نصر القفاص
جزر "كايمان" كانت المعمل الذى تم إعداد التجربة داخله..
حققت نجاحا مذهلا, فكان الاتجاه إلى التطوير والتحديث فى جزر "جيرسى"
وهى واحدة من توابع التاج البريطانى.. تدفق عليها عسكريون متقاعدون ورجال مال
ومحامون, يبحثون عن طريقة للهرب بمدخراتهم من الضرائب.. إضافة إلى أن الحكومة
البريطانية كانت تبعد إليها, من يحاولون تهريب أموال فرنسا وبلجيكا وروسيا
والمجر.. كل هؤلاء يتم دفعهم بأموالهم إلى حيث الأمان للأموال المشبوهة.
هنا "جيرسى" عاصمة "أوف شور" فى الدنيا!
هنا يتم استقبال أموال من إفريقيا والشرق الأوسط.. وأيضا الشرق
الأقصى.. والإغراء بالذهاب إليها يكشف سره "كولن باول" الرئيس السابق
لمفوضية "جيرسى" للخدمات المالية.. فيقول: "إذا كنت تعيش فى واحدة
من دول الشرق الأوسط.. خاصة الدول العربية, وأردت الاستثمار فى لندن.. لا داعى لأن
تسجلها باسمك, لأنه فى هذه الحالة ستحصل الحكومة منك على ضريبة تركات فى حالة
وفاتك.. الحل هو أن تؤسس شركة فى جيرسى تشترى باسمك وتبيع, ويتم الاحتفاظ بأموالك
هناك مقابل نسبة زهيدة هى أقل بكثير مما كنت ستدفعه كضرائب.. وستجد فى الجزيرة
بنوك عالمية وأفرع لبنوك تجارية كبرى مثل هامبروس وليودز لتتأكد أن كل ذلك يحدث
برعاية بريطانية رسمية"!!
تتمتع "جيرسى" بنظام سياسى تحكمه "ديمرقاطية
البلياتشو" فالحاكم يتم تعيينه بترشيح من الحكومة البريطانية.. تصدق عليه
الملكة ليحكم باسمها.. يعاونه مجلس وزراء كل أعضائه يتمتعون بالأدب وفضيلة
"الطاعة" مدفوعة الثمن!! وللجزيرة برلمان يتم تشكيله بالانتخاب.. يحدد
الحاكم من يختارهم للنجاح, لينافسوا المستبعدين من رحمة الحاكم.. عادة ينجح كل
رجال الحكم.. ثم تبدأ عملية جديدة لترويض من تم إسقاطهم بأصوات شعب
"جيرسى" وتتضمن هذه العملية إختبارهم فى وظائف صغيرة, تحقق لهم أموال
جيدة.. ومن يثبت كفاءة يترقى ليجنى أموال أكثر, وتتفتح أمامه أبواب الترقى ليكون
نائبا أو وزيرا!! بذلك ينتقل من فئة المشاهدين للأثرياء, إلى صاحب دور صامت فى
مسرحية "الثراء للفاسدين"!! ولا يجب أن نغفل ما حدث من تحديث للجزيرة
التى أصبح فيها منتجعات وفنادق وأبراج إدارية شاهقة وفروع بنوك عالمية وصالات قمار
فاخرة بكل ما يجب أن يكون حولها من حياة بذخ وترف للمودعين والقادرين على دخول
"مغارة على بابا"!!
كل المودعين.. ليس أغلبهم أو بعضهم يملكون "أموال قذرة"
لا يستوعبها غير عالم "أوف شور" السحرى.. معظمهم من دول إفريقية
وعربية.. يقول "مارتن سكريفين" المدير السابق لبنك "باركليز"
فى "برمنجهام" والذى أصبح الأمين العام لاتحاد مصرفى "جيرسى"
عن تجربته: "أتيت إلى هنا لأرى الجانب الآخر من الصورة.. فقد كنا فى بنك
"باركليز" نقرض مائة ألف بريطانى يقيمون فى الخارج.. كانوا يملكون منشآت
نفطية ومنتجعات ومستشفيات وغيره.. كانوا يودعون لدينا الرزم الصغيرة التى تقل عن
25 ألف استرلينى.. أما الإيداعات الكبرى فتذهب إلى حسابات شركات ائتمان سرية!!
عادة يزكى مستثمرى البيزنس الضخم غيرهم من المستثمرين الباحثين لأموال مشبوهة عن
ملاذ آمن.. بعضهم بدأ عاملا فى شركة شل بعاصمة إفريقية, وآخرين كانوا وزراء أو
مازالوا.. وبينهم أصحاب صالات قمار كبرى فى جنوب إفريقيا وغيرها.. كل ما علينا هو
أن نجمع إيداعات الأثرياء تلك, والقادمة من أنحاء العالم ونرسل الجزء الأكبر منها
إلى لندن لتغذى أرصدة بنوكها كل يوم"!!
الصورة تؤكد أن نظام "جيرسى" ديمقراطى.. وأن ما يحدث على
أرضها يحكمه القانون.. لكنه قانون "أوف شور" ويوضح ذلك "جون
كريستنسن" مستشار "جيرسى" الاقتصادى لأكثر من عشر سنوات - ما بين
1987 و1998 - فيقول: "حين كان يحدث شىء فى جيرسى يسبب إحراجا لبريطانيا.. يتم
عرض مسرحية الديمقراطية بتعديل قوانين أو استحداث قوانين جديدة.. ولا مانع من
معاقبة الهاموش من الفاسدين"!! وكان "كريستنسن" يزور
"لندن" مرة أو مرتين فى الشهر طوال فترة عمله لعرض أمور أو تلقى تعليمات
من حكومة جلالة الملكة.. وعادة كل هذا يحدث شفاهة.. لأن الجزيرة مستقلة وذات سيادة
وتفعل ما تريد!! المهم ألا يسببوا إحراجا للحكومة البريطانية أمام الاتحاد
الأوروبى.. وحين أصبح ضروريا التخلص من المشبوهين فى لندن بأموالهم, يتم إبعادهم
إلى "جيرسى"!!
بوضوح أكثر يقول "كريستنسن": "كنا نقوم بدور ورقة
التوت"!!
عاصمة "جيرسى" إسمها "سانت هليير" وهى مدينة
أصبحت جميلة, يستكع فيها المراهقون الذين يرتدون الأحدث فى عالم الموضة.. والمحلات
فى شارعها التجارى تضم أفرع "مارك أند سبنسر" و"ديكسون" وكل
ما يؤكد لك أنك فى حماية بريطانيا.. المهم أن يفقد الناس الذاكرة تجاه كلمة كريهة
هى.. "المعارضة"!!
ثم كانت "هونج كونج" التى ازدهرت جدا عام 1978, عندما
اتجهت "الصين" إلى سياسة "الباب المفتوح" ويتذكر "جاك
بلوم" الأمريكى الذى عمل فى مجال مكافحة جرائم المال: "أعدت بريطانيا
هونج كونج لتصبح عالما خاصا.. ونجحت التجربة لكنها أصبحت صداعا فى رأس الصين, لأن
كل فساد يظهر داخلها يتكشف أنه قادم من هونج كونج.. ومع ذلك فكل من بكين ولندن
حريصتين عليها"!! فأكبر بنك بريطانى وهو(اتش اس بى سى) قام بنقل مديره
التنفيذى من لندن إلى هونج كونج لتأكيد الوجود البريطانى هناك.. ورغم ذلك تراجعت
هونج كونج لتصبح لاعبا صغيرا فى عالم "أوف شور" باعتبار أن إيداعات غير
المقيمين فيها عام 2007 لم يتجاوز 149 مليار دولار.. وهذا يمثل جزء ضئيل مما هو
موجود فى "كايمان" والذى بلغ ترليون وسبعمائة مليار دولار - 1,7 تريليون
دولار - لكن الصين تحافظ عليها لتصبح آلة مالية فى استراتيجية الصين الطامحة لفرض
نفسها كقوة عظمى.
يحدثنا "باعة الأوهام" عن تجربة "سنغافورة"!!
تعالوا نتعرف على سر هذه التجربة, التى انطلقت عام 1968 وكانت جزا
من منطقة عمل الجنيه الاسترلينى.. ويحدثنا عنها "آندى ماكس" كبير
الاقتصاديين الآسيويين بمؤسسة "مورجان ستانلى" فيقول: "نجحت
سنغافورة لأنها تحولت إلى مركز غسيل أموال لرجال أعمال وساسة ووزراء فاسدين من
إندونيسيا.. إلى جانب تدفق أموال الصين إليها لمزاحمة بريطانيا على هذه
الأرض"!!
صحيح أن "سنغافورة" إنتقلت من الفقر إلى الغنى.
وصحيح أيضا أن "كايمان" و"جيرسى" اللذان لا
نسمع عنهما يتجاوزانها من حيث الثروة - الأموال - النائمة هناك!! وصحيح أن نموذج
"هونج كونج" يثير لعاب صغار الفاسدين وكبارهم.. لكنها ليست دولا.. كلهم
يلعبون "أوف شور" بلا صناعة أو زراعة.. لا يعيش على أراضيهم سوى بضع آلاف..
وما حققوه لا يغرى غير السذج والبلهاء والمغامرين سياسيا واقتصاديا.. وكذلك نموذج
"دبى" الذى يتم تسويقه على أنه "الجنة الموعودة" والحقيقة
التى يعلمها العالم أن كل هذه عناوين لعالم "أوف شور" لا نعلم كيف ستكون
فداحته!! لكننا نعلم حجم خطورته.. والدليل على ذلك تجربة رجل مال اسمه
"كورنفيلد" الذى ملأ الدنيا باخبار ثرائه الفاحش, لدرجة أنه امتلك بنوكا
فى "البهاما" "لوكسمبورج" و"سويسرا".. وحين ارتابت
فيه الحكومة الفرنسية تكشفت الحقائق.. فهو يقوم بتوظيف أموال لأكثر من اثنين ونصف
مليون من عسكريين أمريكيين وتجار بريطانيين.. ثم اتضح أنه شريك لرجل عصابات شهير
اسمه "ماير لانسكى" إستخدمه كمستودع لأمواله التى تتكاثر من صالات قمار
كبرى تخفى تجارة مخدرات وسلاح.
لا يجب أن يفوتك تعبير "توظيف أموال" الذى جربناه!!
عالم "أوف شور" هو عالم "مال فاسد" أى كان
مصدره.. لا علاقة له باقتصاد وبناء دول أو تنمية شعوب.. هو عالم يرفض الماضى ولا
يفكر فى مستقبل.. هو عالم الحاضر ولحظات حتى ولو حسبناها بالسنين.. إنه عالم
"مصاصى دم الشعوب" الذين يبيعون الأوهام والأكاذيب.. عالم لا يختلف عن
سحر المخدرات الذى يفضله المدمنين.. نجومه حولك فى مصر.. لا يمكن أن تضبطهم
متلبسين بإنشاء مصنع, أو استصلاح أرض للزراعة.. هم يسحقون الإنسان بدعوى صناعة
الرفاهية!!
عالم "أوف شور" يمكن أن يصنع من "العبيط"
محافظا لبنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى!!
القصة يرويها "مايكل هدسون" أحد أهم خبراء الاقتصاد فى
الولايات المتحدة الأمريكية.. وهو بدأ حياته العملية عام 1966 بالمقر الرئيسى لبنك
"تشيس مانهاتن" فى "نيويورك" وهو يقول أن مشواره فى العمل
المصرفى كان صدفة, بعد أن درس الاقتصاد بجامعة نيويورك.. وتدرج فى عمله حتى أصبح
واحدا من أهم الخبراء الذين يتم الحديث عنهم باحترام وتقدير شديدين.. وهو الذى قال
أنه خلال فترة عمله ببنك "تشيس مانهاتن" عمل معه شخصا كريها اسمه
"آلان جرينسبان" ظهر أنه يريد أن يتعلم.. لكنه لا يبحث عن العلم.. كان
يبحث عن خداع العلم والتحايل.. إجتهدت لأعلمه.. لكن عقله كان يفكر فى أشياء أخرى
غير العلم.. أرهقنى وأزعجنى جدا.. تخلصت منه وفصلته.. أصبح فيما بعد "محافظا
لبنك الاحتياطى الفيدرالى"!!
كيف؟! الإجابة ستبقى سرا.
لماذا؟! لأنه تعلق بسحر عالم "أوف شور" وتقرب من رجاله
الذين وجدوا فيه ضالتهم.. رفعوه لأعلى وفق القانون الذى يجعل "ثمار
التنمية" تصعد لأعلى!!
ليست صدفة أن تصبح مليونيرا.. ليست صدفة أن تصبح سياسيا.. ليست
صدفة أن تكون "نجما مفبركا" فى السينما والإعلام.. فهذا عالم "أوف
شور" الذى تحكمه قوانين خاصة جدا لعلى أوضحت ملامحها.. ومازالت هناك تفاصيل
أخرى..
يتبع
0 تعليقات