرقة، بالإضافة فى نقل الأخبار وأثارت الفتن ثم العمل بعدها
كجند مرتزقة فى جيوش الممالك المتحاربة، وتارة أخرى يعملون كاللصوص وقطاع طرق
وسراق يقتلون التجار، وينهبون البضائع، ويعطلون الحياة
الاقتصادية في المنطقة.
0 تعليقات