نصر القفاص
عندما انفجرت "ثورة 1919" فى مصر.. حاولت بريطانيا
إخمادها ففشلت.. اتجهت إلى محاولة ترويضها بابتكار, حقق لها نجاحا لسنوات طوال..
كان "الابتكار الانجليزي" هو منح مصر استقلال صوريا أطلقوا عليه
"تصريح 28 فبراير 1922" وبموجبه بقيت بريطانيا تسيطر على ثروات ومقدرات
مصر.. وكل ما حدث أنها أخذت خطوتين للخلف, وقدمت إلى الواجهة ما تسميه "موانع
الصواعق"!!
حكاية "موانع الصواعق" التى تم تطبيقها فى مطلع القرن
العشرين سياسيا.. تحولت إلى نظرية اقتصادية يتم من خلالها ضمان السيطرة على ثروات
مستعمراتها القديمة, عبر ما أصبح معروفا باسم "أوف شور" وهو عالم له
نظام سياسى "ديمقراطى".. لكنها ديمقراطية جديدة تماما غير التى تتحدث
عنها أو تحلم بها.. وغير التى تطبقها بريطانيا أو الولايات المتحدة على أرضها!!
كان الاستقلال الصورى الذى منحته بريطانيا لمصر, يقوم على إلهاء
حاكمها - الملك - وأحزابها والشعب بالديمقراطية والدستور.. وبهذه اللعبة عاشت مصر
"دوامات ديمقراطية" لنحو ثلاثين عاما.. كانت عبارة عن انتخابات.. أغلبية
وأقلية.. حكام ومعارضة.. دستور لا احترام له.. ويمسك "قصر الدوبارة"
كمقر للحاكم البريطانى, بخيوط اللعبة.. فهم تارة مع الملك ضد الأحزاب.. وتارة
ينصفون هذا الحزب, ضد ذاك.. وتارة مع ذلك الحزب ضد الملك.. المهم ألا تستقر
الأوضاع, وتبقى على ما كانت عليه.. وعلى المتضرر أن يلجأ إلى الدستور
والديمقراطية!! دون أن يكون عند السفير البريطانى أى مانع من دهس الدستور أو
"مرمطة" الديمقراطية, طالما أن هذا يضمن استمرار سيطرتهم على مصر ونهب
ثرواتها.. أى أن الاستعمار استخدم الملك والأحزاب ليكونوا "مانع
للصواعق" السياسية!!
عندما تكسرت الإمبراطورية البريطانية وقرينتها الفرنسية, على صخرة
"حرب السويس 1956".. تحرك الاستعمار القديم لتطوير نفسه.. ابتكروا نظام اقتصادي
"مانع للصواعق" وأطلقوا عليه "أوف شور" وعندما فشلت الولايات
المتحدة الأمريكية فى التصدى له.. قررت أن تلعب اللعبة نفسها معهم.. والمثير أن
"الصين" تورطت فى اللعبة, وراحت تمارسها.. لدرجة أنه خلال "قمة
العشرين" عام 2009 قاتل رئيس الوزراء الصينى ضد "باراك أوباما"
ليبعد إدراج كل من "هونج كونج" و"مكاو" من قائمة
"الملاذات الآمنة" سيئة السمعة!! ونجح فى ذلك بتواطوء باقى الدول التى
تمثل أقوى عشرين اقتصادا فى العالم.. لأنهم جميعا مستفيدون من ثمار "أوف
شور" التى تصعد دائما لأعلى, ولا تنزل لأسفل على الفقراء!!
عالم "أوف شور" له ديمقراطية على مقاس الفساد!!
كان هذا الاقتصاد السرى "ابن حرام" يتبرأ منه الذين
يمارسونه.. لكن خطابا يحمل وصف "سرى جدا" صدر عن البنك المركزى
البريطانى.. بتاريخ 11 ابريل عام 1969 تضمن رؤية تقلب إبن الحرام - أوف شور - إلى
صاحب حسب ونسب!! وتتسابق الدول على التفاخر بتبنيه.. بشرط ألا يلوث سمعة الدول
التى ترعاه.. ولكى يتحقق ذلك لابد من تفصيل نظام سياسى يترعرع فيه هذا
"اللقيط"!!
كان مهما أن يكون النظام السياسى المبتكر "ديمقراطى"..
لكنها "ديمقراطية بلياتشو" بمعنى أن تكون "شبه ديمقراطية" أو
قل عنها ديمقراطية كلعب الأطفال, ترضى غرور الشعوب الساذجة.. يتكسب منها
"أحفاد المستعمر" والمبهورين بممارسة الوجاهة السياسية!!
ماذا جاء فى المذكرة السرية!!
قالت: "ينبغى علينا أن نتأكد من تكاثر محتمل لشركات الائتمان والبنوك,
والتى ستكون غالبا مجرد لافتات نحاسية للتلاعب بالأصول وتهريبها خارج مقراتها..
وهذا لا يجب أن يخرج عن نطاق سيطرتنا وتحكمنا.. نحن يجب ألا نمانع فى أن تقوم هذه
الشركات والبنوك بتوفير مخابئ للمودعين.. المهم أن نتأكد ونضمن عدم خروج الأموال
إلى خارج منطقة الاسترلينى لتبقى خاضعة لأحكام المملكة المتحدة".
تمت دراسة الرؤية.. وبناء عليه تحولت إلى نظام اقتصادي يلبس ثوب
"البلياتشو السياسى" وذلك استدعى صدور قانون ينص على أن منطقة
الاسترلينى تقتصر على بريطانيا وأيرلندا, والمناطق التابعة للتاج البريطانى.. وهذا
يعنى أن الجزر التابعة لهم, وتم استهدافها لتكون ملاذات آمنة - أوف شور - يجب أن
تكون لها عملتها الخاصة.. حماية للمملكة المتحدة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا
وثقافيا.. فأصبح لجزر "كايمان" عملة خاصة بها هى "الدولار
الكايمانى" ويساوى 1,2 دولار أمريكي.. واعتبارا من عام 1972 أصيب كل من كان
يجاهر باعتبار هذه الملاذات جريمة بالخرس.. قل أنهم اختفوا ولا مانع من وجود
صحفيين يعلنون رفضهم!! المهم أن الساسة لا يتناولون هذا الموضوع - أغلبية ومعارضة
- بجدية.. من حقهم القول أن "الملاذات الآمنة" تضر الاقتصاد العالمى..
تلك فقط هى حدودهم!!وراحت وزارة "تنمية مناطق ما وراء البحار"
البريطانية تتبنى رعاية عشرة آلاف يمثلون سكان جزيرة "كايمان".. كثر
الحديث عن الأخذ بأيدي الفقراء فى الجزيرة ورفع مستوى حياتهم.. تحدثوا عن جزيرة
ترعى فيها أسراب الذباب والبعوض.. وتعاطفوا مع الأهالى الذين يعيشون وسط مستنقعات
وأكوام القمامة, لدرجة أن الرائحة الكريهة كفيلة بقتل حصان!! طالبوا بتغيير واقع
جعل مكاتب الموظفين يعيش فيها النمل الأبيض.. وأصبح مطلوبا من "كنث
كرووك" الحاكم البريطانى للجزر بأن يغير هذا الواقع الأسود والمؤلم!!
دارت "ماكينة التزييف" تحت إشراف "كنث كرووك"
الذى تعينه الملكة حاكما بناء على ترشيح من الحكومة, ليكون أقوى وأهم شخص فى
الجزيرة.. يعمل معه مجلس وزراء يتم تشكيله من أبناء الجزيرة.. تجرى انتخابات -
صورية - لاختيار نواب الشعب الكايمانى, وهم فى حقيقة الأمر يختارهم
"الحاكم" لينجحوا خلال مهرجان ينافسهم فيه بعض الطيبين والسذج
والمستبعدين من رحمة "الحاكم" ورجاله!! وتتشكل محكمة استئناف بمواصفات
ملكية.. ويكون للجزيرة نشيد قومى ضمن كلماته "حفظ الله الملكة" ولا يكون
للبرلمان دور أكثر من أن يبصم أعضاؤه على ما تعده الحكومة - الحاكم - من قوانين..
لا مانع من أن يتحدثوا أحيانا عن مشكلات بسيطة يعانى منها الناس.. وطبعا كافة
الأمور الخاصة بشئون الدفاع والخارجية والأمن والمالية, هى من اختصاص
"الحاكم" ومعه الوزراء الذين تصدق على اختيارهم الملكة.. وعلى الإعلام
فى الجزيرة أن يربط بين رفاهية الناس وتبعية الجزيرة للتاج البريطانى.. يجب أن
يكون هناك شبه إجماع على "لا نريد الاستقلال" مع إقناعهم بأن بريطانيا
لا تتدخل فى شئونهم.. وذلك يتحقق بوضع أكبر عدد من السكان فى مقاعد المسئولية -
شعبية أو تنفيذية - عليهم أم يتخذوا القرارات الصعبة ليقوموا بدور "موانع
الصواعق" التى لا تسمح إطلاقا بأى أصوات ضد بريطانيا أن تتحدث أو تعترض..
يعنى 99% من أوراق اللعبة فى "لندن"!
تفاصيل هذه "الديمقراطية البلياتشو" قدمها "نيكولاس
شاكسون" وهو كاتب صحفى بريطانى فى كتابه "مافيا اختفاء الأموال
المنهوبة" الذى ترجمته الدكتورة "فاطمة نصر" ولعلى أكرر ذلك تجنبا
لتطفل بعض السذج الذين يرون فيما أكتب "إسقاط" كما علق أحدهم من قبل..
وغيره قال لى "إتكلم بصراحة إذا كنت تملك شجاعة"!! والحقيقة أننى لا
أمارس "إسقاط" ولا تعوزنى "شجاعة" وما أفعله هو كشف ألاعيب
الاستعمار بأقلام تمارس الحرية وتكتب ما تشاء فى بريطانيا التى حصنوها ضد عالم
"أوف شور" وضد "ديمقراطية البلياتشو" التى باعوها لنا!!
يقول أحد ساسة "كايمان" الذى يتمتع بمنصب رفيع:
"المملكة المتحدة تريد أن تتحكم فى الجزيرة على أن تبدو أنها لا تسيطر على
شىء.. تريد النفوذ دون مسئولية.. وإذا ساءت الأمور سيقولون لنا.. أنتم المسئولون
لأنكم تمارسون الديمقراطية"!! وأضاف قائلا: "دورنا هو إخفاء الواقع عن
الناس.. تجميله.. ونحن وصلنا بالأغلبية أنها أصبحت تصدق أننا ندير شئون البلاد
ونسيطر عليها.. ونطالبهم دائما بالحرص على القارب - الجزيرة - وعدم تعريضها
للارتجاج حتى لا يخسر الجميع"!! وذلك عبر عنه "روى بودن" الوزير
الأسبق الذى ألف كتاب "تاريخ جزر كايمان" فقال أنه خلال حرب
"فوكلاند" بين بريطانيا والأرجنتين عام 1982, رفع الأهالى شعار
"أمك تحتاج مساعدتك" لدعم بريطانيا وجمعوا تبرعات وصلت إلى مليون دولار
وأرسلوها إلى لندن كمساهمة فى المجهود الحربى"!!
إنقلبت أحوال الجزيرة بالتأكيد.. أصبحت تمثل خامس أكبر مركز مالى
فى العالم.. ويحصل أهلها على الفتات بينما بضع عشرات من المحامين والمحاسبين
والمستشارين يحصلون على ملايين كل شهر.. وعلى أرض الجزيرة يتم غسل مئات المليارات
من الأموال القذرة.. أموال مخدرات وقمار ودعارة وإرهاب وتجسس.. وقد ألف
"كايسى جيل" المحامى كتابا عنوانه "مغريات جزر كايمان" ذكر
فيه أن المحاسبين كانوا يزورون كايمان بطائرات خاصة لعقد حلقات نقاش, تستهدف تطوير
نظام "أوف شور" ويضعون التشريعات المطلوب إقرارها لكى تتبناها الحكومة
و"يبصم" عليها برلمان الجزيرة!! وتناول أحد صحفيين أمريكا اللاتينية ما
يحدث, فكتب موضحا أن 1400 - ألف وأربعمائة - شركة مسجلة فى "كايمان" وكل
منها تتدفق عليها مليارات أمريكا الوسطى والجنوبية.. أحيانا تنقل الأموال طائرات
خاصة تحمل حقائب سفر مكظتة بالدولارات.. وعادة هم يطلبون حراسة لمرافقتهم إلى
البنوك لإيداعها.. وهناك تستقبلهن فاتنات يرتدين "بنطلونات" ضيقة وأحذية
ذات كعب عال ويمشين على سجاد سميك فاخر.. تفوح منهن عطورا باهظة الثمن.. وذكر أحد
رجال العصابات فى "كولومبيا" أنهم كانوا يغمرون "فلوريدا"
بالكوكايين الذى تطير أمواله إلى "كايمان" لتقوم بتنظيفها وإرسالها إلى
بنك الاحتياط الفيدرالى الأمريكى.
استمد قانون "كايمان" للشركات نصوصه من قانون يرجع
تاريخه إلى عام 1862 كان قد تم إعداده لإدارة المستعمرات فى أقصى شرق آسيا ودول
إفريقية.. وهو قانون يجعل أمر اختفاء 200 مليون دولار.. مجرد حادث عابر, لأنه لا
يجوز مقاضاة من سرقهم وإلا تم التعرف على صاحبهم ومصدرهم!!
أعلم أن تلك "القصص المسلية" تستثير فضول من يريدون أن
يعرفوا ويفهموا.. وأنها تستثير غضب الذين يبحثون لأقدامهم عن مكان على أرض الفساد
والرشوة عبر ممارسة هواية يحبونها اسمها "النفاق"!! المهم أن يجدوا
مقعدا فى عالم "أوف شور" ليشاركوا فى بطولة فيلم "ديمقراطية
البلياتشو"!!..
يتبع
0 تعليقات