صبحى شحاتة
دخلنا الشقة الفتاة في المقدمة وأنا في أثرها والبواب يتبعنا حاملا
الحقيبة الفتاة علي صلة بي مؤكدة ولكنهاغير محددة، تركنا ترتيب الأشياء ودلفت إلي
الغرفة المطلة علي البحر سابحا في آفاقه غير المحدودة منتعشا بهواءه الرطيب منتشيا
بهديره المتقطع، وإذا بصرخة تنطلق من الداخل فهرعت نحوها فرأيت الفتاة منكمشة
مزعورة والنار تشتعل في أعلي الباب وقبل أن أفيق من الصدمة دخل رجل صلب الملامح
كأنما قدت من صخر وبإشارة من يده انطفأت النار وتحول ذاهبا وهو يقول:
ربما انقطعت المياة بعض الوقت.
وغمرني الارتياح فلم أبال بشيء.
غادرت الغرفة قاصدا السوبر ماركت لأبتاع بعض التموين المناسب، ولما
رجعت وجدت باب الشقة مفتوحا والبواب واقفا فدخلت إلي الحجرة قلقا فوجدتها عارية
إلا من بقجة منفتحة بالملابس ملقاة علي الأرض وذراع بيجامتي يتدلي من فتحة في
رابطتها ولا أثر للفتاة فسألت: ماذا جري؟
فأجابني البواب: حضرتك أخطأت الطريق وهذه ليست شقتك.
فأشرت إلي ذراع البيجاما وقلت: هذه بيجامتي.
فقال الرجل بهدوء: يوجد من نوعها آلاف في السوق.
وملت إلي الاعتقاد بالخطأ متذكرا أنه توجد ثلاث عمارات متشابهة في
صف واحد، وهبطت السلم بسرعة، وفي الطريق رأيت الفتاة في طرفه المفضي إلي ميدان
مكتظ بالسيارات والبشر، وجريت نحوها حتي أدركها قبل أن تذوب في الزحام.
*
التفسير
لا شك أن رسالة الحلم الجميل المبدع هذا تتعلق بعمل روائي يكتبه
نجيب محفوظ، لكن العمل في البدايات، ومحفوظ مشغول بفكرته وبدايات عمله، حتي القلق
الشديد من ضياع الفكرة وعدم اكتمال العمل.
معروف في الأساطير اليونانية أن للإبداع آلهات كثيرة، كل إلهة تمثل
مرحلة من مراحله، أنهن ما يطلق عليهن بنات الإبداع، وأظن بقوة أن الصورة البدئية
الأولي المستقرة في اللاوعي الجمعي للإبداع، هي صورة أنثي جميلة منجبة، ومن ثم
تصير في اللاوعي الخاص، صورة الفكرة الإبداعية: فتاة/ بنت من بنات الإبداع.
في الحلم البديع هذا تقود فتاة الإبداع الحالم محفوظ إلي شقة جديدة
بعمارة، ومعروف عن محفوظ أنه بناء روائي ماهر.. محفوظ إذن لديه فكرة جديدة يتبعها
ويريد كتابتها/ رواية، ورغم أن الفتاة/ الفكرة علي صلة مؤكدة به، إلا أنها غير
محددة.
"دخلنا الشقة الفتاة في المقدمة وأنا في أثرها والبواب يتبعنا
حاملا الحقيبة الفتاة علي صلة بي مؤكدة ولكنها غير محددة، تركنا ترتيب الأشياء
ودلفت إلي الغرفة المطلة علي البحر سابحا في آفاقه غير المحدودة منتعشا بهواءه
الرطيب منتشيا بهديره المتقطع".
سارع الحالم الكاتب إذن إلي غرفة الخيال متعجلا مليئا بالمشاعر
القوية يريد تأمل عالمه الجديد، وهو عالم شعري قوامه البحر وهديره المتقطع، والبحر
دلالة علي الشعر والفن عموما، وعلي إيقاعات السرد وموسيقي العمل الداخلية، وأثناء
ذلك أهمل الحالم ترتيب الأشياء، أي النظام والبدايات والمقدمات، ما يعني أن الكاتب
محفوظ كان ملهوفا متعجلا مشاعره تسبق عقله.
"وإذا بصرخة تنطلق من الداخل فهرعت نحوها فرأيت الفتاة منكمشة
مزعورة والنار تشتعل في أعلي الباب".
هكذا ما تركه خلفة من فوضي أدي إلي إشعال حريق في الباب/ البداية
التمهيد والمقدمة، المشاعر المشتعلة تأججت هناك ليس أسفل الباب وإنما اعلاه، كأنها
صاعقة زيوس المنتقم.
"وقبل أن أفيق من الصدمة دخل رجل صلب الملامح كأنما قدت من
صخر وبإشارة من يده انطفأت النار وتحول ذاهبا وهو يقول:
ربما انقطعت المياة بعض الوقت.
وغمرني الارتياح فلم أبال بشيء".
الرجل الصلب، دلالة علي حضور العقل القوي المنظم المرتب البارد،
إنه أبولو إله الأعالي الباردة والتأمل العقلاني، الذي يبرّد المشاعر ويضبط
الفوضي؟، ونحن نعرف حب محفوظ للنظام والترتيب ووضع كل شيء أمامه في نظام واضح..
هكذا أعاد العقل النظام واطفأ النار/ المشاعر.
لكن الفكرة غير المحددة في بدايات تكونها ولم تنضج بعد، وترمز لها
الفتاة الصامتة التي أفزعها الحريق، وعدم الترتيب وانشغال الحالم عنها ببحر إبداعه
الصاخب.. لم تكن تشعر بالاستقرار.
"غادرت الغرفة قاصدا السوبر ماركت لأبتاع بعض التموين
المناسب، ولما رجعت وجدت باب الشقة مفتوحا والبواب واقفا فدخلت إلي الحجرة قلقا
فوجدتها عارية إلا من بقجة منفتحة بالملابس ملقاة علي الأرض وذراع بيجامتي يتدلي
من فتحة في رابطتها ولا أثر للفتاة فسألت: ماذا جري؟
فأجابني البواب: حضرتك أخطأت الطريق وهذه ليست شقتك
فأشرت إلي ذراع البيجاما وقلت: هذه بيجامتي
فقال الرجل بهدوء: يوجد من نوعها آلاف في السوق.
وملت إلي الاعتقاد بالخطأ متذكرا أنه توجد ثلاث عمارات متشابهة في
صف واحد".
هكذا أدرك الحالم محفوظ إن الشقة/ الرواية التي دخلها ليست أصلية
ولا خاصة به، وإنما هي شبيهة بشقق أخري، في عمارات ثلاث متشابهة، وحتي ملابسه
الداخلية، أي اللغة الخاصة والتشكيل السردي البصري، التي ترمز لها البيجامة، ليست
مناسبة للسكني في هذه الشقة/ الرواية، ليست أصيله وإنما هي متشابهة مع لغات
الخارج، وأن مشاعرة أكبر من معطيات المكان/ الرواية، وتتناقض معها وزائدة عليها.
"وهبطت السلم بسرعة، وفي الطريق رأيت الفتاة في طرفه المفضي
إلي ميدان مكتظ بالسيارات والبشر، وجريت نحوها حتي أدركها قبل أن تذوب في الزحام.
هكذا غادر الحالم محفوظ الكاتب الشقة الزائفة أو الرواية غير
الأصيلة والمتشابهة مع غيرها في السوق، وانطلق وراء فكرته/ فتاة إبداعه في الزحام
يبحث عنها مرة أخري، لتقوده إلي مكان/ رواية تخصه هو، يكون عالمها فريدا رائدا كما
تعود..
تقول رسالة الحلم إذن لمحفوظ: أن الرواية التي يقوم بكتابتها الآن،
ليست حقيقية فمقوماتها كلها زائفة : فتاة غائمة، وشقة شبيهة، وبيجامة شبيه، ولا
يوجد شيء أصلي، والباب/ البداية عرضة للصواعق/ المشاعر الملتهبة الزائدة، ولا يوجد
ماء يبرد ويرطب..
كأن محفوظ كانت لديه رغبة عارمة بالكتابة، لكن لم يكن يملك فكرة
يطمأن إليها، ولا وجد بداية مناسبة، لتسكين الفكرة بداخل نص قوي، كما اعتاد فانهكه
التعب ونام.. فإذا بالحلم يكشف له كل شيء .. فأذا هو لا يوجد في الأصلي الحقيقي،
وإنما في الشبيه، وعليه الانتباه حتي لايبدد جهوده سدي..
هكذا نري كيف يشارك اللاوعي من خلال الحلم الوعي ويصوبه ويغنيه،
ولا شك أن الأحلام تعطينا فكرة قوية، كيف كان إبداع محفوظ صعبا عليه يؤرقه ليل
نهار وأنه لم يكن في نزهة.
أحلام فترة النقاهة.. حلم ، ومحاولة تفسيره (1)
0 تعليقات