الدكور جواد كاظم نصر الله
لقد كانت هذه الحادثة سببا في إعادة النبي (ص) إلى مكة.
والآن لنقف عند الروايات أعلاه ونسجل الملاحظات الآتية :
1 - نلاحظ أن الروايات اختلفت في تحديد المكان الذي وقعت فيه
الحادثة . هل خلف بيت حليمة ؟ أم كان النبي منتبذ في بطن واد مع أتراب له ؟ فهل
وقعت مرة أم مرتين ؟
2- الاختلاف في عدد الأطفال الذين كانوا مع الرسول (صلى الله عليه
وآله) ، ففي رواية إن النبي (ص) مع أخ له فقط ، وفي رواية أخرى كان النبي (ص) مع
أخيه وأخته، وثالثة كان معه عدد من الصبيان(مع أتراب لي).
3- التباين في حال النبي (ص) وقت الحادثة هل انه يرعى بهما خلف
البيوت، أم يلعب مع أقرانه يتقاذفون بالجلة؟
4ـ التباين في الذي أخبر حليمة بالحادثة؟ هل أخوه من الرضاعة؟ أم
أترابه؟ أم النبي نفسه؟
5- أن الروايات تباينت في عدد وهيأة الملائكة ؟ فتارة على هيئة
البشر، ولكن اختلف في عددهم هل واحد أم اثنين أم ثلاثة ؟ وتارة طائران ، وحددتهما
إحدى الروايات بكونهما كركين ، أو كأنهما نسرين ؟ وتارة ملكين ؟ وأخرى جبرئيل
لوحده ؟
6 - خلطت إحدى الروايات بين هذه الحادثة وحادثة مشابهة ، إذ أشارت
الروايات أنها وقعت في مكة، فأشارت أن قلب النبي (ص) غسل بماء زمزم مع أن الحادثة
وقعت وهو في ديار بني سعد؟
7 - وتباينت الروايات في المستخرج من قلب النبي هل هي علقة أم مضغة
سوداء، واختلف في العلقة المستخرجة والتي كان فيها حظ الشيطان ؟!! هل علقة واحدة
أم علقتان ؟
8- هل ما حصل للنبي (ص) ترك أثرا سلبيا في نفسه وخاف منهم ؟ إذن هل
حاول الهرب ؟ أو هل أبدى مقاومة ؟ أم انه أدرك أنهم من الملائكة ؟
9- والغريب إن واحدا من الصحابة وبعد أكثر من خمسين سنة رأى أثر
ذلك المخيط في صدر الرسول ((ص)) ؟ في الوقت الذي لم تر واحدة من زوجاته ذلك المخيط
؟!
10- ذكرت بعض الروايات أن الملائكة وزنت الرسول (صلى الله عليه
وآله) بأمته ففاق أمته . لكن يا ترى كيف تم هذا الميزان ؟ وما هو نوع الميزان الذي
وزن فيه ؟
11- ومما يلاحظ أيضا هو أن بعض الروايات أشارت إلى أن عملية غسل
قلبه (ص) كانت في طست من ذهب، في حين نلاحظ أن روايات أخرى لا تذكر هذا الطست ؟
12- يظهر من الرواية إن القصد من هذه العملية هو تنقية قلب النبي
(ص) . ولكن السؤال : إن النبي (ص) كان له من العمر اقل من خمس سنوات فأنى تسربت
الذنوب إلى قلبه الشريف ؟ ولو قلنا بصحة وجود شيء من هذا فهل تطهيره يتم بهذه
الطريقة ؟ أم هل العقائد والتوبة تطهر بالماء ؟ .
13- إن هذه الحادثة تتنافى مع الحقيقة القرآنية التي تؤكد أن لا
سبيل للشيطان إلى عباد الله المخلصين وفي مقدمتهم النبي محمد (ص) : كقوله تعالى ((
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)) ، وقوله (( قَالَ رَبِّ بِمَا
أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، وقوله (( إِنَّهُ لَيْسَ
لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)) .
14- إن أصل الرواية جاهلي مأخوذة عن أهل الجاهلية ، فقد جاء : أن
أمية بن أبي الصلت كان نائما ؟ فجاء طائران فوقع احدهما على باب البيت ، ودخل
الآخر فشق عن قلب أمية ثم رده الطائر ، فقال له الطائر الآخر : أوعى ؟؟ قال : نعم
. قال : زكا ؟ قال : أبى . وفي رواية أخرى : انه دخل ، فنام على سرير في ناحية
البيت ، قال : فانشق جانب من السقف في البيت ، وإذا بطائرين قد وقع احدهما على
صدره ووقف الآخر مكانه ، فشق الواقع على صدره ، فاخرج قلبه ، فقال الطائر الواقف
للطائر الذي على صدره : أوعى ؟ قال : وعى . قال : اقبل ؟ قال : أبى قـال : فـرد
قلبـه فـي موضعـه ... ثـم تذكـر الروايـة تكـرار الشـق لـه أربـع مـرات.
15ـ ونستشف من روايات أخرى إن الحادثة قد تكررت في أماكن عدة في
زمزم والحطيم وحول الكعبة، وفي بعض بطحاء مكة، وفي بيت النبي (ص ) وفي الصحراء؟
فلماذا هذا التكرار ؟ وما السر في هذا الأسلوب مع النبي وشق صدره مرارا ؟ هل هذا
يعني فشل الحالات السابقة ؟ أم إن تلك العلقة السوداء تعاود النمو في قلب النبي
مما يستدعي استئصالها من جديد !
إن هذه الحادثة كانت سببا في إثارة المخاوف لدى حليمة السعدية
فاضطرت إلى إعادة النبي إلى مكة وهو قد أكمل خمس سنوات. وهنا نسجل ملاحظات عامة
حول هذه النشأة :
1 ـ لم يتضح السبب الواقعي لأخذ النبي (ص) وإرضاعه في بني سعد .
2 ـ لماذا لم ترضعه أمه ؟ ثم كيف استطاعت فراق وليدها الصغير
واليتيم ، وهي بالأمس قد فقدت زوجها في عنفوان شبابه ؟
3 ـ ما الحكمة من بقاء النبي (ص) هذه المدة من طفولته ،إذ يفارق
أمه وجده ومدينته لخمس أو ست سنوات ؟
4 ـ لم توضح الروايات كيف عاش النبي في ديار بني سعد ؟ ما خلا
إشارتها إلى رعيه البهم ؟
5 ـ لم تشر الروايات إلى الأطفال الذين اخذوا مع النبي ؟ ولا إلى
علاقة النبي بهؤلاء الأطفال ؟ ومتى عادوا إلى مكة ؟
6 ـ يظهر دورُ واضح ُللكهان والنصارى ، فهل يفسر لنا هذا اصطناع
الروايات بوقت متأخر لتدلل على امتلاكهم العلم ؟
7 ـ وجود رواة من بني سعد مجهولي الحال يلقي بظلاله على الموضوع .
8 ـ وجود راو من ذرية أبي لهب ربما يفسر لنا تلك الروايات الخاصة
بثويبة وأبي لهب ؟
9 ـ سلسلة السند : إن الوقوف عند سند الروايات التي تحدثت عن نشأة
النبي (ص) في ديار بني سعد يدعونا للتأمل إذ إن :
أ ـ اغلب الروايات مرسلة .
ب ـ إن رواتها مابين ضعيف ومدلس ومجهول ووضاع ومتروك ولا يعتمد على
كلامه.
ج - لا يخلو إسناد الروايات من راوٍ مجهول مثل جهم بن أبي جهم مولى
لزوجة الحارث بن حاطب الجمحي، إلا إن كتب الرجال أنكرته، إذ قال ابن عدي: (( مجهول
لا يعرف له اسم ، وخبره منكر )) ، وقال الذهبي ، وابن حجر: (( لا يعرف ، له قصة
حليمة السعدية )) ، وكذلك قال الهيثمي: (( لا أعرفه )) . ولم نجد له ذكراً إلا في
قصة حليمة السعدية فقط التي ذكرها ابن إسحاق .
د ـ هناك رواة يظهر أنهم من بني سعد كزكريا بن يحيى بن يزيد السعدي
الذي يروي عن أبيه ، وكذلك عبد الصمد بن محمد السعدي والذي يروي عن أبيه عن جده ،
إلا أننا لم نجد لهم أي خبر أو أثر في كتب التاريخ والتراجم .
هـ ـ وهناك روايات مأخوذة عن أشخاص لا تعرف حتى أسماؤهم فضلا عن تراجمهم
، فجهم بن أبي الجهم الذي رأينا انه شخصية مجهولة الحال، فانه يروي عمن سمع عبد
الله بن جعفر ، وهذا الذي سمع مجهول فلا نعرف حتى اسمه ، ثم إن السند يشير إن عبد
الله بن جعفر بن أبي طالب يقول : حُدثت عن حليمة ابنة الحارث ، وهنا السؤال أيضا :
من هذا الذي سمع حليمة وحدث عبد الله . فسلسلة السند التي يذكرها ابن إسحاق والتي
تحكي تفاصيل أكثر عن قصة حليمة ورضاعتها للنبي (ص) رواتها مجاهيل وقد أقحم اسم عبد
الله بن جعفر في السلسلة .
و ـ وفي رواية لابن إسحاق عن خالد بن معدان الذي مرت ترجمته ،
ورأينا انه كان مدلسا فانه رمى العهدة على " أصحاب رسول الله " ، وهنا
فانه لم يسمعها من صحابي واحد حسب زعمه وإنما من عدة أصحاب ! فلم لا يذكر لنا
أسماء أولئك الأصحاب ؟ فهل صحابة الرسول (ص) مجاهيل الحال ولا تعرف أسمائهم ؟ أم
انه نسى أسمائهم ؟ فهلا ذكر احدهم ؟
ز ـ بل إن ابن إسحاق نفسه يورد بعض رواياته عن مجاهيل بقوله : عن
بعض أهل العلم ، فيا ترى هل أن ابن اسحق ذلك المؤرخ المتتبع لا يعرف من هم أولئك
أهل العلم ؟ أم تراه لا يرى إنهم من أهل العلم حقيقة ، ولكنه ذكرها من باب كونه
يذكرها كمؤرخ يورد الروايات بغض النظر عن القول بصحتها .
ح ـ ويظهر إن ابن إسحاق يشكك في بعض ما يرويه ، إذ نجده يورد
ألفاظاً تفيد التشكيك كأقواله : ( وزعم الناس ، يزعمون ) .
ط - واسند ابن إسحاق إحدى رواياته عن رجال من بني سعد ، فيما اسند
ابن سعد في سند إحدى رواياته ( عن شيخ من بني سعد ) ، واسند الطبري إحدى رواياته
عن شيخ من بني عامر ؟ فيما اسند الاصبهاني عن بعض من كان يرعى غنم حليمة ، فيا ترى
من هم أولئك رجال سند ابن إسحاق ، ومن هو شيخ بني سعد ، وشيخ بني عامر ، ومن هم
رعاة حليمة ؟
بعد هذه الدراسة للروايات التي أشارت إلى حياة الرسول (ص) في بني
سعد ، تبين إن ما ذكر يتنافى مع الواقع التاريخي، إذ لا نجد مصاديق لحالات إرضاع
لشخصيات قرشية، كما لم يتضح هل إن طلب الإرضاع خاص ببني سعد أم بسائر القبائل
العربية، وهذا ما لم نجد ما يدعمه، ثم إن الإرضاع لا يتجاوز السنتين فلماذا بقي
هذه المدة . أما ما يخص مسألة شق الصدر ، فالمسألة في واقع الحال تحتاج لمزيد من
التأمل .
إذن يا ترى ما تفسير روايات تربية النبي (ص) في بني سعد :
ـ هل تعود هذه الروايات لخلق فضائل لقبيلة بني سعد ! خاصة وانه بعد
الإسلام أخذت القبائل تدعي القرب من الرسول (ص) !
ـ أم إن الأمر لا يبعد من تدخل الأثر الإسرائيلي وربطه بحادثة
الإرضاع الخاصة بالنبي موسى عليه السلام، والذي رفض المراضع، إلا إن النبي محمد
(ص) رُفض من قبل المراضع ، وفي هذا فضيلة لموسى عليه السلام على النبي محمد (ص) .
إذن يتضح إن وجود النبي (ص) في ديار بني سعد بحاجة إلى إعادة نظر
إذ لم تقو الأدلة على تأكيد صحته ، والظاهر إنه (ص) عاش في مكة وفي أحضان والدته
آمنة وبرعاية جده عبد المطلب الذي حدب عليه كثيراً ، وأولاه من الرعاية لما كان
يتفرس به من شمائل الأصالة . إلا إن الروايات لم تقدم لنا شيئاً عن هذه الفترة المبكرة
من حياة النبي (ص) . ما خلا الروايات التي عرضناها أعلاه عن تربيته صلى الله عليه
وآله في بني سعد . مكتفية بالإشارة انه لما بلغ السادسة من عمره ذهبت به أمه آمنة
إلى أخواله بني عدي بن النجار في يثرب ( المدينة المنورة ) ، وفي أثناء عودتها
لمكة توفيت في الطريق.
هل أرضعت حليمة السعدية النبي (ص)؟ (3)
0 تعليقات