نصر القفاص
الحصان والعصفور
سرقة ثروات الشعوب
أصبح اسمها "صناعة المال" وبتعبير آخر "صناعة الخدمات المالية"
ويحدث ذلك داخل نظام له اسم غامض.. مثير.. يبدو أحيانا ساحر.. سمعنا فى مصر اسم
هذا النظام بكثافة عقب ما حدث فى "25 يناير" التى يسميها الدستور "ثورة"
وتردد الحديث عنه كثيرا دون شرح أو خوض فى سيرته.. ربما من باب الحرص على أغراض
اللصوص والفاسدين!!
إنه عالم "أوف
شور" الذى يتسلل لإغراق دول عريقة فى "بانيو" كما قال أحد كبار
الذين صاغوا النظرية وأرسوا قواعد هذا النظام.. ورغم تكاثر عدد مراكز هذا "الأوف
شور" إلا أن تاريخه يقول أنه اختراع "بريطاني" واشتهرت به "سويسرا"
ثم أصبحت "الولايات المتحدة الأمريكية" فى صدارته الذين يديرون شبكاته
على مستوى العالم.. وهو عالم يتطور بسرعة أكبر من تكاثره.. وتشرح "جزر البهاما"
النسخة الأحدث فى تطور هذا "اللقيط"!!
ذاع صيت "جزر
البهاما" حين سمعنا عن "بنك التقوى" لصاحبه ومؤسسه "يوسف ندا"
أحد أهم قيادات جماعة "الإخوان" الإرهابية, والقائم حاليا بأعمال ما
يسمى "المرشد العام" وهو بريطاني الجنسية من أصل مصرى.. يسكن تلك الجزر
مائتين وخمسين ألف نسمة, وتتفاوت التقديرات حول المليارات من الدولارات التى تنام
هناك!! ويحكمها "قانون الصمت" الذى عليك الالتزام به, وإلا تم دفنك فى
صبة اسمنت لأحدث مبنى يتم إنشاؤه!!
أباطرة تلك الجزر هم "رجال
مال" معظمهم كانوا ساسة بدرجة وزير أو حتى رئيس دولة..
تؤكد ذلك مذكرة صدرت
عن بنك "ريجز" وكشفتها لجنة تقصى الحقائق الأمريكية.. كانت المذكرة
تتناول شركة استثمارات خاصة فى "البهاما" ومالكها يشار إليه بأنه مهنى
متقاعد حقق نجاحا كبيرا خلال مشوار حياته الوظيفية.. وراكم ثروة تمكنه من التقاعد
المريح.. كان هذا "المهنى المتقاعد" هو نفسه ديكتاتور "شيلى" الشهير
"أوجست بينوشيه"!! أما العشرات أو المئات الذين لم يتم كشفهم فلا تسأل
عنهم.. وإذا حدث وتكلم مصرفى من القائمين على إدارة تلك الصناعة.. سيكون مصيره كما
حدث للسويسرى "فريدريك بيسى" الذى وجدوه ميتا فى شنطة سيارة محترقة, وعلى
جسده آثار إصابات بآلات حادة!!
تتميز "جزر
البهاما" بأنها تقيم كرنفالات سياحية وثقافية وفنية.. أرجوك لا تقارنها بهذا
المنتجع أو ذاك فى العالم العربى أو مصر تحديدا!! وتتميز - أيضا - بشواطىء للعراه
من الجنسين.. ويميزها أنها شهدت أحدث تطوير فى نظم "أوف شور" فيما يسمى
بالبنوك الاعتبارية.. وهى بنوك افتراضية يتم تأسيسها هناك, أما إدارتها فتتم من
المكان الذى يختاره المالك أو المدير.. ويقول أحد ملاك هذه البنوك: "إن بنكنا
يكون حيثما أكون فى أى وقت"!! وإذا حدث وانهارت أو أفلست مثل هذه البنوك, فلا
يملك مودعيه غير الصمت والبكاء.. وأحيانا يموت البعض حسب ضخامة المبلغ!!
بسبب تكرار حالات
الإفلاس.. وبسبب أحداث 11 سبتمبر, تم إدخال تعديل على قوانين البنوك الاعتبارية
بأن أصبح مفروضا عليها أن يكون لها مقر ويديرها مصرفى رفيع المستوى ومحاسب.. وفرض
القانون ضرورة وجود سجلات فى المقر.. هذا يعنى أن تجد غرفة بفندق أو جناح يقيم به
شخصين أو ثلاثة.. وهذا مقر البنك.. وظيفة هذه البنوك مساعدة كبار اللصوص وتجار
المخدرات والسلاح والدعارة ونقل الأعضاء فى غسل أموالهم القذرة.. وقد تساعدك على
التحايل على قوانين بلادك بأشكال متعددة.. ولا تندهش إذا شاهدت حقائب ملابس محشوة
بالدولارات, تنتظر شحنها إلى حيث الجهة المطلوب ذهابها إليها.. غالبا ستكون إلى
بريطانيا أو أمريكا.
تحدثت واحدة من الذين
عملوا فى هذه البنوك, فقالت: "كنت أشعر بالعهر لجلب الأموال إلى البنك, خاصة
عندما عرفت أن عملى هذا يسهم فى استدامة الفقر بدول كثيرة.. شعرت بأننى مارست عملا
قذرا, جعلنى أعيش حالة قرف من نفسى.. كنت أشاهد حفلات البذخ التى تنظمها عائلات
ملكية ورجال مال أباطرة فى دولهم الفقيرة.. وما أزعجنى هو أننى لم أستطع إخبار
خطيبى بطبيعة وظيفتى, لالتزامى بقانون الصمت.. عشت فى خوف ورعب دائمين, وعندما
قررت أن أترك البهاما تلقيت عروضا للعمل فى مناطق أوف شور أخرى.. لكننى كنت قد
قررت أن أستعيد إنسانيتى"!!
يجب أن نعلم عن "أوف
شور" أنه لم يعد مجرد نظام مصرفى أو بنكى.
أصبح "أوف شور"
نظاما مجتمعيا يجب أن يدافع عنه المستفيدون منه.
لا تتحدث عن ضمير.. دعك
من حكاية الأخلاق.. يجب أن تؤمن بخطورة الديمقراطية وتدخل الشعوب فى إدارة شئون
البلاد.. عليك أن تفكر فى الفيلا الأكبر والسيارة الأحدث, وأنواع الساعات الأفخم
التى تزين بها معصمك.. يجب أن تتميز بعدد من الفاتنات يحطن بك, وتعرف أرقى أنواع
السيجار والخمور.. تحدث دائما عن رحلاتك للمدن والعواصم والشواطىء السياحية وكم
أنفقت خلال زيارتك لها.. كل ذلك وصفه "كريستنسن" الذى عمل كمستشار
اقتصادى لواحدة من الشركات, لكى يتولى عمليات التلاعب فى الفواتير والمستندات التى
تخفى الأموال خلال عمليات نقل الأموال من مصادرها إلى واحدة من مراكز أو مجتمعات "أوف
شور" الجديدة.. وتقدر "منظمة النزاهة الأمريكية" بواشنطن أن هذا
التخصص وحده يستنزف مائة مليار دولار سنويا من الدول الفقيرة!!
ويتم تبرير هذا
النشاط بأنه يحمى أصحاب الأموال من المخاطر السياسية وعدم استقرار العملة فى
البلدان المتخلفة.. هكذا يطلقون على الدول التى يسرقونها.. لأن شعوبها لا تحب
العمل وتفضل أن تعيش على الفساد.. وإذا كانت الأموال تتدفق على مجتمعات "أوف
شور" كالأنهار, فإن الدول المتقدمة تدفع معونات لتلك الدول التى تستهلك وقتها
فى ممارسة أوهام الديمقراطية!! وهم يرون أن تلك الديمقراطية تعنى طغيان الجماهير, فالدول
التى تقاسم الأثرياء فى ثرواتهم باقتطاع الضرائب منهم هى "دول غير شرعية"
مثل المانيا وفرنسا وإيطاليا.. وغيرها.. لأن التهرب الضريبى هنا يعتبر دفاعا
مشروعا عن الحقوق, ضد هؤلاء الذين يفكرون فى العدالة الاجتماعية بما يترتب على ذلك
من سياسات وقوانين.
مجتمع "أوف شور"
يكره الديمقراطية والقوانين والضرائب والفقراء!
تلك النخبة التى تعيش
فى هذا المجتمع تضم بقايا الطبقة الارستقراطية فى أوروبا.. أعضاء سابقون فى أجهزة
مخابرات مختلفة.. أثرياء يجيدون صناعة المال.. ساسة سابقون حققوا ثروات بلا حدود
من مناصبهم.. عدد كبير من سماسرة العقارات والمصرفيين, وفاتنات من كل دول العالم..
وإذا لم يعجب أحد يقيم فى مجتمع "أوف شور" ما يدور حوله, عليه أن يرحل
إلى حيث يريد.. المهم ألا يرفع صوته منتقدا, أو مطالبا بإصلاح, فتلك وظيفة الحاكم
والذين حوله.. فلا تزعجهم وتشغلهم بالثرثرة!! وفى هذا المجتمع يطلقون على من يحاول
التدخل فى عمل الحاكم بأنه "عدو المجتمع" ويستحق أن تدمر سمعته وسائل
الإعلام المملوكة "للأثرياء اللصوص" وتشمل قائمة الاتهامات لتدمير سمعة
من يريدون, أنه جاهل بشئون الاقتصاد.. متآمر.. خائن.. غادر.. مختل عقليا.. منحرف
أخلاقيا. ويتناول ذلك "مارك هامبتون" أستاذ الإعلام بجامعة "بورتموث"
حين قال أنه تناول بعض الأوضاع التى شاهدها فى "جيرسى" خلال محاضرة له
بالجامعة, فانفجرت فى وجهه الاتهامات والبذاءات والملاحقات القضائية.. وقالوا عنه
أنه يحمل دكتوراه مشبوهة وزائفة.. وأنه مدع وتافه.. أبلغوه أنه غير مرحب به فى
مجتمعهم!
كل هذه الجزر تخضع
للتاج البريطانى.. تجد فيها شكل العمارة البريطانية, ونمط الحياة الانجليزى واللغة
أيضا.. لكنها لا علاقة لها بما يحدث فى بريطانيا كمجتمع.. فالسياسى فى مجتمع "أوف
شور" يمارس النصب والكذب والنفاق والابتزاز لصالح البيزنس.. فهم يرون فى
أنفسهم حراس بوابات بيزنس "صناعة المال"" وكلهم يشغلون مناصب فى
شركات وبنوك يفترض فيهم أنهم يصيغون قوانين تنظيم عملها.. وإذا حدثتهم عن الفقراء
فى المجتمع الذى يمثلون, سيردون عليك بنظرية "الحصان والعصفور" التى
تقوم على أنك إذا وضعت أمام الحصان كمية كبيرة من الحبوب, سيبعثر خلال تناولها
كمية من هذه الحبوب.. تستطيع العصافير أن تلتقطها!! هم يرون أن المجتمع مثل الفندق,
فيه نزلاء وهؤلاء يدفعون ثمن الإقامة.. وهناك عشرات يخدمون النزلاء ويحصلون على
مرتبات.. ولو غاب النزلاء سيعانى من يخدمون البطالة ويتعرضون للجوع!!
صناعة المال تقتل
الأخلاق والشجاعة والإنسانية
يقول "رودولف
إلمر" وهو مصرفى سويسرى عمل فى عدة بنوك بمجتمعات "أوف شور" أنه
تحدث فى إحدى المرات محذرا من خطورة هذا النظام على دول العالم.. "فوجئت
بعدها بأن هناك من يتبعوننى فى كل مكان.. كنت أراهم يرصدون طفلتى فى مدرستها.. أثاروا
ذعر زوجتى بمراقبتهم لها.. كنت أجد سيارة تطاردنى حينما أقود سيارتى مع أسرتى.. إستمرت
هذه الحالة لما يقرب العامين, لدرجة أننى فكرت فى الانتحار لأن الشرطة أبلغتنى
أنها لا تملك أن تقدم لى شيئا.. أدركت حينها أننى كنت ساذجا حين تكلمت معتقدا أننى
فى سويسرا!! حدث ذلك خلال عملى فى جيرسى"!!
حتى "الولايات
المتحدة الأمريكية" راعية الديمقراطية طورت فى نظام "أوف شور" بقوة
رجال المال والأثرياء فيها.. صنعت لنفسها مجتمع "أوف شور" فى ولاية "ديلاور"
لنجد أنفسنا بالفعل أمام نمط الاستعمار الجديد.. تمت تجربته وتطويره فى جزر هنا
وهناك, واتجه القائمين عليه إلى محاولة تعميمه ونشره وضرب فكرة الدول القومية.. والمدهش
أنهم يعلنون أن التجربة نجحت فى "سنغافورة" و"هونج كونج" و"دبى"
و"الدوحة" و"البحرين".. وجاءت "السعودية" إلى
الطريق نفسه.. إضافة إلى دول فى إفريقيا منها "ليبيريا" و"موريشيوس"
و"الصومال" و"أنجولا" و"رواندا".. وجارى تقديم
نموذج فى دول كبرى بآسيا وإفريقيا!!
يروى "جون
كريستنسن" أنه كان يتحدث فى محاضرة داخل مجلس الشيوخ الأمريكى, عن مجتمع "أوف
شور" وخطورته فى المستقبل الذى بات قريبا.. "فوجئت بواحدة من كبار
العاملات بالكونجرس تقترب منى, وعينيها تفيض بالدموع نتيجة ما سمعته.. ثم قالت لى:
إننى مشغولة بهذا الملف بحكم عملى, وكلما حاولت أن أشرح خطورته للذين حولى.. أجدهم
منصرفين ويسخرون مما أقول, رغم أنه واقع وحياة على مقربة من بلادى.. بل أصبح داخل
بلادى"!! ففى الولايات المتحدة دفع كبار الأثرياء ونسبتهم 1% - واحد بالمائة -
أربعين فى المائة من مجموع الضرائب الفيدرالية.. لكنهم لا يقولون أنهم يملكون نصف
الأصول فى البلاد.. ففى أمريكا 400 من كبار الأثريا يفرضون تخفيض الضرائب بدعوى
تشجيع الاستثمار.. أو يرحلون بأموالهم إلى الصين!!
أتناول تطورا يحدث فى
الدنيا, ويتم التعتيم عليه بتسريب نمطه إلى مجتمعاتنا.. وحين يقرأ أولئك الذين
يبحثون عن فرصة فساد عبر "النفاق", لا يجدون غير أن يمارسوا سلوك مجتمع "أوف
شور" فيقولون لك.. هذا إسقاط!!..
يتبع
0 تعليقات