آخر الأخبار

معاهدة فرساي. التداعيات..والسقوط (3)

 



 

ناجى عباس

 

لم تكتف القوى الاستعمارية التقليدية بإجبار ألمانيا على توقيع اتفاقية مجحفة ومذلة، بل عمدت الى تضمين المعاهدة ما يمنع من عودة ألمانيا الى ماكانت عليه من قوة مرة أخرى ..ومن ذلك على سبيل المثال وضع قيود على شكل وحركة وحجم الجيش الألماني .

 

فرضت فرنسا وبريطانيا - بالدرجة الأولى - قيوداً عسكرية شديدة على الرايخ الألماني، فبموجب معاهدة فرساي كان على ألمانيا أن تقبل بتحديد سقف لقواتها المسلحة - وبحيث لا تزيد عن مائة ألف جندي وضابط فقط للقوات البرية ، وإلا تزيد قوتها البحرية عن خمسة عشر ألف بالإضافة إلى ذلك ، تم إلغاء التجنيد الإجباري العام و وحل الأكاديمية العسكرية وهيئة الأركان العامة في الجيش الألماني، كما تم حظر بقاء فروع عسكرية وأسلحة معينة داخل الجيش، إضافة إلى ذلك كان على جميع القوات الألمانية التي كانت لا تزال متمركزة على الأراضي الروسية سابقًا الانسحاب إلى ألمانيا بحدودها الجغرافية الجديدة..

 

باختصار فقدت ألمانيا ليس فقط سيادتها الوطنية بل ايضاً مكانتها العسكرية كقوة عظمى. ..وحاولت في العشرينيات عدة مرات الالتفاف على هذه القيود دون جدوى.

 

ولم يكن ذلك هو كل شيء...كان هناك أيضا القيود الاقتصادية والتعويضات.

 

اتفقت الدول المنتصرة على " بتر أطراف و " ختان " القوة الاقتصادية العظمى لألمانيا..فبموجب معاهدة فرساي فقدت الإمبراطورية الألمانية ليس فقط أسطولها البحري العسكري فحسب ، بل فقدت أيضًا أسطولها التجاري، والذي كان لا غنى عنه لألمانيا - البلد المصدّر الأول في العالم في ذلك الوقت، ولم تكتف الدول المنتصرة بذلك - بل أصرت على تضمين اتفاقية فرساي سلب ألمانيا ما تملكه في الخارج من حقوق، وصودرت الشركات الألمانية في الخارج وأُغلقت تماماً الكثير من الأسواق أمام الصادرات الألمانية. وجرى تفصيل قانون " الدول الأكثر تفضيلًا للدول الحليفة - بحيث تتحول تلك الدول إلى أسواق لصادرات الدول المنتصرة - دون المعاملة بالمثل ، إضافة إلى ذلك جرى انتقاص السيادة الألمانية على شركة Reichsbahn السكك الحديدية الألمانية داخل وخارج ألمانيا ومنح الحلفاء أنفسهم مزايا خاصة على حساب ألمانيا في مجال الطيران والشحن ، كما تم تدويل كل الأنهار الألمانية. !!!

 

فرض الحلفاء الأساس القانوني للتعويضات عبر ما أسموه " الطرف المتسبب في الحرب - وصاغوا ذلك بشكل مذل وعلى نحو يحول ألمانيا بشكل كامل الى رهينة - وبنفس الطريقة التي تكررت لاحقاً مع العراق بعد سقوط بغداد ..

 

اعتبرت معاهدة فرساي ان الرايخ الألماني وحده هو من يتحمل المسؤولية الكاملة عن الحرب والأضرار التي سببتها للحلفاء ، وبالتالي تم إجبار ألمانيا على دفع تعويضات مالية وتعمدت الدول المنتصرة ترك مبلغ التعويضات مفتوحاً دون سقف ..هذا ما تضمنته معاهدة فرساي ..

 

لم تعلم ألمانيا في البداية حجم التعويضات الذي سيكون عليها ان تدفعه..كل ما عرفته ان عليها في البداية جمع ما قيمته في ذلك الوقت عشرين مليار مارك ذهبي من الذهب أو البضائع أو السفن أو الأوراق المالية أو غير ذلك كدفعة أولى بحلول عام 1921. وبعد ذلك سيرى الحلفاء كم سيكون حجم الدفعات الأخرى !!!

 

ولاحقاً، وبعد مفاوضات متكررة حاول الحلفاء فرض فقرة " عُرفت بالفقرة "232 " من المعاهدة تقضي بتحمّل ألمانيا مسؤولية الحرب بالكامل وتقديم التعويضات للأطراف المتضرّرة وقدّرت تلك التعويضات بـ 269 بليون مارك ألماني ذهبي..وبعد اعتراض ألمانيا خُفّض هذا المبلغ الى 132 بليون مارك ذهبي، وباتت ألمانيا رهينة الديون بسبب التعويضات للأطراف المنتصرة والمتضرّرة من الحرب، وأثقلت الديون عاتق ألمانيا وانعكس ذلك على معيشة الناس، ما تسبب في رفع درجة الرفض الشعبي الذي اعتبر التعويضات مذلة بشكل مهين لألمانيا، وظلت ملفاً خلافياً بين ألمانيا ودول الحلفاء حتى عام 1932، وساهمت تلك القضية بشكل كبير في ان يميل الغالبية العظمى من الشعب الألماني - وبدافع وطني الى الأطروحات التي كانت تروجها القوى اليمينية المتطرفة وعلى الأخص منها الحزب القومي - النازي - باعتباره القوة السياسية الناشئة التي ستعيد حقوق ألمانيا مرة أخرى وتلغي المعاهدة المذلة والمهينة.

 

استمرت قضية التعويضات ناراً تحت الرماد توفر الأسباب لحرب جديدة في أوروبا، رغم التفاوض حولها في العديد من المؤتمرات..كانت المعاهدة وظلت حتى سقوطها موضع نزاع هائل بين إطرافها، ولم يتم تسوية هذا النزاع حتى مؤتمر لوزان في عام 1932.

 

اعتبر الرأي العام الألماني بكل شرائحه وطبقاته ونُخبه السياسية والثقافية معاهدة فرساي بمثابة " معاهدة السلام المخجل والمذل " لم تكن أكثر من معاهدة " لإملاء سلام بالقوة " " وكان يُنظر إليها على أنها معاهدة الإذلال الوطني وانتقاص السيادة على الحقوق، ولم يكن أحد في ألمانيا يشك في ان تلك المعاهدة يجب تعديلها أو إسقاطها - حتى ولو بحرب جديدة ضد كل من فرض تلك المعاهدة على الشعب الألماني - أصبح إسقاط أو تعديل معاهدة فرساي هدفًا مهماً ورئيسياً للسياسة الخارجية لجمهورية فايمار.

 

بات هناك ظرف دولي جديد..وظروف موضوعية داخلية تفرض نفسها..وبات الشعب مستعداً بشكل كامل للالتفاف حول أية قوة سياسية تزيح المهانة الوطنية..حتى ولو كان الشيطان نفسه..ولمحت القوى القومية المتطرفة " النازية " فرصتها.

 

وسقطت معاهدة فرساي..ولكن بعد ان أدّت الى وصول آدولف هتلر الى السلطة وإشعال الحرب العالمية الثانية

 

وكل عام وانتم بخير

 

محتوى وتأثير معاهدة فرساي(2)

إرسال تعليق

0 تعليقات