نصر القفاص
قدم "محمد نجيب" نموذجا واضحا لعمليات التشويه.. أو قل
تزوير التاريخ, فى أقل مساحة ممكنة.. وشملت جريمة التزوير أطرافا عدة ستعرفها حين
ندخل معا إلى صفحات مذكراته – شهادته – فإذا كان ما ذكره من قبل على أنه "قصص
مسلية" تفجر الضحكات.. فهو أراد هنا أن نرثى له وعليه!!
يقول: "حصل الوفد على أغلبية ساحقة فى البرلمان – 1950 – وشكل
مصطفى النحاس حكومة جديدة.. قررت أن أمد الجسور بينى وبينه, فأبلغته عن طريق فؤاد
سراج الدين وزير الداخلية – والمالية – بضرورة الإسراع فى بدء الإصلاح الضرورى,
لينقذ مصر من الكارثة التى تعيش فيها.. وكان يشاركنى فى هذا الرأى جمال عبد الناصر
وأعضاء اللجنة التنفيذية للضباط الأحرار.. كنا نرى أنه لا ضرورة إطلاقا للقيام
بالثورة إذا ما تمت الإصلاحات المطلوبة.. لقد حاولنا الإصلاح قبل أن نلجأ إلى
القوة.. كنا نوزع المنشورات السرية التى تطالب بذلك".
نتوقف هنا.. كل الوثائق والمؤرخين, لم يذكر منهم أحدا عن هذا
"الهراء" شيئا.. فهو يقول: "قررت أن أمد الجسور" أى أنه بدرجة
لواء فى الجيش قرر أن "يمد الجسور" مع الحكومة.. باعتبار "محمد
نجيب" البطل دائما.. الرافض منذ نعومة أظافره, حتى ولو جلده مدرسوه فى
طفولته.. ولو سخر منه الضباط الانجليز؟ ولو قال له قائده: "أنت كذاب"!!
لكنه يكتب بإصرار روايته للتاريخ, دون احترام لأى عقل فى زمنه أو بعد ذلك.. ثم
يدعى أنه أبلغ "النحاس" عن طريق "فؤاد سراج الدين" بالإصلاح
لإنقاذ مصر.. وسيكشف نفسه وادعاءاته فى السطور التالية.. لكنه يقول أن "جمال
عبد الناصر" كان يشاركه هذا الرأى, وقتها – 1950 – والحقيقة أن "عبد
الناصر" لم يعرفه سوى فى الشهر الأخير من عام 1951.. وقبل انتخابات نادى
الضباط بأيام, دون أن يكون قد حسم مسألة الاستقرار عليه ليكون واجهة "الحركة
المباركة".. والمدهش أن من كان "أول رئيس لمصر" يكتب "كنا نرى
أنه لا ضرورة للثورة إذا ما تمت الإصلاحات" رغم أنه يعتبرها طوال الوقت
انقلابا.. والذين قاموا بها وصفوها بـ"الحركة المباركة".. لكن
"محمد نجيب" كان يراها ثورة قبل 23 يوليو!!
نعود إلى النص الذى يقول فيه: "كتبت مذكرة من تسع صفحات
للنحاس باشا, شرحت فيها ما حدث لنا فى فلسطين وما يحدث لنا على يد حيدر باشا..
والنهب الذى يتعرض له تمويل الجيش ونقص الأسلحة والعتاد الذى نعانى منه.. وشرحت له
أسباب تذمر الجيش فى 12 بندا.. سلمت المذكرة لصديق وفدى عضو فى البرلمان, فرفعها
إلى فؤاد سراج الدين ليتولى رفعها إلى النحاس.. طلب منى فؤاد سراج الدين أن أشطب
توقيعى من المذكرة, فرفضت وقلت له: المزور المزيف هو الذى لا يضع اسمه.. أنا متحمل
كل ما يترتب على هذه المذكرة.. من يزمر لا يغطى ذقنه.. لكنننى لم أتلق ردا من
النحاس.. فعلى ما يبدو أنه لم يأخذ الكلام بجد.. إعتبرونا أطفالا"!!
فى هذه السطور القليلة يمارس "كاتب المذكرات" فضيلة
"تجويد الهزل"!! فالجسر الذى فتحه مع حكومة الوفد عبر "سراج
الدين" كان وسيط عضو وفدى فى البرلمان.. ولم يذكر اسمه.. أين الجسر إذن؟!!
لكنه يفرض علينا الحيرة والارتباك, حين يقول أن "فؤاد سراج الدين" الذى
لم يسلمه المذكرة الخطيرة مباشرة طلب منه أن: "أشطب توقيعى من على المذكرة
ورفضت".. دعنا من ذلك لأنه يصل بك إلى الحقيقة الوحيدة, وهى أن
"النحاس" إعتبره – هو كتب اعتبرونا – أطفالا!!
يخلط بعد ذلك الوقائع بصورة مذهلة.. فهو لم يتحدث عن استجواب
"مصطفى مرعى" عن الأسلحة الفاسدة فى مجلس الشيوخ.. لكنه ينسب كل نتائجه
إلى "الوفد" و"مصطفى النحاس" حين يقول: "قرر النحاس
إجراء تحقيق فى وزارة الحربية" وهذا لا أساس له ولا سند.. لم يحدث إطلاقا..
وباعتبار أن ما بنى على باطل, فهو باطل.. سأتجاوز عن "الهزل" الذى كتبه
فى هذا الملف.. لكننى اتوقف عند ما ذكره: "كانت الفضيحة الجديدة هى فضيحة
القطن التى شملت زوجته – النحاس – الشابة زينب الوكيل كما شملت فؤاد سراج الدين
وعائلة زوجته.. وتم اتهامهم جميعا بإفلاس بورصة الأقطان فى الإسكندرية"
ويكتفى بهذه السطور التى يتهم فيها, الذين فتح معهم الجسور لتحقيق الإصلاح
والاستغناء عن فكرة الثورة!!
أكرر أننى أعلم حجم صدمة من يقرأ كتاب "كنت رئيسا لمصر"
وأعرف أن البعض قد يشكك فى أن هذه مذكرات "محمد نجيب" رغم أنها منشورة
ومطبوعة, ومضى عليها فى المكتبات أكثر من 35 عاما.. لكن الذين يتحدثون عن التاريخ
دون قراءة, باعتباره فعل يحتاج إلى جهد ووقت وعقل, لا يصدقون غير أكاذيبهم.. لذلك
سأمضى فى تفاصيل أوهام "محمد نجيب" الذى يقول أنه وسط هذه
"المعمعة" إحتاج إلى استراحة وعون روحى, فقرر الذهاب إلى الحج – عام
1950 – وعاد لتصدمه وفاة ابنته "سميحة" التى كانت متفوقة فى دراسة
الحقوق.. ولحظة أن كان يتلقى فيها العزاء.. هو يقول بالنص: "أبلغونى بنبأ
ترقيتى إلى رتبة أعلى.. وكان الوفد فى قمة نجاحه الحزبى والسياسى"!!
هذا هو "محمد نجيب" الذى وصفته بأنه "جملة
عابرة" فى تاريخ مصر.
لماذا أطلقت عليه هذا الوصف؟
الإجابة من مذكراته التى قال فيها بالنص: "الحقيقة تقتضى أن
أقول, أننى أول من أطلق عبارة الضباط الأحرار على التنظيم السياسى الذى أسسه جمال
عبد الناصر.. وأنا الآن أعتذر عن التسمية, لأنها لم تكن على مسمى.. فهؤلاء لم
يكونوا أحرارا.. إنما كانوا أشرارا.. كان أغلبهم – كما اكتشفت فيما بعد – من
المنحرفين أخلاقيا واجتماعيا.. ولأنهم كانوا كذلك, كانوا فى حاجة إلى قائد كبير..
ليس فى الرتبة فقط, وإنما فى الأخلاق أيضا, حتى يتواروا وراءه ويتحركوا من خلاله..
وكنت انا هذا الرجل للأسف.. لا أريد أن أبدو غاضبا أو ساخطا أو منفعلا, بسبب ما
حدث لى على أيديهم بعد الثورة.. فهذه انفعالات ذابت مع السنين, وتلاشت مع
الشيخوخة"!!
الرجل الذى يراه البعض قائدا للثورة يؤكد أن رفاقه كانوا أشرارا..
والرجل الذى يتم تمجيد اسمه يؤكد براءته من الثورة ويسميها انقلابا.. والرجل الذى
يريدون أن يجعلوه من عناوين فخار الجيش, لا يدافع عن غير "الإخوان"
و"الوفد"!!
يقول "محمد نجيب" فى مذكراته: "فى عام 1951 أستدعى
الوفد جميع العمال المصريين الذين يعملون فى معسكرات الجيش الانجليزى فى منطقة
القناة.. طلب منهم أن يتركوا هذا العمل, وكان عددهم 400 ألف عامل ووعدتهم حكومة
الوفد بتدبير وظائف وأعمال بديلة لهم.. وقام الوفد بإلغاء معاهدة 1936 وأعلن فاروق
ملكا على مصر والسودان"!! ويفرد مساحة لا بأس بها لذكر نضال للوفد, لا مصدر
له حتى على ألسنة قادة الوفد أنفسهم.. وتحدث عن معركة الإسماعيلية يوم 25 يناير
عام 1952.. ثم يأتى ذكره لحريق القاهرة الذى يقول عنه: "كان هناك من يعتقد أن
حريق القاهرة مثل حريق بوجوتا عاصمة كولومبيا.. تم بتدبير من الشيوعيين.. وهناك من
يعتقد أنه مؤامرة بريطانية.. وهناك من يعتقد أنها مؤامرة وفدية.. ولازال آخرون
يعتقدون أنها مؤامرة من القصر".
المهم عند "محمد نجيب" هو إبعاد "الإخوان" من
دائرة الاتهام!
راح "كاتب المذكرات" يبرر فرضياته, ويقفز على أخطر
الأحداث واحدا بعد الآخر بطريقة "بهلوانية" حتى يصل إلى أن:
"محاولة اغتيال حسين سرى عامر دبرها ونفذها جمال عبد الناصر وحسن التهامى
وحسن ابراهيم وكمال الدين رفعت" ثم يقحم نفسه على الجريمة فيقول:
"الغريب أن أصابع الاتهام فى هذا الحادث أشارت إلى.. كان على أن أذهب لزيارته
حتى أبدد شكوكه حولى, وحتى لا ينكشف أمرنا.. حمدت الله أن أحدا من الذين نفذوا
العملية لم يقبض عليه.. ولو حدث لكان التنظيم قد انكشف, ولكانت الثورة قد خمدت قبل
أن تشتعل"!!
ينهى "محمد نجيب" هذا الفصل بعد تزوير حقائق وتشويه
وقائع كثيرة, حول تعاقب الوزارات خلال الشهور الأخيرة للملك "فاروق" ولم
أحتمل نقل نصها!!.. لكنه يصل إلى الحديث عن الملك ورجاله, فيقول: "كان فاروق
فى آواخر أيامه لا يقبل مشورة أحد سوى حاشيته.. إضافة إلى عدد من المغامرين
والأفاقين الدوليين.. وأشخاص مثل محمد حسن – خادمه – وبوللى وكريم ثابت وادموند
جلاد والياس اندراوس الذى كان صاحب مكتبة, وأصبح فيما بعد المستشار الاقتصادى
للملك.. وكذلك سائق الملك محمد حلمى الذى كان يلقب بمدير المركبات الملكية
والدكتور يوسف رشاد طبيبه الخاص ومحمد نجيب سالم وحافظ عفيفى وحسن يوسف".
ثم يذكر "محمد نجيب" بعد ذلك: "فى هذه الظروف
إتفقنا على أن مصر أصبحت ملائمة جدا لقيام الثورة.. بدأنا نتشاور بطريقة جدية
لتغيير الأوضاع جذريا.. أحسسنا بضعف جهاز التحكم.. بدأنا فى التدبير لمواجهته
وتدميره وإسقاطه.. لكن فى نفس الوقت, كان جهاز التحكم قد عرف بأمرنا وقرر التخلص
منا.. وقفنا وجها لوجه.. أصبح كل منا فى سباق مع الزمن.. حانت لحظة الصدام بيننا,
والتى لم يكن هناك مفر منها.. كان أمامنا أحد أمرين.. إما أن نحكم أو نموت"!!
يتحدث "أول رئيس لمصر" عن تنظيم الضباط الأحرار, كما لو
كان حزبا له مقر وقيادة يتشاورون معها.. وفى أحيان أخرى كما لو كان عصابة هو
يقودها.. يرى ما حدث أنه انقلاب فى أحيان, ثم يتحدث عنه كثورة فى أحيان أخرى.. أهم
شىء هو اختلاق أى أوهام وأكاذيب لكى يلصقها بزعيم الثورة وقائدها "جمال عبد
الناصر" والأهم هو إبعاد أى شبهات عن "الإخوان" ولا مانع من محاولة
تجميل الوفد والتماس أية أعذار للملك "البقرة التى وقعت وكثرت سكاكينها"
وقبل كل هذا.. وبعده.. أن "محمد نجيب" الثائر البطل والرافض للفساد, كان
ينال الترقية بعد كل واقعة تمرد!! ولو حاولت أن تتخيل شخصيته ستجدها فى مسرحية
"قهوة سادة" التى قدمت شخصية "نواف الغامدى"!! ستعرف سر تلك
الإشارة حين نستعرض الأخطر والأكثر إثارة فى مذكرات "أول رئيس لمصر"
الذى وصف "ساعة الصفر"!!..
يتبع
0 تعليقات