آخر الأخبار

"محمد نجيب" الذى لا يعرفه المصريون!! (21)

 

 


 

نصر القفاص

 

مساء يوم 26 يوليو 1952 صدرت أول نشرة تنقلات عسكرية.. مساء اليوم نفسه تولى "زكريا محيى الدين" مسئولية جهاز المخابرات الحربية, مع تكليف بتأسيس جهاز للمخابرات العامة.. فكان أول رئيس للجهازين بعد ساعات من قيام الثورة.. تلك حقيقة لم يشر إليها "محمد نجيب" فى مذكراته.. لأنه لا يعرف أهمية هذين الجهازين ودورهما الخطير فى الأيام التالية.. تم بناء الجهازين على ما كان من قبل, لذلك تم التخلص من عناصر كانت تعمل مع أجهزة مخابرات أجنبية - خاصة بريطانيا - لتقدم المعلومات التى تراها وتريدها هذه الأجهزة لصناع القرار.. بداية من الملك.. مرورا برئيس الوزراء والوزراء.. ثم قيادات البرلمان والأحزاب.

 

معنى اعتماد قيادة الثورة على جهاز مخابرات وطنى, أنها ستعرف ما تريده وليس ما يوجهه نحوها مخابرات أجنبية.. وكان ذلك متغير سريع جدا, وأثمر عن كشف مؤامرات كانت تتم فى وضح النهار دون أدنى قلق.. لا أقول خوف!! وأدرك كل من تعامل مع قائد الثورة - وزعيمها - أنه يتحدث بناء على معلومات دقيقة مع كافة الأطراف.. وكانت قيادة الجيش الانجليزي ثم السفارة البريطانية هما الأسبق لفهم تلك الإشارة, بعد أن فوجئوا بسقوط رهانهم على جماعة "الإخوان" التى كانت تروج بأنها تمسك بخيوط اللعبة داخل القيادة الجديدة..

 

حدث ذلك حين ركز "تريفور إيفانز" مستشار السفارة البريطانية, على الاتصال بالمشرف العام للإخوان - حسن الهضيبى - ولقائه عدة مرات.. كان يحضر اللقاءات كل من "منير الدلة" و"صالح أبو رقيق" و"عبد العزيز زكى" فى بيت "حسن الهضيبى" بالروضة الذى كان يطرح على مستشار السفارة البريطانية فكرة الجماعة بأن تستمر تعهداتها للحكومة البريطانية سرية, لكى تطرح على الرأى العام خطابا ينادى بتقوية الجيش.. وركزت اللقاءات على مكافحة الشيوعية.

 

ذكرت ذلك لأنه مهم جدا.. فقد اكتشف الانجليز وجماعة الإخوان, أنهما تحت عيون مصرية قادرة على الرصد والمعرفة بدقة لما يدور.. وكان "محمد نجيب" يعرف بعضا من هذه المعلومات وليس كلها.. يتكشف ذلك من بعض الوقائع, وكان أهمها أن السفير البريطانى التقى "جمال عبد الناصر" وخلال اللقاء قال: "قرأت فى الصحف أنكم تنوون زيارة منطقة القناة.. خطر لى أن أقترح عليكم قيامى باستئذان القائد العام للقوات البريطانية فى منطقة قناة السويس لترتيب زيارة لكم للقاعدة بحيث ترون بالعين, ما ستتناوله مفاوضات الجلاء التى نحن مقبلون عليها".

 

فوجىء السفير البريطانى بالرد.. قال له "عبد الناصر" وفق الوثائق البريطانية: "من الصعب على نفسي أن أتوجه لأرض مصرية بإذن من القائد العام البريطاني.. الصحيح أنه هو الذى يحتاج إلى إذن من شعب مصر.. كما أن جماهير الشعب المصرى التى تنتظرنى فى منطقة القناة ومدنها الرئيسية, تريد أن ترانى معها لا أن ترانى على الجانب الآخر من الأسلاك الشائكة"!!

 

 وكانت تلك الردود الواضحة, فيها من المعانى الحاسمة ما يؤكد أن الذى تحدث معه السفير - عبد الناصر - هو "الرجل القوى" داخل هذه الحركة.. بل واضح أنه أيضا عقلها المفكر, ويمسك بإحكام بأدوات القيادة.

 

ترتب على ذلك اهتمام بريطانى متزايد بشخص "عبد الناصر" وعلى التوازى قل الاهتمام بشخص "محمد نجيب" الذى لم يمانع من التعامل عبر رسائل سرية.. وهو المنهج ذاته الذى اعتمدته جماعة "الإخوان" فى تعاملها معه.. وكل ذلك كان قد أصبح تحت عيون رجال "زكريا محيى الدين"!!

 

كانت احتفالات التحرير مناسبة لتغيير اسم "ميدان الإسماعيلية" إلى "ميدان التحرير" - بعد ستة أشهر على قيام الثورة - وإعلان قيام "هيئة التحرير" كبديل للأحزاب السياسية.. وإعلان فكرة العهد الجديد عن السياسة بأنها عمل وإنتاج, وليست مناورات ومؤامرات.. وأنه مع زيادة ثروة الفرد والثروة القومية.. والتأكيد على إتمام الانسحاب غير المشروط للقوات الأجنبية عن وادى النيل - مصر والسودان - كما تم فى هذه الاحتفالات رفع علم مصر الجديد - الأحمر والأبيض والأسود - وإعلان السلام الوطنى الجديد.. وبعدها بأيام تم إعلان الدستور المؤقت يوم 10 فبراير عام 1953.. وهنا سنجد أن "محمد نجيب" كتب فى مذكراته أسماء من أعدوا هذا الدستور, وهى مهمة وضرورى أن تعرفها.. فقد كانت تضم خمسين عضوا.. بينهم ثلاثة شاركوا فى وضع وصياغة دستور 1923 وهم "على ماهر" و"محمد على علوبة" و"على المنزلاوى" وأربعة أعضاء يمثلون حزب "الوفد" وهم "عبد السلام فهمى جمعة" و"على زكى العرابى" و"محمد صلاح الدين" و"عمر عمر" واثنان يمثلان "الأحرار الدستوريين" هما "أحمد محمد خشبة" و"محمود محمد محمود" واثنان من السعديين هما "محمود غالب" و"عبد الحميد الساوى" وثلاثة يمثلون "جماعة الإخوان" هم "عبد القادر عودة" و"صالح العشماوى" و"حسن العشماوى" وثلاثة يمثلون الحزب "الوطنى المصرى" وهم "عبد الرحمن الرافعى" و"فكرى أباظة" و"محمود جلال".. وكان معهم ثلاثة من رجال القضاء, وثلاثة من رجال الجيش والشرطة المتقاعدين.. إضافة إلى ممثلين لأساتذة الجامعات, وعدد من أعضاء مجلس الشيوخ والشخصيات العامة.

 

هؤلاء وضعوا الدستور المؤقت للبلاد.. وواضح جدا أنه لم يكن بينهم أحدا من "الضباط الأحرار" على أن تتولى اللجنة ذاتها وضع دستور دائم للبلاد.. وفى يوم 24 مارس 1953 بدأت مناقشة "نظام الحكم" هل يستمر ملكيا أم يصبح جمهوريا؟! وهل تكون الجمهورية "رئاسية" أم "برلمانية"؟! فى حالة الذهاب للجمهورية.. وانتهت اللجنة إلى اختيار نظام الحكم "الجمهورى" ويوم 5 مايو عام 1953 صدق أعضاء لجنة الخمسين القائمة على وضع الدستور بالإجماع, على أن يكون نظام الحكم "جمهورى برلمانى" وأعلنت اللجنة تقريرها الذى جاء فيه: "بعد استعراض مفاسد النظام الملكى.. رأت اللجنة بإجمال الآراء ترك النظام الملكى, والأخذ بالنظام الجمهورى.. ويسرها أن نتلاقى فى هذه النتيجة مع ما تحس به من اتجاه شعبى واضح, على أنها ترمى مع ذلك استفتاء الشعب للتعرف على رأيه فى هذه المسألة الجوهرية التى هى أقرب إلى أن تكون مسألة شعبية تتعلق بالشعوب وليست مسألة فنية تتعلق بالدستور".

 

تلك معلومات وحقائق لم ينكرها "محمد نجيب" فى مذكراته.. لكن لا يمكن أن يمررها دون ضرب رجال الثورة وقائدهم, فكتب نصا يقول: "فوجئت بأعضاء مجلس قيادة الثورة يطالبون الإسراع بإعلان الجمهورية.. رفضت ذلك لأننى أردت أن يتحول نظام مصرالسياسى بنص من الدستور, وليس بقرار من مجلس القيادة ولأنهم أرادوا تعيين عبد الحكيم عامر قائدا عاما للجيش وترقيته من صاغ إلى لواء".

 

الحقيقة المخفية هى أن رجال زمن الملكية هم الذين طالبوا بالجمهورية, وطلبوا إسقاط الملكية.. وأن الذى أعلن ذلك بموافقته وإرادته هو "محمد نجيب" نفسه الذى يبرر ذلك بأنه: "مارس أعضاء القيادة ضغوطا مكثفة على, وأقنعونى بأهمية أن نبدو متماسكين أمام الجماهير" وباعتبار أن "أول رئيس لمصر" كان ديمقراطيا من شعر رأسه لأخمص قدميه!! فقد نزل على إرادة الأغلبية وأعلن يوم 18 يونيو عام 1953 سقوط الملكية وأعلن الجمهورية.. وتم إذاعة بيان بذلك وقعه بصفته رئيس الجمهورية.. ويجب أن نعيد قراءة بيان الجمهورية, فما أحوجنا إن نطلع عليه.. ففى هذه اللحظة قد يفرض عليك بيان إسقاط الملكية أن تفكر كثيرا وعميقا فيما يدور حولك!!

 

ذكر البيان بالنص: "لما كانت الثورة عند قيامها تستهدف القضاء على الاستعمار وأعوانه.. وقد بادرت فى 26 يوليو 1952 إلى مطالبة الملك فاروق بالتنازل عن العرش لأنه كان يمثل حجر الزاوية الذى يستند إليه الاستعمار.. ولكن من هذا التاريخ, ومنذ إلغاء الأحزاب وجدت بعض العناصر الرجعية فرصة حياتها ووجودها المستمد من النظام الملكى والذى أجمعت الأمة على المطالبة بالقضاء عليه قضاء لا رجعة فيه.. وأن تاريخ أسرة محمد على كان سلسلة من الخيانات التى ارتكبت فى حق هذا الشعب.. وكان من أولى هذه الخيانات غرق إسماعيل فى ملذاته وإغراق البلاد بالتالى فى ديون عرضت سمعتها وماليتها للخراب.. حتى كان ذلك سببا تعللت به الدول الاستعمارية للنفوذ إلى أرض هذا الوطن الآمن الأمين.. ثم جاء توفيق فأتم هذه الصورة من الخيانة السافرة فى سبيل محافظته على عرشه, فدخلت جيوش الاحتلال أرض مصر لتحمى الغريب على العرش الذى استنجد بأعداء البلاد على أهلها.. وبذا أصبح المستعمر والعرش فى شركة تبادل المنافع, فهذا يعطى القوة لذاك فى نظير المنفعة المتابدلة.. وقد فاق فاروق كل من سبقوه فى هذه الشجرة.. فأثرى وفجر وطغى وتجبر وكفر فخط لنفسه نهايته ومصيره.. فآن للبلاد أن تتحرر من كل أثر من آثار العبودية التى فرضت عليها نتيجة لهذه الأوضاع.. فنعلن اليوم باسم الشعب إلغاء النظام الملكى وحكم أسرة محمد على مع إلغاء الألقاب من أفراد هذه الأسرة.. وإعلان الجمهورية وتولى الرئيس اللواء أركان حرب محمد نجيب قائد الثورة رئاسة الجمهورية مع احتفاظه بسلطته الحالية, فى ظل الدستور المؤقت الصادر فى 10 فبراير 1953.. ويستمر هذا النظام طوال فترة الانتقال, ويكون للشعب الكلمة الأخيرة فى تحديد نوع الجمهورية واختيار شخص الرئيس عند إقرار الدستور الجديد".

 

كان الذهاب إلى إعلان الجمهورية وإلغاء الملكية, قرارا اتخذه ممثلوا الأحزاب السياسية التى كانت قائمة بما فيهم "جماعة الإخوان".. وتلك حقيقة تم طمسها والتعتيم عليها.. وكان إصرار رجال الثورة على تحقيق الجلاء التام للاستعمار, لا يقبل أدنى مساومة لديهم أو مناقشة حوله.. وقد تأكد ذلك للسفير البريطانى, حين عرض ترتيب زيارة يقوم بها "جمال عبد الناصر" إلى قاعدة قناة السويس.. وكان رصد تحركات كل من يراهنون على بريطانيا, قد أصبح واضحا أنه مرفوض ولن يتم السماح به.. كما كان رصد محاولات صناعة مؤامرات سرية, يؤكد أن ذلك لن يمر مرور الكرام.. فالوطن لم يعد رهينة بين من يمارسون لعبة "عض الأصابع" ويستثمرون وضع مصر المحتلة.

 

كل ذلك كشفه بيان "إعلان الجمهورية" الذى تحدث عن أسرة محمد على, دون تناول "محمد على" ذاته بسوء بما يؤكد تقدير دوره فى بناء مصر الحديثة.. وواضح أن البيان تناول الذى أغرق مصر فى الديون - الخديوى اسماعيل - والذى استدعى الاستعمار ومكنه من البلاد وشعبها - الخديوى توفيق - وكذلك من عاث فيها فسادا وبدا "مذعورا" أمام السفير البريطانى الذى وصفه مع رجال قصره بأنهم كانوا "دجاجات مذعورة" يوم 4 فبراير عام 1942 - الملك فاروق - ثم أشار البيان إلى الذين أدمنوا أن يكونوا خدما للاستعمار, وركز على أن الكلمة أصبحت للشعب المصرى.

 

حدث ذلك بإقرار وتوقيع "محمد نجيب" الذى أعلن براءته منه بعد رحيل "عبد الناصر" بأكثر من 14 عاما حين أصدر مذكراته.. والمؤسف أنه تناول المؤسسة العسكرية ورموزها بما يستوجب الحساب والعقاب وفقا للقانون.. لكن شيئا من ذلك لم يحدث, باعتباره المظلوم الذى ذبحته الثورة.. وبقى ما نثره ونشره من أكاذيب تثير البلبلة بالجدل, حتى جاءت لحظة رفع "قميص محمد نجيب" ثم رأينا وزيرا يمجد فى الخديوى إسماعيل علنا.. ووزير آخر يفاخر بصور رجال العهد الملكى البائد فى مكتبه.. ومازالت صفحات مذكرات "أول رئيس لمصر" فيها الكثير..

 

يتبع

 

محمد نجيب" الذى لا يعرفه المصريون!! (20)

إرسال تعليق

0 تعليقات