نصر القفاص
يقولون فى الغرب منذ سنوات أن الأمم التى لا
تفهم "الأوف شور" لا يمكن أن تعرف كيف يتم نهب ثرواتها!! ويعرفون هناك
أيضا أن "الأوف شور" أصبح نظاما يفرض على المجتمعات والساسة الغرق فى
مستنقعاته!!
فى واحد من أهم الكتب التى صدرت فى أمريكا, تستطيع
أن تفهم تفاصيلا أكثر عن "الاغتيال الاقتصادى للأمم" ومؤلفه هو "جون
بركنز" الذى لم يتحرج من القول عن نفسه أنه كان "قرصانا اقتصاديا" شارك
فى نهب ثروات دول وتدمير اقتصادات دول عديدة!! ولعل أهم فصول كتابه الذى نشرته فى
مصر "دار الطنانى للنشر" وقدم له واحد من أبرز وأهم خبراء الاقتصاد
المعروفين وهو الدكتور "شريف دولار" واطلع على ذلك الفصل الخاص بالمملكة
العربية السعودية وكيف تمت عمليات غسيل أموال لها وعبرها!!
يروى المؤلف – جون بركنز – رحلته مع آخرين من
فرق المستشارين, لوضع تصورات لكيفية نزح ثرواتها بعد رفع أسعار البترول كنتيجة
لحرب اكتوبر 1973.. فيقول: "أطلقت كل من مصر وسوريا هجماتهم المتزامنة على
إسرائيل يوم 6 اكتوبر.. فكانت رابع الحروب العربية الإسرائيلية وأكثرها فداحة.. تلك
الحرب تركت أكبر الأثر على العالم" ومضى يشرح تفاصيل استخدام النفط كسلاح فى
الحرب.. وظل استخدام هذا السلاح يتصاعد فى خطورته, خاصة بعد أن طلب الرئيس
الأمريكى "نيكسون" مبلغ 2,2 مليار دولار من الكونجرس كمساعدة لإسرائيل
يوم 18 اكتوبر 1973.. وتمكنت الولايات المتحدة من إنهاء الحظر يوم 18 مارس 1974, وترتب
على ذلك أن قفز سعر برميل النفط من 1,39 دولار إلى 8,32 دولار فى أول يناير 1974..
أدى ذلك إلى صدمة عنيفة فى الغرب, جعلت الحكومات الغربية تعقد العزم على ألا تترك
الأمور لكى تتكرر تلك الكارثة.. عليهم..!!
ماذا كان قرار الولايات المتحدة وعواصم
الغرب؟!
إتفقوا على السعى لأن يحكم دول الشرق الأوسط
ثلاثة قوى, ولا تترك دولة لأن تحكمها قدراتها الذاتية.. يجب أن تحكم كل دولة
حكومتها بالشراكة مع البنوك الدولية والشركات متعددة الجنسيات.. أطلقت "واشنطن"
شركاتها الكبرى على السعودية ودول الخليج, لاستعادة ما خسرته اقتصاديا خلال حرب
اكتوبر.. وحتى تضمن عدم تكرار ما حدث.. وهنا يقول المؤلف: "أما بالنسبة
للسعودية فإن العائدات الإضافية التى حصلت عليها نتيجة ارتفاع سعر البترول.. فقد
كانت نعمة تشبه النقمة, لأن خزائن الدولة امتلأت بالمليارات لتفعل الكثير فى
المجتمع والمنطقة"!!
قدمت "واشنطن" عرضا بنقل السعودية
إلى آفاق القرن العشرين.. كيف؟!
تم الاتفاق على إنشاء "وكالة التنمية"
الأكثر غرابة فى التاريخ.. حسب وصف المؤلف.. وهى عبارة عن لجنة أمريكية – سعودية
للتعاون الاقتصادى, تقوم بتقديم التمويل للشركات الأمريكية لكى تبنى السعودية.. الغريب
جدا فى الاتفاق أن الإدارة كلها والمسئولية كاملة تتولاها وزارة الخزانة الأمريكية..
والأغرب أن تفاصيل إنفاق المليارات السعودية لا تخضع لرقابة الكونجرس باعتبارها
أموالا غير أمريكية!!
وثيقة اتفاق اللجنة السعودية – الأمريكية
للتعاون الاقتصادى, كانت شديدة السرية.. تم رفع الحظر عن سريتها, ليتولى دراستها
والتعليق عليها خبراء الاقتصاد.. فوصفها كل من "ديفيد هولدين" و"ريتشارد
جونز" نصا بأنها: "الاتفاقية الأغرب من نوعها فى تاريخ الولايات المتحدة
الأمريكية مع بلد نام.. رغم أنها وسعت إمكانيات تدخل أمريكا فى الشأن السعودى"
وبمجرد توقيع الاتفاقية لجأت وزارة الخزانة الأمريكية إلى تدوير عجلات الشركات
الأمريكية, وراحت تطلقها على هذا الكنز الجديد!! ومنذ اللحظة الأولى كان "جون
بركنز" مؤلف "الاغتيال الاقتصادى" موجودا كخبير يعمل لصالح شركة "مين"
الذى فوجىء بالتشديد عليه أن يكون عمله سريا كما لو كان عملا محظورا.. فيشرح أنه
وضع سيناريوهات "النهب المنظم" لثروات السعودية ويقول: "وجهت
باستثمار مبالغ طائلة فى تطوير البنية التحتية.. كان مطلوبا منى أن أفسح المجال
وأفتح الطريق لشركات الهندسة والبناء الأمريكية, ليتمكن الجميع من استنزاف أكبر
قدر وبأقصى سرعة للثروة المتدفقة.. كان مطلوبا أن نبدع لإعادة ما تدفعه الولايات
المتحدة كثمن للنفط.. يحدث ذلك بأن نجعل اقتصادها يزداد تشابكا وخضوعا لمصالحنا, وكلما
جعلناهم يقلدوننا اقتصاديا تزداد تبعيتهم لنظامنا"!!
بهذا الوضوح يشرح مؤلف كتاب "الاغتيال
الاقتصادى" الذى ذكرت جريدة "نيويورك تايمز" أنه كان الأكثر مبيعا
وتوزيعا فى الولايات المتحدة وعواصم أوروبا.. أى أن كل من أراد أن يعرف تفاصيل ما
تفعله "واشنطن" من جرائم إطلع عليه.. لكنه بقى سرا فى معظم – إن لم يكن
كل – العواصم العربية.. وما يثير ذهولك أن الدول التى ترجمت ونشرت الكتاب, تم
التعتيم عليه بطرق ووسائل كثيرة لأسباب قد يكون آخرها مجاملة السعودية!!
يكشف المؤلف عن أن البداية السريعة, كانت
باستخدام شركات أمريكية لجمع القمامة وتدوير المخلفات بأحدث الطرق التكنولوجية.. ثم
التوسع فى إقامة محطات توليد الطاقة الكهربائية, وخلق مناطق عمرانية جديدة وحديثة..
ثم إنشاء طرق سريعة وشبكات مواصلات تتطلب بناء مطارات جديدة, إضافة إلى تطوير
موانىء قائمة مع إنشاء موانىء جديدة.. يقول: "كنا نعرف أن ما نفعله سيكون
سحرا, يجعل السعوديون يجوبون العالم فخورين بما يحدث على أرضهم.. بل أنه يجعل قادة
السعودية يدعون زعماء الدنيا ليشهدوا المعجزات التى تتحقق.. وكنا نضع فى اعتبارنا
أن ذلك سيجعل حكاما لدول أخرى يطلبون مساعدتنا للنهوض ببلادهم كما فعلنا مع
السعودية.. وكنا نعلم أن الدول التى سيبهرها ما نفعل, ليس ضروريا أن تكون نفطية
وأولئك يتجه إليهم البنك الدولى بترتيبات تثقل كاهلهم لتمويل خطط التنمية – الساذجة
– وذلك كله يصب لصالح الإمبراطورية العالمية"!!
أعرف أن الذين يخافون المعلومات, يصيبهم
الذعر.. وأعلم أن الذين يرون فى الفهم والمعرفة رجس من عمل الشيطان, سينفجرون
باندفاع نحو تأويل ما أعرضه.. بل لا أستبعد أن يقوم بعضهم بكتابة بلاغات لأجهزة
أمنية للتحذير من خطورة تلك المعلومات.. هؤلاء يفرضون سطوة جهلهم ونفاقهم, باسم
الدفاع عن مصر والحرص عليها.. مع أن الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وغيرها
من الدول الكبرى, تقدمت لأنهم تخلصوا من هذا "الهاموش" ولأنهم فتحوا
أبواب المعرفة ونوافذ الفهم.. ولا تسمع عندهم من يصرخ بالصوت الحيانى, ويلطم وجهه
بقول "دول عايزين يهدوا أمريكا" أو "يهدوا بريطانيا" لأن هذه
المجتمعات تقوم على العلم والمعلومات والفهم والإبداع.. وهى عند المعتصمين بالجهل,
والذين يمارسون "النفاق" على أنه حرفة وهواية.. كفر والعياذ بالله!!
تفرض على الكاتب تلك الذبابات نفسها, فيضطر
لأن يهشها.. ثم يستأنف عرض المعلومات.. وما أعرضه هو نقلا عن خبير أمريكى.. نشر
كتابه فى أمريكا, لكى يفضح جرائم أمريكا وحكامها.. وأعود إليه ليقول: "رأينا
ضرورة استقدام عمالة من دول أخرى شريطة أن تكون رخيصة, وركزنا على باكستان واليمن
وفلسطين ومصر.. وكان ذلك يعنى بناء مساكن وإنشاء مرافق تخدمهم.. إضافة إلى إنشاء
أسواق كبيرة تستوعب طلبهم ومستشفيات تعالجهم وغيرها من المرافق الضرورية التى
تنفذها شركات أمريكية وغربية.. فهذه دولة متخلفة تماما تمتلك ثروات بلا حدود.. وكان
ضروريا أن نقدم لهم خطط تحديث وصيانة لكل ما يتم إنشاؤه بما يفرض استعانة بشركات
إدارة أمريكية.. وكنا نعلم أن ذلك سيترتب عليه صناعة أمن شبه الجزيرة العربية, بما
يعنى عقود للشركات المتخصصة فى الصناعات العسكرية تابعة للجيش الأمريكى"!!
يقدم المؤلف "القرصان الاقتصادى" تفاصيلا
مذهلة, بأسلوب شديد البساطة ولغة متدفقة.. لأنه كان يمارس نوعا من أنواع "التطهر"
لأنه شارك فى ارتكاب هذه الجرائم الأمريكية بنهب ثروات دول فقيرة, ورهن قرارها
وسيادتها فى "خزنة" سيد البيت الأبيض!! ويقول: "كنا نسمى عملنا
عمليات غسيل أموال السعودية!! وذلك جعل أحد كبار المسئولين حولى يبتكر جملة كنا
نرددها فيما بعد حين نتحدث عن المملكة فنقول: إنها البقرة التى يمكننا أن نحلبها
حتى بلوغنا سن التقاعد"!!
التعبير نفسه.. الألفاظ ذاتها.. قالها
الدكتور "عبد الجليل العمرى" عن الاقتصاد المصرى خلال سنوات الاستعمار
الانجليزى.. الفارق الوحيد أن الاستعمار زمان كانت له تكلفة مالية وإنسانية وبشرية
عالية.. أما الاستعمار الحديث فهو لا يكلف شيئا.. فهذا الاستعمار يقوم على رافعة "أوف
شور" و"رجال مال"!!
يمضى المؤلف فى كتابه فيقول: "بدأ الشك
يساورنى فى أن حظر بيع البترول عام 1973 لم يكن شرا كله.. إذ انتهى المطاف بمنح
شركات الهندسة والبناء والخدمات والتسليح الأمريكية أرباحا طائلة غير متوقعة.. كل
ذلك ساعد على المدى الأبعد فى تمهيد السبيل نحو الإمبراطورية العالمية.. وأرادت
واشنطن أن يتعهد السعوديون بضمان إمدادهم بالبترول وأن تكون الأسعار فى مستويات
تتذبذب فى حدود مقبولة من الولايات المتحدة وحلفائها, مقابل أن تضمن استقرارا
لنظام الحكم"!!
كانت صفقة لا تتطلب موافقة أو تدخل الكونجرس.
وصف الصفقة "توماس ويبمان" الأستاذ
المساعد فى معهد الشرق الأوسط تلك الصفقة بقوله: "السعوديون قوم يسبحون فى
المال, وسيوردون الدولارات إلى وزارة الخزانة الأمريكية, التى ستحجز هذه الدولارات
فى البنوك لحين الحاجة إليها للدفع إلى الموردين والموظفين.. وذلك يضمن تدوير
أموال السعودية للعمل فى عجلة الاقتصاد الأمريكى"
تلك كانت "صفقة القرن" العشرين
كمقدمة لصفقة القرن الواحد والعشرين.. وتعمدت إهمال ما كتبه المؤلف عن الفضائح
الأخلاقية التى واكبت الصفقة, لدرجة اعترافه بأنه اضطر أن يعمل "قوادا"!!..
يتبع
0 تعليقات